خطبة عن (قِصَّةُ يُوسُفَ: مِنَ الْجُبِّ إِلَى التَّمْكِين)
أكتوبر 22, 2025الخطبة الأولى (المُسَارَعَةُ إِلَى الْخَيْرَاتِ وَاغْتِنَامُ الْأَوْقَاتِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (148) البقرة.
إخوة الإسلام
المتدبر لقوله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ [البقرة:148]. يتبين له أن في ذلك أمرا ربانيا كريما، يأمرنا الله تعالى فيه أن نسارع وأن نستبق إلى الطاعات، وأن نحرص على الخيرات قبل فوات الأوان، واللفظ القرآني «فاستبقوا» يدل على المنافسة والمسارعة، والحرص على أن يسبق الإنسانُ غيرَه في طاعة الله، لا في حظوظ الدنيا ومتاعها الزائل.
والإنسان في هذه الحياة الدنيا عابر سبيل، وأنفاسه محدودة، وأيامه معدودة، وكل يوم يمضي فهو شاهدٌ عليه، إما بخيرٍ أو بشرٍّ، وإذا نظرنا إلى حال السلف وجدناهم يغتنمون أوقاتهم أشد الاغتنام، فقد قيل للحسن البصري (رحمه الله): (ما بالك أشد الناس اغتنامًا لوقتك؟ فقال: “لأني أعلم أني إذا ذهب يومي ذهب بعضي). والله تعالى مدح عباده الصالحين فقال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء:90]. فالمؤمن الحق هو الذي يستشعر قيمة الوقت، فيملؤه بالطاعة والعبادة والذكر والعمل النافع.
ولو تأملنا في أحوال الصحابة لوجدناهم أحرص الناس على ميادين الخير: فهذا أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) سبق الأمة كلها بإيمانه وبذله وإنفاقه، حتى قال فيه النبي ﷺ: «ما سبقكم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في قلبه» (رواه البيهقي في شعب الإيمان). وفي سنن الترمذي وصححه: (أن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: (أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ نَتَصَدَّقَ فَوَافَقَ ذَلِكَ عِنْدِي مَالاً فَقُلْتُ الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا قَالَ فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ». قُلْتُ مِثْلَهُ وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ». قَالَ أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قُلْتُ وَاللَّهِ لاَ أَسْبِقُهُ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا)، وكان عثمان (رضي الله عنه) يجهز جيش العسرة بماله في سبيل الله، فبشّره النبي ﷺ بالجنة مرارًا، ففي سنن الترمذي: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ جَاءَ عُثْمَانُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِأَلْفِ دِينَارٍ – .. حِينَ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَنَثَرَهَا فِي حِجْرِهِ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يُقَلِّبُهَا فِي حِجْرِهِ وَيَقُولُ «مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ». مَرَّتَيْنِ).
أيها المسلمون
كثير من الناس يضيّعون أوقاتهم في اللهو والغفلة، وربما قضوا ساعات طويلة في متابعة الدنيا وأخبارها، وأهملوا ساعةً في طاعة الله، أو قراءة القرآن. ولم يعلم هؤلاء أن الوقت هو الحياة، فإذا ذهب الوقت ذهب العمر، وإذا ذهب العمر انقطع العمل، وبقي الحساب والجزاء، ففي صحيح البخاري: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما – قَالَ قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ»، أي أن كثيرًا من الناس لا يعرفون قيمة هاتين النعمتين إلا بعد فواتهما، فإذا مرض العبد عرف قيمة الصحة، وإذا شُغل عرف قيمة الفراغ، ولكن بعد أن يكون قد أضاع العمر فيما لا ينفع.
فلنتذكر أن الشيطان عدو مبين، يسعى إلى تضييع أوقاتنا بالباطل، فإذا عجز عن إيقاعنا في الحرام، شغلنا بالمباحات المفرطة، حتى نفرّط في الطاعات. قال ابن الجوزي رحمه الله: إياك أن تكون فارغًا، فإن الطائر إذا لم يشغله شيء، لعبت به الصيادون. ولنسارع إلى الخيرات، ولنغتنم أوقاتنا بالذكر والتسبيح والتهليل، وقراءة القرآن، وصلة الأرحام، والصدقات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومساعدة الضعفاء والمساكين، ولنحرص على أن يكون لنا عمل صالح خفي لا يطلع عليه إلا الله، فهو أبقى للثواب وأرجى للقبول. وفي سنن أبي داود وحسنه الألباني: (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ فِي عَمَلِ الآخِرَةِ». أي أن البطء والتأني محمود إلا إذا تعلق الأمر بعمل الآخرة، فالخير أن يسارع الإنسان ويغتنم الفرصة قبل أن تضيع.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (المُسَارَعَةُ إِلَى الْخَيْرَاتِ وَاغْتِنَامُ الْأَوْقَاتِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى الترمذي في سننه وصححه الألباني: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تَنْظُرُونَ إِلاَّ فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا أَوِ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ»، هكذا يوصينا رسول الله ﷺ أن نبادر بالأعمال الصالحة قبل أن يحول بيننا وبينها حائل، فمن الناس من يشغله الفقر عن العبادة، ومنهم من يُلهيه الغنى، ومنهم من يقعده المرض، ومنهم من يضعفه الكبر، ومنهم من يبغته الموت. وكل ذلك موانع تحول بين العبد وبين الطاعة،
وقد كان السلف الصالح يرون أن كل ساعة تمر هي خزانة، تُفتح يوم القيامة بما وُضع فيها. فإن كان ذكرًا وقرآنًا وصلاةً وصدقةً وعلماً نافعًا، فتحت له بخير عظيم. وإن كان غفلة ولهوًا وضياعًا، فتحت له بالحسرة والندامة. قال الحسن البصري رحمه الله: ما من يوم ينشق فجره إلا نادى منادٍ: يا ابن آدم، أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة.
واعلم أن من أعظم ما يعين على اغتنام الأوقات: صحبة الصالحين، والابتعاد عن مجالس البطالين، والإكثار من ذكر الله، وتذكر الموت والآخرة، ومحاسبة النفس على كل يوم يمضي. فإذا حاسبنا أنفسنا اليوم، خفّ الحساب علينا غدًا، وإذا تركنا المحاسبة اليوم، ثقل الحساب يوم القيامة.
فلنغتنم حياتنا قبل موتنا، وصحتنا قبل سقمنا، وفراغنا قبل شغلنا، وشبابنا قبل هرمنا، كما أوصى النبي ﷺ، ولنكن من الذين قال الله فيهم: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [الحديد:21].
الدعاء