خطبة حول قوله تعالى (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ )
نوفمبر 8, 2025الخطبة الأولى (الفاروق عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
رُوي في صحيح مسلم: (قَالَ -صلى الله عليه وسلم- «النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ وَأَنَا أَمَنَةٌ لأَصْحَابِي فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ». وفي الصحيحين: (عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ «قَدْ كَانَ يَكُونُ فِي الأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْهُمْ». قَالَ ابْنُ وَهْبٍ تَفْسِيرُ مُحَدَّثُونَ (مُلْهَمُونَ). وفي سنن الترمذي: (عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ».
إخوة الإسلام
أهلُ السُّنَّة والجماعة يُحِبُّون أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم -، ويفضِّلونهم على جميع الخلق بعد الأنبياء؛ لأنَّ محبتهم من محبة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ومحبة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من محبة الله، وهم يُثنون على الصحابة، ويتَرَضَّون عنهم، ويستغفرون لهم؛
ولذا سوف يكون حديثنا اليوم -إن شاء الله تعالى- عن صحابي جليل، ورجلٍ من رجالات الإسلام العظام، وعَلَمٍ من أعلام العدالة والهيبة والإيمان، إنه أمير المؤمنين: (الفاروق عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ (رضي الله عنه).
فالفاروق عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَم من أعلام الأمة، ورجلٍ قلَّ أن يجود الزمان بمثله، وقد لقب بالفاروق؛ لأن الله فرَّق به بين الحق والباطل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو له، كما في سنن الترمذي: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ». قَالَ وَكَانَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْهِ عُمَرُ).وكان الفضل لعمر.
وكان عمر قبل إسلامه من أشد الناس عداوة للإسلام والمسلمين، حتى أنه خرج يوماً متوشحاً سيفه، يريد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغه أن أخته فاطمة وزوجها قد أسلما، فذهب إليهما غاضباً، فلما قرأ شيئاً من سورة (طه) رقَّ قلبه، وقال: دلوني على محمد، فلما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم، قال: جئت لأؤمن بالله ورسوله، فكبَّر المسلمون تكبيرةً سُمِعَتْ في طرقات مكة، ومنذ تلك اللحظة تغيّر وجه التاريخ، فهو (رضي الله عنه) نموذج فريد في قوته وعدله وورعه وزهده، فكان إذا سار في الطريق هرب الشيطان من طريقه، ففي الصحيحين: (اسْتَأْذَنَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -، وَعِنْدَهُ نِسَاءٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُكَلِّمْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ، عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ، فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ، قُمْنَ يَبْتَدِرْنَ الْحِجَابَ، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -، وَرَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَضْحَكُ، فَقَالَ عُمَرُ أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلاَءِ اللاَّتِي كُنَّ عِنْدِي، فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ ابْتَدَرْنَ الْحِجَابَ». قَالَ عُمَرُ فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْتَ أَحَقَّ أَنْ يَهَبْنَ. ثُمَّ قَالَ أَيْ عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ، أَتَهَبْنَنِي وَلاَ تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قُلْنَ نَعَمْ، أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا إِلاَّ سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ »
وكان عمر (رضي الله عنه) وقّافاً عند كتاب الله، فإذا سمع آيةً توقف عندها متدبراً خاشعاً، وإذا ذكر بالقرآن سمع وأطاع، وفي صحيح البخاري: (قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولاً كَانُوا أَوْ شُبَّانًا. فَقَالَ عُيَيْنَةُ لاِبْنِ أَخِيهِ يَا ابْنَ أَخِي، لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ. قَالَ سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ هِيْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَلاَ تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ. فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ – صلى الله عليه وسلم – (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ. وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ)
وكان الفاروق يبكي في صلاته من خشية الله تعالى، حتى يُسمع صوته الذي يرافق البكاء، وكان في خد عمر بن الخطاب خطان أسودان من البكاء، وفي سنن البيهقي: (قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَأُ فِي الْعَتَمَةِ بِسُورَةِ يُوسُفَ، وَأَنَا فِي مُؤَخِّرِ الصُّفُوفِ حَتَّى إِذَا جَاءَ ذِكْرُ يُوسُفَ سَمِعْتُ نَشِيجَهُ فِي مُؤَخَّرِ الصَّفِّ).
وقد كان عمر قويَّ البنية، شديدَ الهيبة، حتى إن الناس كانوا يهابونه قبل الإسلام، فلما أسلم صارت هيبته لله وحده، يخشاها أعداء الدين، كما يخشاها المنافقون والظالمون، فكانت هيبته مضرب المثل، ففي صحيح البخاري: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «إِيهٍ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا إِلاَّ سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ»،
وقال عمرو بن العاص: (ما كنت أستطيع أن أملأ عيني من عمر هيبةً منه)، ومع ذلك فقد كان على وجل وخشية من لقاء الله تعالى، ففي صحيح البخاري: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ قِيلَ لِعُمَرَ أَلاَ تَسْتَخْلِفُ قَالَ إِنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدِ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي أَبُو بَكْرٍ، وَإِنْ أَتْرُكْ فَقَدْ تَرَكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ فَقَالَ رَاغِبٌ رَاهِبٌ، وَدِدْتُ أَنِّي نَجَوْتُ مِنْهَا كَفَافًا لاَ لِي وَلاَ عَلَيَّ لاَ أَتَحَمَّلُهَا حَيًّا وَمَيِّتًا)،
وأسلم عمر في العام السادس من البعثة، وكان إسلامه فتحاً للإسلام، ففي صحيح البخاري: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ – رضي الله عنه – قَالَ مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ)، وكان صريحاً في إيمانه، لا يخشى أحداً إلا الله، فقد خرج إلى الكعبة، وأعلن إسلامه جهاراً، وقال: (من أراد أن تثكله أمه فليلقني خلف هذا الوادي)، فكان الناس يرونه مثالاً في الجرأة على نصرة الحق.
وكان عمر (رضي الله عنه) زاهداً في الدنيا، رغم اتساع ملكه، وشديد الورع في أموال المسلمين، فقد دخل عليه بعض الصحابة يوماً، فوجده نائماً على حصيرٍ، قد أثّر في جنبه، فقال: (حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر)، وجاء في كتاب الزهد للإمام أحمد: (أَصَابَ النَّاسَ سَنَةٌ غَلا فِيهَا السَّمْنُ، وَكَانَ عُمَرُ يَأْكُلُ الزَّيْتَ؛ فَيُقَرْقِرُ بَطْنُهُ، فَيَقُولُ: «قَرْقِرْ مَا شِئْتَ، فَوَاللَّهِ، لا تَأْكُلُ السَّمْنَ حَتَّى يَأْكُلَهُ النَّاسُ»، ثُمَّ قَالَ: «اكْسِرْ عَنِّي حَرَّهُ بِالنَّارِ، فَكُنْتُ أَطْبُخُهُ لَهُ فَيَأْكُلُهُ»، وروى ابن ابي الدنيا: (عَنْ أَبي بكرةَ (رضي الله عنه)، قَالَ: أُتِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ، فَجَعَلَ يَأْكُل مِنْهُ وَيَمْسَحُ بَطْنَهُ، وَيَقُولُ: «وَاللَّهِ لَتُمَرَّنُنَّ أَيُّهَا الْبَطْنُ عَلَى الْخُبْزِ وَالزَّيْتِ مَا دَامَ السَّمْنُ يُبَاعُ بِالأَوَاقِيِّ»،
وفي كتاب الزهد للإمام أحمد: (عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ (لَمَّا قَدِمَ عُتْبَةُ [بن فرقد السلمي] (رضي الله عنه) أَذْرِبِيجَانَ أُتِيَ بِالْخَبِيصِ فَأَمَرَ بِسَفْطَيْنِ عَظِيمَيْنِ فَصُنِعَا لَهُ مِنَ الْخَبِيصِ، ثُمَّ حُمِلَ عَلَى بَعِيرٍ فَسَرَّحَ بِهِمَا إِلَى عُمَرَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ ذَاقَهُ، فَوَجَدَهُ شَيْئًا حُلْوًا، فَقَالَ: «كُلُّ الْمُسْلِمِينَ يَشْبَعُ مِنْ هَذَا فِي