خطبة عن (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
أكتوبر 19, 2025الخطبة الأولى (لَن يُضَيِّعَنا)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق:٣]. وروى البخاري في صحيحه: (عنِ ابنِ عبّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما قال: «تَرَكَ إِبْرَاهِيمُ هَاجَرَ وَابْنَهَا إِسْمَاعِيلَ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ، آللهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لَنْ يُضَيِّعَنَا».
إخوة الإسلام
(إِذَنْ لَنْ يُضَيِّعَنَا) ما أصدقَها من كلمةٍ خرجت من قلبِ مؤمنةٍ واثقةٍ بربِّها!، كلمةٌ خالدةٌ تُسطِّرُ أعظمَ معاني الإيمان، والتوكُّل والرِّضا بقضاء الله
وقولها: «إذَنْ لَنْ يُضَيِّعَنَا»، كأنَّها تُلقِّن الدنيا درسًا خالدًا في الثِّقةِ بربِّ العالمين.
وتأمّلوا الموقفَ: وادٍ قاحلٌ لا مَاءَ فيه ولا زَرع، ولا أُنسَ فيه ولا سَكَن، والزوجُ يَبتعِدُ تاركًا امرأةً وطفلًا صغيرًا، وما بينَها وبينَ النَّجاةِ إلّا يقينُها بالله. لم تَسألْ: أينَ الطَّعام؟ أينَ السَّقيا؟ أينَ النَّاس؟ بل سألت سؤالَ الإيمان: «آللهُ أمركَ بهذا؟». فلمَّا سمعتْ الجوابَ قالت: «إذن لا يُضَيِّعُنا». يا لها من امرأةٍ عظيمةٍ علَّمَتِ البشريَّةَ أنَّ من وثقَ باللهِ لن يَخيبَ رجاؤُه.
أيُّها الأحباب: هذا هو التوكُّلُ الحقُّ، لا تواكُلَ الكسالى، بل يقينُ العاملينَ المتوكِّلين، توكُّلٌ يَدفَعُ إلى العملِ لا إلى العجز، يَملأُ القلبَ أمْنًا وإن خَلتِ اليدان، ويُشعِلُ في النَّفسِ نورَ الأملِ وإن أظلَمَتِ الطُّرُق، فهاجرُ رضِيَ اللهُ عنها لم تَقعُد تبكي، بل أقبلت تسعَى وتَسعَى بينَ الصَّفا والمروة، تبحثُ عن الماء، حتى فَجَّرَ اللهُ لها زمزم. وهكذا يُكافِئُ اللهُ مَن توكَّل عليه: بعملٍ يسيرٍ وصبرٍ جميلٍ، يأتيهُ الفرجُ من حيثُ لا يَحتسِب. فكم مِن هاجرٍ في هذه الأُمَّةِ اليومَ تُجرِّبُ مِحنةً شديدةً، وتخشى الضَّياعَ والفقدان!، فليتذكَّرْ كلُّ مبتلى ومهمومٍ أنَّ ربَّه الذي لم يُضَيِّعْ هاجرَ في وادٍ بلا زَرعٍ، لن يُضَيِّعَهُ هو في زحمةِ الحياةِ ومِحنِها.
فيا مَن ضاقَ عليكَ الرِّزقُ، ويا مَن أظلمتِ الطُّرقُ أمامَك، ويا مَن تفرَّقَ عنكَ الأصدقاءُ، ويا مَن نزلت بكَ الكُروبُ والآلامُ، قُلْ كما قالتْ هاجرُ: «إذن لا يُضَيِّعُنا». إنَّ ربَّكَ لا يَغفُلُ عنكَ، ولا يَنسى حاجتَكَ، ولا يُخطِئُ موعدَكَ.
