خطبة عن (دروسٌ مِن سُورةِ الفاتِحَة: الهِدايَةُ وَالاستِقامَة)
أكتوبر 15, 2025الخطبة الأولى (نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ [الحديد:21]. وروى ابن ماجه في سننه: (عَنْ كُرَيْبٍ – مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ – قَالَ حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ لأَصْحَابِهِ: «أَلاَ مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لاَ خَطَرَ لَهَا هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلأْلأُ وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ وَقَصْرٌ مَشِيدٌ وَنَهَرٌ مُطَّرِدٌ وَفَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ نَضِيجَةٌ وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ فِي مَقَامٍ أَبَدًا فِي حَبْرَةٍ وَنَضْرَةٍ فِي دَارٍ عَالِيَةٍ سَلِيمَةٍ بَهِيَّةٍ». قَالُوا نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ لَهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «قُولُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ».
إخوة الإسلام
قوله تعالى: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أَلاَ مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ): هذا نداءٌ لكل من كان في قلبه إيمانٌ صادقٌ، وعزيمةٌ ماضية، هذا نداءٌ لكل من يريدُ أن يفوز بالجنة، ولكل من عرف أن الحياةَ الدنيا قصيرةٌ، وأن الآخرةَ هي دارُ القرار، فهل من مشمِّر للجنة؟!، هل من مشمِّرٍ عن ساعد الجدّ، يجاهدُ نفسه، ويغالبُ هواه، ويُسابقُ إلى طاعة مولاه؟، فالتشْمِير في طريقِ الجنةِ هو رمزُ العزيمة، وهو شعارُ الصادقين،
وقوله تعالى: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [الحديد:٢١]. فهَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ تُفْتَتَحُ بِنِدَاءٍ عَجِيبٍ، نِدَاءٍ لِكُلِّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ حَيَاةٌ، نِدَاءٍ يُوقِظُ الْهَامِدِينَ وَيُحَرِّكُ الْغَافِلِينَ: ﴿سَابِقُوا﴾. لَا قَالَ امْشُوا، وَلَا قَالَ اسْعَوْا، بَلْ قَالَ: ﴿سَابِقُوا﴾، لِأَنَّ طَرِيقَ الْجَنَّةِ لَا يَسْلُكُهُ الْبَطِيءُ، وَلَا الْمُتَثَاقِلُ، وَلَا مَنْ رَكَنَ إِلَى الدُّنْيَا، بَلْ أَهْلُ الْجَنَّةِ هُمْ أَهْلُ الْمُسَابَقَةِ وَالْمُشَمِّرُونَ فِي طَاعَةِ رَبِّهِمْ،
وإِذَا قَرَأْنَا فِي السِّيَرِ وَالْآثَارِ، وَسَمِعْنَا أَخْبَارَ السَّابِقِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، رَأَيْنَا نَمَاذِجَ تَشِيبُ لَهَا الرُّؤُوسُ مِنْ عَظِيمِ مَا حَمَلُوا مِنْ هِمَّةٍ. أُولَئِكَ الَّذِينَ إِذَا سَمِعُوا آيَةً تَدْعُو إِلَى الْخَيْرِ قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وَإِذَا سَمِعُوا عَنْدَ النَّبِيِّ ﷺ قَوْلَهُ: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَاعَدَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» (متفق عليه)، شَمَّرُوا أَيْدِيَهُمْ وَصَامُوا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: «رَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» (رواه مسلم)، قَامُوا قَبْلَ الْفَجْرِ وَأَدَّوْهَا بِخُشُوعٍ، فهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُشَمِّرُونَ، أَقْوَامٌ فَهِمُوا أَنَّ الدُّنْيَا سَاعَةٌ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ تَنْتَظِرُ مَنْ سَبَقَ، ومن شمر السواعد لها. والْمُشَمِّرُونَ هُمْ الَّذِينَ لَا يَقْنَعُونَ بِالْقَلِيلِ مِنَ الطَّاعَةِ، وَلَا يَرْضَوْنَ أَنْ يَكُونُوا فِي آخِرِ الصَّفِّ، بَلْ يَتَسَابَقُونَ إِلَى الْخَيْرِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ [البقرة:١٤٨]. وَتَأَمَّلُوا – رَحِمَكُمُ اللَّهُ – كَيْفَ كَانَتْ هِمَمُ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ؛ سَمِعَ رَجُلٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» (متفق عليه)، فَمَا إِنْ أَتَمَّ كَلِمَتَهُ حَتَّى شَمَّرَ هَذَا الرَّجُلُ وَقَالَ: أَبْنِيهِ لِلَّهِ. وَسَمِعَ آخَرُهُ يَقُولُ: «رَكْعَةٌ فِي الْحَرَمِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ فِيمَا سِوَاهُ» (رواه ابن ماجه)، فَسَافَرَ الْمَسَافَاتِ الطِّوَالَ لِيُدْرِكَ رَكْعَةً فِي ذَاكَ الْمَكَانِ الْمُبَارَكِ، إِنَّهُمُ الْمُشَمِّرُونَ، وَنَحْنُ الْيَوْمَ نَقُولُ: نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ، فإِنْ أَرَدْنَا أَنْ نَكُونَ عَلَى خُطَى الْمُقَدِّمِينَ مِنْ سَادَتِنَا وَعُلَمَائِنَا وَشُهَدَائِنَا، فَلْنُشَمِّرْ لِدِينِنَا كَمَا شَمَّرُوا.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ
إِنَّ التَّشْمِيرَ لَا يَعْنِي الْحَرَكَةَ الْجَسَدِيَّةَ فَقَطْ، بَلْ هُوَ حَالَةٌ قَلْبِيَّةٌ تُشْعِرُكَ بِعِظَمِ الْمَقْصِدِ، فَمَنْ شَمَّرَ لِصَلَاتِهِ، صَلَّى وَقَلْبُهُ خَاشِعٌ، وَمَنْ شَمَّرَ لِخَيْرٍ فِي نَفَقَةٍ أَوْ بِرٍّ، أَنْفَقَ وَقَلْبُهُ مُوقِنٌ أَنَّ اللَّهَ يُخْلِفُ، وَمَنْ شَمَّرَ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، قَرَأَ وَرُوحُهُ تَرْتَعِشُ مِنْ جَلَالِ الْكَلَامِ، واعلموا أن الْمُشَمِّرِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ قِلَّةٌ، لِأَنَّ النَّاسَ فِي غَفْلَةٍ، وَالْمُشَمِّرُ هُوَ الَّذِي يَسْتَيْقِظُ وَحْدَهُ وَالْآخَرُونَ نِيَامٌ، فَطُوبَى لِمَنْ سَمِعَ نِدَاءَ اللهِ: ﴿سَابِقُوا﴾ فَسَارَعَ، وَلَمْ يَنْتَظِرِ الْآخَرِينَ.
والتَّشْمِير لِلْآخِرَةِ يَحْتَاجُ إِلَى أَرْبَعَةِ أُمُورٍ: (عِلْمٍ يُبَصِّرُ، وَإِخْلَاصٍ يُطَهِّرُ، وَصَبْرٍ يُثَبِّتُ، وَدُعَاءٍ يُقَوِّي)، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ فِيكَ كُنْتَ مِنَ الْمُشَمِّرِينَ، وقد كان سلفُنا الصالح إذا سمعوا آيةَ وعدٍ من الله تعالى، أو نداءَ عملٍ صالح، استجابوا، وقالوا: سمعنا وأطعنا، وقال بعض السلف: “من أراد الجنةَ فليشمّر عن ساعديه، فإنها لا تُنالُ براحةِ الجسد.”