رَحْلِهِ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَلا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ، فَأَطْبَقَهُمَا وَرَدَّهُمَا عَلَيْهِ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ: فَلَيْسَ مِنْ كَدِّ أَبِيكَ وَلا مِنْ كَدِّ أُمِّكَ فَأَشْبِعِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا تَشْبَعُ مِنْهُ فِي رَحْلِكَ، قَالَ: وَإِيَّاكُمْ وَزِيَّ الأَعَاجِمِ وَنَعِيمَهَا وَعَلَيْكُمْ بِالْمَعْدِيَّةِ»
وفي كتاب الزهد لأبي داود: (قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ (رضي الله عنه): «رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ رَقَّعَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ أُرَاهُ أَرْبَعَ رِقَاعٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ»،
وفي كتاب الزهد للإمام أحمد: قَالَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ (رضي الله عنها): «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ لَبِسْتَ ثَوْبًا هُوَ أَلْيَنُ مِنْ ثَوْبِكَ، وَأَكَلْتَ طَعَامًا هُوَ أَطْيَبُ مِنْ طَعَامِكَ؛ فَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ (عز وجل) مِنَ الرِّزْقِ وَأَكْثَرَ مِنَ الْخَيْرِ»، قَالَ: إِنِّي سَأَخْصِمُكِ إِلَى نَفْسِكِ، أَمَا تَذْكُرِينَ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَلْقَى مِنْ شِدَّةِ الْعَيْشِ؟ فَمَا زَالَ يُذَكِّرُهَا حَتَّى أَبْكَاهَا، فَقَالَ لَهَا: «إِنْ قُلْتُ لَكِ ذَاكَ إِنِّي وَاللَّهِ لَئِنِ اسْتَطَعْتُ أُشَارِكَنَّهُمَا بِمِثْلِ عَيْشِهِمَا الشَّدِيدِ لِعَلِّي أُدْرِكُ مَعَهُمَا عَيْشَهُمَا الرَّخِيَّ»
وكان عمر يطوف بالأسواق ليلاً، يتفقد أحوال الناس، ويسمع شكواهم، ويقضي حاجاتهم، وفي عام الرمادة، حين أصاب الناس القحطُ والجوع، أقسم ألا يأكل السمنَ ولا اللحمَ حتى يشبع آخرُ مسلمٍ في المدينة، فكان وجهه يصفَرُّ من شدة الجوع، وهو أمير المؤمنين، فيقول له بعضهم: يا أمير المؤمنين، نفسك أحق! فيقول: كيف أكون قائداً وهم جياع؟!
أيها المسلمون
ومن أهم وأعظم صفات الفاروق عمر بن الخطاب عدلُه بين الناس، فهو لا يفرّق بين قريبٍ وبعيد، ولا بين غنيٍّ وفقير، جاءه ابن عمرو بن العاص، وقد تنازع مع رجلٍ من أهل مصر، فحكم عمر بالحق للمصري وقال لعمرو: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟، فخجل عمرو، وعُزِل الجاني، وأعيد الحق لأهله، فكان هذا الموقف رسالة خالدة بأن العدل أساس الملك، وأن هيبة الأمة في عدلها لا في سلطانها.
وكان عمر صاحب رأيٍ سديدٍ، وتفكيرٍ واسعٍ رشيد في أمور الدولة، ففي سنن البيهقي: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : أَوَّلُ مَنْ دَوَّنَ الدَّوَاوِينَ وَعَرَّفَ الْعُرَفَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ).وأول من أسس التقويم الهجري، ورتب شؤون الجند والعطاء، واهتم بالقضاء، وكان يستشير كبار الصحابة، فيقول: لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها، فصار مثالاً للحاكم العادل الذي يشارك الأمة رأيها، ويستمع إلى النصيحة.