أيُّها المسلمون
إنَّ مَن تَأمَّلَ القرآنَ رأى أنَّ التوكُّلَ سِرُّ النَّجاةِ في كلِّ مِحنة، قال تعالى: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ البقرة:137، وقال تعالى على لسان عبده المؤمن: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ ﴾ غافر:44، وقالَ نبيُّنا ﷺ: «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا» (رواه الترمذي). فهلَّا تعلَّمنا من الطَّيرِ ومن هاجرَ أن نُهاجِرَ من الخوفِ إلى الثِّقة، ومن الشَّكِّ إلى اليقين، ومن الضَّعفِ إلى الاعتمادِ على الله؟
فكم من إنسانٍ ظنَّ أنَّه تاهَ في صحراءِ الابتلاء، ثم جاءه الفرجُ من حيثُ لا يَحتسِب! إنَّها سُنَّةُ الله في الصابرين، ووعدُهُ للصادقين: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ التوبة:120. ولمّا صدَقَتْ هاجرُ توكُّلًا وصبرًا، رفعَ اللهُ ذِكرَها إلى قيامِ الساعة، وجعلَ سعيَها بينَ الصَّفا والمروةِ نُسُكًا لكلِّ حاجٍّ ومعتمرٍ! هكذا يُكرِمُ اللهُ الصابرينَ المتوكِّلينَ عليه، وهكذا يُخلِّدُ ذِكرَ مَن قالَ من أعماقِ قلبه: «إذَنْ لَنْ يُضَيِّعَنَا». فعلِّموا أبناءَكم هذه الكلمةَ كما تُعلِّمونهم الشَّهادة، واغرسوها في قلوبِ نسائِكم كما تُغرسُ العقيدةُ في القلوب: «لن يُضَيِّعَنَا الله». فمَن عرفَ ربَّه بهذه المعرفةِ لن يجزعَ في الفقر، ولن يَخورَ في البلاء، ولن يتخلّى عن رجائه وإن تأخّرَ الفرج.
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم.
الخطبة الثانية (لَن يُضَيِّعَنا)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
(إِذَنْ لَنْ يُضَيِّعَنَا) إِنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْمُبَارَكَةِ يَتَعَدَّى وَقْتَ الْمِحْنَةِ، فَهِيَ دَرْسٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ: أَنْ يَرَى فِي كُلِّ قَدَرٍ يَمُرُّ بِهِ يَدَ اللَّهِ تَعَالَى تَصْنَعُ لَهُ الْخَيْرَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ، رُبَّمَا لَمْ يَفْهَمْ إِبْرَاهِيمُ سِرَّ التَّرْكِ فِي الْبَدْءِ، وَلَكِنَّهُ عَلِمَ أَنَّ مَنْ أَمَرَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الْخَيْرَ. وَرُبَّمَا لَمْ تَعْلَمْ هَاجَرُ كَيْفَ تُرزق هي ورضيعها، وَلَكِنَّهَا عَلِمَتْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُضَيِّعُ أَحَدًا يَثِقُ بِهِ.
فَقُلْ: «لَنْ يُضَيِّعَنَا». قُلْهَا وَقَلْبُكَ مُمْتَلِئٌ بِالْيَقِينِ، وَأَنْتَ تَرَى بَلَاءَ الدُّنْيَا، وَتَسْمَعُ أَخْبَارَ الْمِحَنِ، وَتَرَى الضِّيقَ وَالْفَقْرَ وَالْخَوْفَ، قُلْ: «لَنْ يُضَيِّعَنَا». وَأَنْتَ تَرَى الظُّلْمَ يَفْشُو، وَالْبَاطِلَ يَعْلُو، وَالْخَيْرَ يُنْكَرُ، قُلْ: لَنْ يُضَيِّعَنَا اللَّهُ، فَهُوَ الْحَافِظُ وَالْمُؤَيِّدُ وَالنَّاصِرُ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ
لَنْ يُضَيِّعَنَا اللَّهُ إِذَا صَدَقْنَا، وَلَنْ يُضَيِّعَنَا إِذَا أَحْسَنَّا الظَّنَّ بِهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَنَا إِذَا عَمِلْنَا وَتَوَكَّلْنَا. فَاحْفَظُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ فِي قُلُوبِكُمْ، وَرَدِّدُوهَا عِنْدَ كُلِّ ضِيقٍ وَخَوْفٍ وَحُزْنٍ: «إِذَنْ لَنْ يُضَيِّعَنَا اللَّهُ أَبَدًا»
وما أروعَ ما تصنعُهُ الثقةُ بالله في قلوبِ عبادِه المؤمنين!، فهي التي تَحوِّلُ الخوفَ إلى طُمأنينة، واليأسَ إلى أمل، والضِّيقَ إلى سَعَةٍ، وتُبدِّلُ الدُّموعَ بالإيمانِ الرَّضيِّ المطمئنِّ. فهاجرُ رضيَ اللهُ عنها لم تَقُلْ: «سأهلكُ معَ ابني»، بل قالت: «إذَنْ لَنْ يُضَيِّعَنَا». فصارَت كلمتُها مِعيارًا يُقاسُ به صِدقُ التوكُّلِ على الله. فالتوكُّلُ ليسَ كلماتٍ تُقالُ باللسان، بل هو سكونُ القلبِ إلى وعدِ الرحمن، وثباتُ الجَنانِ في وجهِ الأقدار.