وقد شَمَّرَ الصحابةُ الكرامُ رضي الله عنهم، فشَمَّرَ أبو بكرٍ بماله، وشَمَّرَ عمرُ بعدله، وشَمَّرَ عثمانُ بجوده، وشَمَّرَ عليٌّ بشجاعته، وشَمَّرتْ خديجةُ بنصرتها، وعائشةُ بعلمها، وأسماءُ بثباتها، فكلٌّ منهم قد سمع النداء: هل من مشمر؟ فأجاب بعملٍ لا بكلام،
فيا من تسمعني اليوم: أما آنَ لنا أن نُشمِّر كما شمّروا؟، وأن نُبادر كما بادروا؟، وأن نُخلِص لله كما أخلَصوا؟، فإن الله جل جلاله يقول: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [الذاريات:50]. فمن أراد اللهَ فليفرَّ إليه، ومن أراد الجنةَ فليشمِّرْ لها، ومن أراد النجاةَ فليُسارِعْ بالتوبةِ قبلَ فواتِ الأوان، واعلموا أن التشْمِير لا يكونُ في مواسمِ الطاعاتِ فقط، بل في كلّ يومٍ وساعة، وفي الصلاةِ، وفي الخلقِ، والصدقِ، وفي قيامِ الليلِ، وذكرِ اللهِ، وصبرِ النفوس، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ». فهكذا يكون المشمّر: لا يعرف الكسل، ولا يركن إلى الغفلة، ولا يرضى أن يكون متأخرا في ميدانِ السباق إلى الله. وتَشْمِيرُ السَّلَفِ كَانَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، كَانُوا يَقُومُونَ اللَّيْلَ
وَالنَّاسُ نِيَامٌ، وَيَبْكُونَ وَهُمْ يُتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَسْعَوْنَ فِي خَيْرِ أُمَّتِهِمْ،
وَنَحْنُ الْيَوْمَ فِي زَمَنٍ نَزَلَتْ فِيهِ الْهَمَمُ، وَضَعُفَتِ الْعَزَائِمُ، وَتَفَرَّقَتِ الْقُلُوبُ بَيْنَ الشَّبَهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ. فَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَنْهَضَ، فَلْنَعُدْ إِلَى دِينِنَا بِتَشْمِيرٍ صَادِقٍ، وَعَزِيمَةٍ تُرْضِي اللَّهَ، وَلْنَتَذَكَّرْ أَنَّ مَنْ شَمَّرَ لِدِينِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُعِينُهُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت:٦٩]. وَأَمَامَنَا مِثَالُ النَّبِيِّ ﷺ، فقد كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى تَتَوَرَّمَ قَدَمَاهُ، وَيُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى تَغْبَرَّ قَدَمَاهُ، وَيُعَلِّمُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَيْهِمْ، فَهُوَ سَيِّدُ الْمُشَمِّرِينَ. فَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ هَذِهِ الْهِمَمِ؟، أَمْ تَرَانَا قَدْ رَكَنَّا إِلَى الرَّاحَةِ وَاللَّغْوِ وَالْمَلَاهِي؟، أَلَا نَسْمَعُ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا﴾ [المؤمنون:١١٥]؟ فَإِذَا كُنَّا نُرِيدُ أَنْ نَكُونَ مِنَ الْمُشَمِّرِينَ، فَلْنَبْدَأْ مِنَ الْيَوْمِ، فِي صَلَاتِنَا، فِي قُرْآنِنَا، فِي بِرِّنَا وَصِلَتِنَا وَدَعْوَتِنَا. لِنَكُنْ نَحْنُ الْمُشَمِّرِينَ فِي زَمَنِ الْغَفْلَةِ.
أقولُ قولي هذا وأستغفِرُ اللهَ لي ولكم.
الخطبة الثانية (نحن المشمِّرون)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
إِنَّ الْمُشَمِّرِينَ لِلَّهِ هُمْ أَهْلُ الْهِمَمِ الْعَالِيَةِ، وَالنُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ، الَّذِينَ لَا يَرْضَوْنَ بِالدُّونِ، وَلَا يَقْنَعُونَ مِنَ الدِّينِ بِالظَّاهِرِ، بَلْ يَتَطَلَّعُونَ إِلَى مَرَاتِبِ الْإِحْسَانِ، وَيَسْعَوْنَ لِرِضَا الرَّحْمَنِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ [الواقعة:١٠–١١]. فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُشَمِّرُونَ الَّذِينَ سَبَقُوا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ، وَتَسَابَقُوا إِلَى مَغْفِرَةِ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانِهِ، وَنَافَسُوا فِي مَيَادِينِ الطَّاعَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿فِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين:٢٦].
