خطبة عن (لَن يُضَيِّعَنا)
أكتوبر 20, 2025الخطبة الأولى (قِصَّةُ يُوسُفَ: مِنَ الْجُبِّ إِلَى التَّمْكِين)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [يوسف:٣]. وقال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ) (7) يوسف
إخوة الإسلام
سُورَةُ يُوسُفَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، سُورَةٌ فَرِيدَةٌ، لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا غَيْرُ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ، فَجَاءَتْ قِصَّتُهُ كَامِلَةً مُتَسَلْسِلَةً، تُبَيِّنُ لَنَا أَنَّ حَيَاةَ الْمُؤْمِنِ مَجْمُوعَةٌ بَيْنَ ابْتِلَاءٍ وَصَبْرٍ، وَفِتْنَةٍ وَثَبَاتٍ، وَشِدَّةٍ وَرَجَاءِ، ثُمَّ يَجْعَلُ اللهُ لَهُ الْعَاقِبَةَ بِالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ. قَالَ تَعَالَى: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ [يوسف:٤].
فرُؤْيَا صَغِيرٍ، كَانَتْ بَشَارَةَ مَسِيرَةٍ طَوِيلَةٍ، فَقد أَخْبَرَ يوسف أَبَاهُ يَعْقُوبَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، فَعَرَفَ أَنَّهَا بَشِيرَةُ نُبُوَّةٍ وَمَكَانَةٍ، وَلَكِنَّ الْحَسَدَ دَخَلَ قُلُوبَ إِخْوَتِهِ، فَتَآمَرُوا عَلَيْهِ. قَالُوا: ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ﴾ [يوسف:٩]. فَطَرَحُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ، ثُمَّ جَاءُوا أَبَاهُمْ يَبْكُونَ، وَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الذِّئْبَ أَكَلَهُ، وَعَرَضُوا قَمِيصَهُ مُلَطَّخًا بِدَمٍ كَذِبٍ. وَهُنَا يَتَعَلَّمُ الْمُؤْمِنُ أَنَّ الْبَلَاءَ قَدْ يَأْتِي مِنْ أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَلا يَغْتَرَّ بِقُرْبٍ وَلَا يَتَّهِمَ قَضَاءَ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ لَا يُضَيِّعُ أَهْلَ الْحَقِّ.
ثُمَّ أُخْرِجَ يُوسُفُ مِنَ الْجُبِّ، وَبِيعَ عَبْدًا فِي السُّوقِ، وَدَخَلَ بَيْتَ الْعَزِيزِ. وَهُنَاكَ جَاءَتْ فِتْنَةٌ أَعْظَمُ مِنَ الْجُبِّ، فَقَدْ رَاوَدَتْهُ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ عَنْ نَفْسِهِ. وَهُنَا بَرَزَتْ عِفَّتُهُ وَإِيمَانُهُ، فَقَالَ: ﴿مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ [يوسف:٢٣]. فَاسْتَعْصَمَ وَتَحَصَّنَ بِإِيمَانِهِ. وَلَكِنَّهُ دَخَلَ السِّجْنَ بَعْدَ ذَلِكَ بُهْتَانًا، فَكَانَ السِّجْنُ مِحْنَةً أُخْرَى، وَلَكِنَّهُ فِي السِّجْنِ لَمْ يَنْشَغِلْ بِشَكْوَى وَحُزْنٍ، بَلْ كَانَ دَاعِيًا إِلَى التَّوْحِيدِ. قال: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [يوسف:٣٩].
ثُمَّ جَاءَ فَرَجُ اللهِ، فَفَسَّرَ الرُّؤْيَا لِلْمَلِكِ، فَخَرَجَ مِنَ السِّجْنِ مُعَزَّزًا مُكَرَّمًا، ثُمَّ جُعِلَ عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ. وَهُنَا تَتَجَلَّى سُنَّةُ اللهِ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ: أَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ. قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف:٥٦].