فالذي يَملِكُ أن يُنبِتَ الماءَ من تحتِ أقدامِ هاجرَ، قادرٌ أن يُخرِجَ رزقَك من حيثُ لا تَحتسِب، وقادرٌ أن يَصنعَ لكَ فرجًا وأنتَ تظنُّ أنَّ لا مَخرجَ لك. فلا تيأسْ إنْ تأخَّرَ الرزقُ، ولا تَجزَعْ إنْ طالتِ المِحنة، فإنَّ ربَّك الذي خلقَك أرحمُ بكَ من نفسِك، وأعلمُ بما يُصلِحُك.
أيُّها المسلمون
لقد علَّمنا اللهُ أنَّ مع الصبرِ توفيقًا، ومع الضيقِ فرجًا، ومع البُعدِ قُربًا، ومع التوكُّلِ كفايةً، فقال تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾. فاجعلْ هذه الآيةَ شعارَ حياتِك، وردِّدْها في شدائدِكَ كما ردَّدتْ هاجرُ كلمتَها الخالدةَ في صحراءِ مكَّةَ: «لن يُضَيِّعَنَا الله».
وإذا كان اللهُ قد أجرى الماءَ تحتَ قدمي طفلٍ صغيرٍ استجابةً لصبرِ أمِّه، أفلا يُجري لكَ فرجًا من فوقِ سبعِ سماواتٍ استجابةً لصدقِ توكُّلِكَ عليه؟
توكَّلْ على اللهِ حقَّ التوكُّل، وارضَ بقضائِهِ، وأحسِنِ الظنَّ بربِّكَ، فإنَّ اللهَ عندَ ظنِّ عبدِهِ به، كما قال النبيُّ ﷺ: «يقولُ اللهُ تعالى: أنا عندَ ظنِّ عبدي بي، فإنْ ظنَّ بي خيرًا فله، وإنْ ظنَّ بي شرًّا فله» (رواه البخاري).
فلن يَضيعَ الله من أحسنَ ظنَّهُ بربِّه، ولن يُهمَلَ من صدقَ مع اللهِ في سرِّه وعلَنِه. فمن وثقَ باللهِ، كفاهُ الله، ومن استعانَ به، أعانَه، ومن استغنى به، أغناه، ومن صبرَ عليه، رفعَه، ومن قالَ في قلبِه: «إذَنْ لَنْ يُضَيِّعَنَا»، سَتجِدُ الدُّنيا تُضيءُ له وإن أُطفِئتِ الأنوار. اللهمَّ اجعلنا منَ المتوكِّلينَ عليكَ حقَّ التوكُّل، ومنَ الرَّاضينَ بقضائِكَ، ومنَ الصابرينَ على بلائِكَ، ومنَ الراجينَ رحمتَكَ، يا أكرمَ الأكرمين.
الدعاء