ومِنْ صِفَاتِ الْمُشَمِّرِينَ أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ وَلَا يَتَكَلَّمُونَ كَثِيرًا، يَبْكُونَ فِي خَلَوَاتِهِمْ، وَيَضْحَكُونَ فِي جَمَاعَتِهِمْ، يُخْلِصُونَ فِي السِّرِّ كَمَا يُخْلِصُونَ فِي الْعَلَنِ، وَيَعْرِفُونَ أَنَّ الْجَنَّةَ غَالِيَةٌ، وَأَنَّ طَرِيقَهَا مَفْرُوشٌ بِالصَّبْرِ وَالْجِهَادِ. قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ الْجَنَّةُ» [رواه الترمذي]. فَكَيْفَ يَرْضَى الْمُؤْمِنُ الْعَاقِلُ أَنْ تَكُونَ دُنْيَاهُ أَكْبَرَ هَمِّهِ وَمَبْلَغَ عِلْمِهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْجَنَّةَ تَنْتَظِرُ الْمُتَشَمِّرِينَ؟
فيَا مَنْ تَسْمَعُنِي الْيَوْمَ، لَا تَغْتَرَّ بِالنَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ، فَإِنَّ الْمُشَمِّرَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الَّذِي يَقُومُ إِذَا النَّاسُ نَامُوا، وَيَسْتَغْفِرُ إِذَا الْغَافِلُونَ غَفَلُوا، وَيَبْذُلُ فِي الْخَيْرِ وَيَسْتَحْيِي مِنْ رَبِّهِ أَنْ يَلْقَاهُ مُفَرِّطًا، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: “المُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا كَالْغَرِيبِ، يَزْدَادُ زَادًا لِلرَّحِيلِ، وَيُشَمِّرُ لِلسَّفَرِ إِلَى الْآخِرَةِ.”
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
إِنَّ مَنْ شَمَّرَ لِطَاعَةِ رَبِّهِ فَهُوَ الْفَائِزُ الرَّابِحُ، وَمَنْ تَكَاسَلَ وَرَكَنَ إِلَى الدُّنْيَا فَهُوَ الْخَاسِرُ الْمَغْبُونُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحشر:١٨]. فَلْيَنْظُرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا: هَلْ شَمَّرَ لِغَدِهِ؟ هَلْ أَعَدَّ لِقَاءِ رَبِّهِ؟ هَلْ جَاهَدَ نَفْسَهُ كَمَا أُمِرَ؟، فَإِنَّ مَنْ أَجَابَ نِدَاءَ اللهِ فِي الدُّنْيَا بَالْعَمَلِ، أَكْرَمَهُ اللهُ فِي الْآخِرَةِ بِنِدَاءِ الْكَرَامَةِ: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ [الفجر:٢٧–٣٠]. فَتَشَمَّرُوا – رَحِمَكُمُ اللهُ – قَبْلَ أَنْ يُقَالَ: رَبِّ ارْجِعُونِ، فَلَا يُسْتَجَابُ الدُّعَاءُ، وَقَبْلَ أَنْ تُغَلِّقَ الدُّنْيَا أَبْوَابَهَا، وَتُفْتَحَ أَبْوَابُ الْآخِرَةِ.
والمتدبر لقوله تعالى: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [الحديد: ٢١]. فإِنَّهُ نِدَاءٌ رَبَّانِيٌّ يَهُزُّ الْقُلُوبَ الْوَاهِنَةَ، وَيُوقِظُ الْهَامِدِينَ، نِدَاءٌ إِلَى السَّبْقِ وَالْمُسَارَعَةِ ،فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾.
وَفِي الْمِيزَانِ النَّبَوِيِّ، جَاءَ النِّدَاءُ الْعَظِيمُ الَّذِي يَسْتَثِيرُ الْهِمَمَ وَيُحَرِّكُ الْقُلُوبَ، (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ لأَصْحَابِهِ «أَلاَ مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لاَ خَطَرَ لَهَا هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلأْلأُ وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ وَقَصْرٌ مَشِيدٌ وَنَهَرٌ مُطَّرِدٌ وَفَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ نَضِيجَةٌ وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ فِي مَقَامٍ أَبَدًا فِي حَبْرَةٍ وَنَضْرَةٍ فِي دَارٍ عَالِيَةٍ سَلِيمَةٍ بَهِيَّةٍ». قَالُوا نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ لَهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «قُولُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ».
فهو نِدَاءٌ مَلَأَ قُلُوبَهُمْ عَزْمًا وَحَيَاءً وَإِقْبَالًا، فَهُمْ الْمُشَمِّرُونَ الَّذِينَ أَطَاعُوا النِّدَاءَ، وَسَابَقُوا فِي الْخَيْرِ، وَعَلِمُوا أَنَّ الطَّرِيقَ إِلَى الْجَنَّةِ لَا يُقْطَعُ إِلَّا بِالْجِدِّ وَالْمُجَاهَدَةِ.
الدعاء