خطبة عن (الخَطَأُ وأَنْوَاعُهُ)
نوفمبر 3, 2025الخطبة الأولى (التَّفَكُّرُ فِي آيَاتِ اللهِ وَمُحَاسَبَةُ النَّفْس)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ  الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران:190-191].
إخوة الإسلام
روى ابن حبان في صحيحه: (قال ابنُ عُميرٍ لأم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها): أخبِرينا بأعجَبِ شيءٍ رأَيْتِه مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: فسكَتَتْ ثمَّ قالت: لَمَّا كان ليلةٌ مِن اللَّيالي قال: (يا عائشةُ ذَرِيني أتعبَّدِ اللَّيلةَ لربِّي) قُلْتُ: واللهِ إنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَك وأُحِبُّ ما سرَّك قالت: فقام فتطهَّر ثمَّ قام يُصَلِّي قالت: فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ حجرَه قالت: ثمَّ بكى فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ لِحيتَه قالت: ثمَّ بكى فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ الأرضَ فجاء بلالٌ يُؤذِنُه بالصَّلاةِ فلمَّا رآه يبكي قال: يا رسولَ اللهِ لِمَ تَبكي وقد غفَر اللهُ لك ما تقدَّم وما تأخَّر؟ قال: (أفلا أكونُ عبدًا شكورًا لقد نزَلَتْ علَيَّ اللَّيلةَ آيةٌ، ويلٌ لِمَن قرَأها ولم يتفكَّرْ فيها {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران:190] الآيةَ كلَّها،
فهَذِهِ الآيَاتٌ تُلْزِمُنَا بِالتَّفَكُّرِ فِي آلَاءِ اللهِ، وَبَدَائِعِ صُنْعِهِ، وَتَأْمُرُنَا أَنْ نَقِفَ عِنْدَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَتَقْلِيبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَنَسْأَلَ أَنْفُسَنَا: لِمَنْ هَذَا المَلَكُوتُ؟، ومَا غَايَتُهُ؟، أَمِنْ عَبَثٍ خُلِقْنَا أَمْ لِحِكْمَةٍ عَظِيمَةٍ؟، فقَدْ جَاءَ فِي الحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ الأَمَانِيَّ». والمُؤْمِن الحَقَّ هُوَ الَّذِي يَقِفُ مَعَ نَفْسِهِ وَيُحَاسِبُهَا، فَيَذْكُرُ ذُنُوبَهَا وَيَسْتَغْفِرُ لَهَا، وَيُفَكِّرُ فِي مَآلِهَا وَمَصِيرِهَا، كَمَا يَقُولُ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوهَا قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ».
ولَوْ نَظَرَ الإِنْسَانُ إِلَى نَفْسِهِ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ مُنْطَرِحٌ عَلَى فِرَاشِهِ، يَتَقَلَّبُ فِي جَنْبَيْهِ، وَهُوَ لاَ يَدْرِي أَيُكْتَبُ اسْمُهُ فِي الأَحْيَاءِ أَمْ فِي الأَمْوَاتِ، لأَدْرَكَ أَنَّ الدُّنْيَا زَائِلَةٌ، وَأَنَّ الوَقْتَ نَفِيسٌ، وَأَنَّ مُحَاسَبَةَ النَّفْسِ أَحْزَمُ وَأَحْكَمُ. فتَفَكَّرُوا فِي حَالِ أَجْسَادِكُمْ، هَلْ كُنْتُمْ تَمْلِكُونَ هَذِهِ العُيُونَ تُبْصِرُ، وَالأَسْمَاعَ تَسْمَعُ، وَالأَيْدِي تَبْطِشُ، وَالأَرْجُلَ تَمْشِي؟، أَلَيْسَ كُلُّ ذَلِكَ مِنَ اللهِ تَعَالَى؟، فَأَيْنَ الشُّكْرُ عَلَى هذه النِّعَمِ؟، قَالَ اللهُ تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [النحل:18].