وقد أحب النبي ﷺ عمرَ وأثنى عليه، ففي مسند أحمد: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ»، وكان عمر يقول: (اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحدٍ فيه شيئاً). وفي سنن الترمذي: (قَالَ ابْنُ عُمَرَ مَا نَزَلَ بِالنَّاسِ أَمْرٌ قَطُّ فَقَالُوا فِيهِ وَقَالَ فِيهِ عُمَرُ أَوْ قَالَ ابْنُ الْخَطَّابِ فِيهِ شَكَّ خَارِجَةُ إِلاَّ نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ عُمَرُ).
أيها المسلمون
ومن فضائل عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة: ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي مُوسَى – رضي الله عنه – قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فِي حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَاسْتَفْتَحَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ». فَفَتَحْتُ لَهُ، فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ، فَبَشَّرْتُهُ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَاسْتَفْتَحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ». فَفَتَحْتُ لَهُ، فَإِذَا هُوَ عُمَرُ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – فَحَمِدَ اللَّهَ، …)
ومن فضائله: رُوي في الصحيحين: (عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ «قَدْ كَانَ يَكُونُ فِي الأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْهُمْ». قَالَ ابْنُ وَهْبٍ تَفْسِيرُ مُحَدَّثُونَ (مُلْهَمُونَ). وفي سنن الترمذي: (عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ». وفي سنن الترمذي ومسند أحمد: (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ»، وفيه : (عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «رَأَيْتُ كَأَنِّي أُتِيتُ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ مِنْهُ فَأَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ». قَالُوا فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «الْعِلْمَ».
ومن فضائله رضي الله عنه: أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (سمعتُ عمر بن الخطاب يومًا، وقد خرجتُ معه حتى دخل حائطًا، فسمعتُه يقول وبيني وبينه جدار، وهو في جوف الحائط: عمر بن الخطاب، أمير المؤمنين، بخٍ، والله – بُنَيَّ الخطاب – لتتقينَّ الله أو ليعذبنَّك)، وقال أيضًا رضي الله عنه: (أحبُّ الناس إليَّ مَن رَفَعَ إليَّ عيوبي).
وفي أيام خلافته رضي الله عنه: تمَّ فتح الشام والعراق والقدس، والمدائن ومصر والجزيرة، وقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك: ففي الصحيحين: (أن أَبَا هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي عَلَى قَلِيبٍ عَلَيْهَا دَلْوٌ، فَنَزَعْتُ مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ أَبِى قُحَافَةَ، فَنَزَعَ بِهَا ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ، وَفِى نَزْعِهِ ضَعْفٌ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ضَعْفَهُ، ثُمَّ اسْتَحَالَتْ غَرْبًا، فَأَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَنْزِعُ نَزْعَ عُمَرَ، حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ»
وقد أُعطَي الفَارُوقُ عِلْمًا، ونَظَرًا ثَاقبًا وفَهمًا، وشَفَافِية وذِهنًا، ورُؤْيةً وَاسعةً وحِكْمةً، وربما رأى الفاروقُ رضي الله عنه رأيًا، أو خَطَرَ على باله خاطرٌ، فيأتي الوحيُ مؤيِّدًا رأيه، وهذا ما عُرف بالموافقات، وقد حدث ذلك معه مرات عديدة، ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلاَثٍ ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَنَزَلَتْ (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) وَآيَةُ الْحِجَابِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ، فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ. فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ، وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُنَّ (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ). فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ [التحريم:5]،
ومن ذلك كراهته رضي الله عنه صلاةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على المنافقين، وكراهته للخمر، وحرصه على تحريمها، وكان يقول في ذلك: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانا شافيًا، فنزل التحريم لها، وموافقته رضي الله عنه للرؤية التي أُري فيها الأذان، والتي أقرَّ بعدها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أذان عبد الله بن زيد، الذي رآه أيضًا في منامه، ونزل بذلك الوحي مُصدِّقًا لذلك.