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ
قِصَّةُ يُوسُفَ دَرْسٌ لَنَا فِي أُمُورٍ عِظَامٍ: أَوَّلًا: أَنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ، وَأَنَّهُ دَاءٌ دَفَعَ إِخْوَةَ يُوسُفَ لِلْجُرْمِ الْعَظِيمِ. ثَانِيًا: أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْبَلَاءِ سَبِيلُ الْفَرَجِ وَالْعُلُوِّ. ثَالِثًا: أَنَّ الْعِفَّةَ عِزٌّ وَكَرَامَةٌ، وَمَنْ تَرَك شَهْوَةً حَرَامًا أَبْدَلَهُ اللهُ عِزًّا فِي الدُّنْيَا وَنُورًا فِي الْآخِرَةِ. رَابِعًا: أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْشُرُ دَعْوَتَهُ فِي كُلِّ حَالٍ، حَتَّى وَهُوَ فِي ظُلْمَةِ السِّجْنِ. خَامِسًا: أَنَّ الْعَاقِبَةَ أَبَدًا لِلْمُتَّقِينَ، وَإِنْ طَالَ الطَّرِيقُ وَكَثُرَتِ الْمِحَنُ.
وقِصَّةُ يُوسُفَ تَقُولُ لِكُلِّ مَكْرُوبٍ: اصْبِرْ فَإِنَّ فَرَجَ اللهِ قَرِيبٌ. وَتَقُولُ لِكُلِّ مُفْتُونٍ: اعْتَصِمْ بِاللهِ، فَإِنَّ الْعِفَّةَ مَفَاتِيحُ التَّمْكِينِ. وَتَقُولُ لِكُلِّ سَاجِنٍ فِي الْأَزَمَاتِ: ادْعُ إِلَى رَبِّكَ، فَالْأَزْمَةُ فُرْصَةٌ لِلدَّعْوَةِ. وَتَقُولُ لِكُلِّ مَظْلُومٍ: تَوَكَّلْ عَلَى رَبِّكَ، فَإِنَّ الْعَدْلَ آتٍ لَا مَحَالَةَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.
الخطبة الثانية (قِصَّةُ يُوسُفَ: مِنَ الْجُبِّ إِلَى التَّمْكِين)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
بَعْدَ أَنْ سِرْنَا مَعَ يُوسُفَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) مِنَ الْجُبِّ إِلَى السِّجْنِ، ثُمَّ مِنَ السِّجْنِ إِلَى التَّمْكِينِ، يَبْقَى الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ أَنْ نَأْخُذَ الْعِبْرَ وَالدُّرُوسَ. أَوَّلًا: أَنَّ الْحَسَدَ وَالْغِلَّ دَاءٌ قَاتِلٌ، وَإِنَّهُ أَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللهُ بِهِ فِي السَّمَاءِ، حِينَ حَسَدَ إِبْلِيسُ آدَمَ، وَهُوَ الَّذِي كَادَ أَنْ يُهْلِك إِخْوَةَ يُوسُفَ.
ثَانِيًا: أَنَّ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللهِ كَفَاهُ، وَمَنْ اعْتَصَمَ بِهِ حَفِظَهُ. يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْجُبِّ وَفِي الْبَيْتِ وَفِي السِّجْنِ مَا زَادَهُ الْبَلَاءُ إِلَّا قُرْبًا.
ثَالِثًا: أَنَّ الْعِفَّةَ زِينَةٌ، وَأَنَّ الشَّهْوَةَ الْحَرَامَ لَوْ اتَّبَعَهَا الْإِنْسَانُ لَكَانَتْ سَبِيلَ هَلَاكِهِ، وَإِذَا صَبَرَ وَتَحَصَّنَ، رَفَعَهُ اللهُ وَكَرَّمَهُ.
رَابِعًا: أَنَّ دَعْوَةَ الْمُؤْمِنِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى مَنْصِبٍ أَوْ مَكَانٍ، فَقَدْ دَعَا يُوسُفُ فِي السِّجْنِ كَمَا دَعَا فِي قَصْرِ الْمَلِكِ، وَظَلَّ عَلَى التَّوْحِيدِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ.
خَامِسًا: أَنَّ مَنِ اتَّقَى اللهَ جَعَلَ لَهُ مَخْرَجًا، وَمَن صَبَرَ فَلَهُ الْعَاقِبَةُ. وَقَدْ خَتَمَ اللهُ الْقِصَّةَ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [يوسف:١١١].
أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ
قِصَّةُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَجْعَلُنَا نُوقِنُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ وَإِنْ مَرَّ بِشِدَّةٍ فَإِنَّ نَصْرَ اللهِ قَادِمٌ، وَإِنْ ظَلَمَهُ الْخَلْقُ فَإِنَّ عَدْلَ اللهِ آتٍ، وَإِنْ ضَاقَتِ الْأَحْوَالُ فَإِنَّ فَرَجَ اللهِ قَرِيبٌ.
الدعاء