وقَدْ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَجْعَلُونَ لِأَنْفُسِهِمْ سَاعَةً يتفكرون فيها، ويُحَاسِبُونَ فِيهَا أنفسهم، فَهَذَا الحَسَنُ البَصْرِيُّ يَقُولُ: «لاَ تَلْقَى المُؤْمِنَ إِلاَّ وَهُوَ يَعَاتِبُ نَفْسَهُ: مَاذَا أَرَدْتِ بِهَذَا الكَلاَمِ؟، مَاذَا أَرَدْتِ بِهَذَا الأَكْلِ؟، مَاذَا أَرَدْتِ بِهَذِهِ النَّظْرَةِ؟»؛ وَأَمَّا الفَاجِرُ فَيَمْضِي قُدُمًا لاَ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ
أيها المسلمون
وللتفكر في خلق الله ثمراته كثيرة، ومنها: إدراك عظمة الخالق سبحانه، وبديع قدرته، وعجيب صنعه وإتقانه، فلا فلتة ولا مصادفة، ولا خلل ولا نقص، كما قال سبحانه: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) {النمل:88}.
ومن ثمرات التفكر: زيادة الإيمان: فالتفكر يستدل به المرء على ما لله من صفات الكمال والجلال، ويعلم أنه لا يخلق أحد كخلق الله، ولا يدبر أحد كتدبيره سبحانه وتعالى، وكلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات، وما أودع فيها من لطائف البر والحكمة، علم بذلك أنها خلقت للحق وبالحق، وأنها صحائف آيات، وكتب دلالات على ما أخبر الله به عن نفسه ووحدانيته،
ومن ثمرات التفكر: أن التفكر في جمال الكون وإتقانه، يجعل الإنسان يدرك أن الله خلقه لأمر عظيم، وهو عبادته وحده لا شريك له، وأنه سبحانه لم يخلق مثل هذا الكون الفسيح المتقن ليعبث الإنسان، أو يعبد غير الخالق، بل إن المتأمل لخلق الإنسان ابتداء وانتهاء، والناظر فيما اختصه الله به، من عقل وإرادة، يدرك أنه إنما خلق لأمر عظيم، قال تبارك وتعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) {الذاريات:21} قال قتادة رحمه الله: (من تفكر في نفسه عرف أنما لينت مفاصله للعبادة).
ومن ثمرات التفكر: أن التفكر من صفات العلماء، وأنه من أعظم العبادات التي تقود إلى الخشوع لله، قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) {فاطر: 27-28}
ومن ثمرات التفكر: أن هذا التفكر في حد ذاته عبادة من أجلّ العبادات، أمر الله بها، وذم من غفل عنها، كما قال تعالى: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) {يونس:101}، وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) {الأعراف:185}، وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) {سبأ:9}، وقال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) {يوسف:105}.
ومن ثمرات التفكر: أن التفكر مما يزيد التقوى، ويرسخ الإيمان، قال تعالى: (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) {يونس:6}
أيها المسلمون
ألا فتَفَكَّرُوا فِي أَيَّامِكُمُ المَاضِيَةِ، مَاذَا صَنَعْتُمْ فِيهَا؟، وَتَفَكَّرُوا فِي قَبْرِكُمْ، هَلْ أَعْدَدْتُمْ لَهُ عَمَلاً يُؤْنِسُكُمْ، أَمْ تَرَكْتُمُوهُ فَارِغًا مُوحِشًا؟، ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «يَتْبَعُ المَيِّتَ ثَلاَثَةٌ: أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ، يَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ»، فَكَيْفَ لاَ نُحَاسِبُ أَنْفُسَنَا، وَنَزِنُ أَعْمَالَنَا، وَهِيَ مَا يَبْقَى مَعَنَا؟
وتَفَكَّرُوا فِي قِصَصِ السَّابِقِينَ، كَيْفَ كَانُوا يَغْفُلُونَ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ. قَالَ اللهُ: ﴿فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا﴾ [العنكبوت:40].
واعْلَمُوا أَنَّ التَّفَكُّرَ وَالمُحَاسَبَةَ لَيْسَا مَوْعِظَةً تُقَالُ، بَلْ هُمَا مَنْهَجُ حَيَاةٍ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْلَمَ غَدًا فِي يَوْمِ القِيَامَةِ، فَلْيُعَوِّدْ نَفْسَهُ اليَوْمَ عَلَى التَّفَكُّرِ فِي آلَاءِ اللهِ، وَمُحَاسَبَةِ نفسه على أَعْمَالِها.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.
الخطبة الثانية (التَّفَكُّرُ فِي آيَاتِ اللهِ وَمُحَاسَبَةُ النَّفْس)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
قول الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ  الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران:190-191].
يُرشِدُنَا الله تبارك وتعالى فيه إِلى النَّظَرِ في بَدِيعِ آيَاتِهِ، وَيَحُثُّنَا عَلَى التَّفَكُّرِ في عَظِيمِ مَخلُوقَاتِهِ، وفي العَالَمِ العُلوِيِّ في بِنَاءِ سَمَائِهِ وَالتِئَامِهَا، وَارتِفَاعِ سَمكِهَا وَكَيفَ سَوَّاهَا، وَإِلى حُسنِ نُجُومِهَا، وَدِقَّةِ سَيرِ كَوَاكِبِهَا وَأَفلاكِهَا، وَظُلمَةِ لَيلِهَا وَنُورِ نَهَارِهَا، وَإِلى العَالَمِ السُّفلِيِّ في بَسطِ أَرضِهِ، وَمَدِّهَا وَتَذلِيلِهَا، وَتَثبِيتِهَا بِالجِبَالِ الرَّوَاسِي، وَكَيفَ أَنَّه جَعَلَ ذَلِكَ تَبصِرَةً وتَذكِرَةً بما أَخبَرَت بِهِ الرُّسُلُ، مِنَ التَّوحِيدِ وَالمَعَادِ، وَقُدرَةِ اللهِ عَلَى البَعثِ وَالنُّشُورُ.
فَالنَّاظِرُ يَتَبَصَّرُ أَوَّلاً ثم يَتَذَكَّرُ، وَيَتَفَكَّرُ ثم يَعتَبِرُ، وَيَتَأَمَّلُ ثم يَعمَلُ، غَيرَ أَنَّ هَذَا لا يَحصُلُ إِلاَّ (لِأُولِي الأَلْبَابِ)، المُتَّجِه بِقَلبِهِ وَعَقلِهِ وَكُلِّ جَوَارِحِهِ إِلى مَولاهُ، المُتَفَكِّر في رِزقِهِ وَقُوتِهِ وُمَلبَسِهِ وَمَركَبِهِ، وَمَا حَولَهُ مِن جَنَّاتٍ مُختَلِفَةِ الثَّمَارِ وَحَيَوَانَاتٍ، مُتَنَوِّعَةِ الأَجنَاسِ، فهو عَالِم بِيَقِينٍ أَنَّهُ لا قُدرَةَ لَهُ عَلَى خَلقِهَا، وَلا جَلبِهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ للهِ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، القَائِلِ سبحانه :{قُلْ أَرَأَيتُم إِن أَصبَحَ مَاؤُكُم غَورًا فَمَن يَأتِيكُم بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30]، وَالقَائِلِ سبحانه وتعالى: {قُلِ الحَمدُ للهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصطَفَى آللهُ خَيرٌ أَمَّا يُشرِكُونَ . أَمَّن خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهجَةٍ مَا كَانَ لَكُم أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَل هُم قَومٌ يَعدِلُونَ . أَمَّن جَعَلَ الأَرضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَينَ البَحرَينِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَل أَكثَرُهُم لَا يَعلَمُونَ . أَمَّن يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكشِفُ السُّوءَ وَيَجعَلُكُم خُلَفَاءَ الأَرضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ . أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59-63].
واعْلَمُوا أَنَّ التَّفَكُّرَ فِي آيَاتِ اللهِ يُثْمِرُ الخُشُوعَ وَالإِخْلاَصَ، وَأَنَّ مُحَاسَبَةَ النَّفْسِ تُثْمِرُ الإِقْلاَعَ وَالإِقْبَالَ، فَكَيْفَ يَغْفُلُ العَبْدُ وَقَدْ نَصَبَ اللهُ أَمَامَهُ آيَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَرَاهُ مَصَارِعَ الأَقْوَامِ، وَجَعَلَ القُبُورَ بَيْنَ أَيْدِينَا عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ؟،
فيا أَيُّهَا السَّائِرُ في الأَرضِ، وَالمَاشِي في مَنَاكِبِهَا: إِذَا أَعجَبَكَ حُسنُ الرَّبِيعِ وَنُضرَتُهُ، وَاستَهوَاكَ نَبَاتُهُ وَشَدَّتكَ خُضرَتُهُ، وَشَممتَ نَفحَ أَزهَارِهِ، وَنَشقتَ شَذَاهَا، فَفَكِّرْ فِيهِ بَعدَ شُهُورٍ كَيفَ يَصِيرُ؟، وَتَأَمَّلْ كَيفَ يَضمَحِلُّ بَعدَ قَلِيلٍ وَيَتَلاشَى، وَيَتَحَوَّلُ إِلى هَشِيمٍ تَذرُوهُ الرِّيَاحُ؟،
وإِذَا مَرَرتَ في مَسِيرِكَ بِحَائِطٍ فِيهِ أَعجَازُ نَخلٍ خَاوِيَةٍ، وَبِئرٌ مُعَطَّلَةٌ، وَقَصرٌ مَشِيدٌ، فَتَذَكَّرْ مَن عَاشُوا هُنَالِكَ، في خَالي الأَيَّامِ وَمَاضِي السِّنِينَ، وَتَأَمَّلْ كَم بَذَلُوا في غَرسِ حَوَائِطِهِم، وكَم تَحَدَّثُوا عَنهَا مَسرُورِينَ، وَفَاخَرُوا بها مُكَاثِرِينَ، ثم هِيَ الآنَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، كَأَن لم يَكُن بها أَنِيسٌ ولا جَلِيسٌ، تَصَرَّمَت وَانتَهَت، وَمَضَت وَانقَضَت، وهكذا هي الدنيا الفانية.
أيها المسلمون
إن العَاقِلَ يَعرِفُ أَنَّهُ لا مُنتَهَى لأَمَلٍ دُونَ الجَنَّةُ، وَلا خُلُودَ إِلاَّ بِجِوَارِ الرَّحمَنِ فِيهَا، فَيَزهَدُ في الدُّنيَا وَإِن تَزَيَّنَت، وَيَجعَلُهَا وَرَاءَ ظَهرِهِ وَإِن تَجَمَّلَت، أَو يَتَّخِذُهَا مَطِيَّةً إِلى آخِرَتِهِ، وَبَلاغًا في سَفَرِهِ؛
وَأَمَّا المَغرُورُ المَخمُورُ، فَإِنَّهُ يَلعَبُ وَيَلهُو، وَيَرتَعُ وَيَتَمَتَّعُ، فَلا يَشعُرُ إِلاَّ وَقَد يَبِسَ عُودُهُ، وَجَفَّ جَسَدُهُ، وَذَهَبَ صَفَاؤُهُ، وَزَالَ بَهَاؤُهُ، فَيَندَمُ حِينَ لا يَنفَعُ النَّدَمُ،
أَلا فَاتَّقُوا الله، وَاعمَلُوا لِدَارِ الخُلُودِ وَالبَقَاءِ، وَلا تَغُرَّنَّكُم دَارُ الغُرُورِ وَالفَنَاءِ، فقد قال مؤمن آل فرعون ناصحا قومه: (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) (38): (40) غافر
الدعاء