وقال عنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (ما على ظهر الأرض رجلٌ أحبُّ إليَّ مِن عمر). وقال عليٌّ رضي الله عنه فيه: (إذا ذُكر الصالحون، فحيهلا بعمر، ما كنا نُبْعِدْ أن السكينة تنطق على لسان عمر). وقال عنه الحسَن البصري: (كان رضي الله عنه في إزاره اثنتا عشرة رقعة بعضها مِن أُدم، وهو أمير المؤمنين). وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: (رأيتُ عمر بن الخطاب رضوان الله عليه أخذ تبنة مِن الأرض، فقال: ليتني كنتُ هذه التبنة، ليتني لم أُخْلَق، ليت أمي لم تلدني، ليتني لم أكُ شيئًا، ليتني كنت نسيًّا منسيًّا).
ومن مواقفه الخالدة يوم أن طُعن وهو يصلي بالناس، فلما سقط قيل له: إنهم قتلوك، فقال: إن يكن أجلي قد حضر فمرحباً بالموت، وإن تكن حياة فالحمد لله على بلاءٍ يكفّر الله به الذنوب. فكان موته كما كانت حياته: ثباتٌ وإيمانٌ ورضاً بقضاء الله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية (الفاروق عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
قال الله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [النور: 55]. فما أعظمَ أن نستلهم من سيرة الفاروق دروساً تنفعنا في واقعنا، فقد علّمنا عمر: أن السلطة لا تفسد القلب إذا كان خاشعاً لله، وأن العدل لا يعرف محاباة، وأن الراعي مسؤولٌ عن رعيته، فكان يقول: لو عثرت بغلةٌ في العراق لسألني الله عنها، لمَ لمْ تمهّد لها الطريق يا عمر؟، فهذه كلمة تختصر معنى الأمانة في الحكم والرعاية، وتُبيّن أن المسؤولية أمام الله أعظم من كل جاهٍ أو سلطان.
والفاروق عمر (رضي الله عنه) لم يكن بطلاً في الحرب فقط، بل كان بطلاً في تربية النفس ومحاسبتها، فكان يخرج ليلاً وحده يتفقد الرعية، فيسمع بكاء الأطفال، فيسأل أمهم، فتقول: إنهم يبكون من الجوع، فيعود إلى بيت المال ويحمل الدقيق على كتفه، فيقول له خادمه: أنا أحمله عنك. فيقول عمر: أتحمل عني ذنوبي يوم القيامة؟!، هكذا كان يعيش الإحساس بالمسؤولية أمام الله تعالى.
وقد جسّد الفاروق عمر معنى قول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ [النحل:90]، فكان عدله رحمة، وإحسانه طمأنينة، وزهده برهان صدق إيمانه، فلو اقتدى حكام المسلمين بعدله، وتجّارهم بأمانته، وعلماؤهم بورعه، لأصلح الله الأمة كما أصلح الله به الزمان.
أيها المسلمون
إن سير العظماء لا تُروى لمجرد التاريخ، بل للعبرة والاعتبار، فلنستحضر سيرة عمر في حياتنا اليومية: في بيوتنا بالعدل بين أهلنا، وفي أعمالنا بالأمانة والإتقان، وفي تعاملنا مع الناس بالرحمة والتواضع، ولْنَتَذكَّر قول النبي ﷺ كما في صحيح مسلم: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ)، فقد كان عمر تجسيداً لهذا الحديث؛ قوةً في الحق، ورحمةً بالخلق.
ومن دروس حياته: أن القوة لا تعني القسوة، وأن الحزم لا ينافي الرحمة، فقد كان عمر (رضي الله عنه) شديداً في الحق، ليناً في مواضع اللين، فإذا ذكر الله بكى، وإذا سمع القرآن خرَّ ساجداً، وكان يقول: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن تُوزَن عليكم». فيا من تريد النجاة، اقتدِ بعمر في محاسبته لنفسه قبل يوم الحساب.
وقد ختم الله له بالشهادة وهو قائم يصلي بالناس صلاة الفجر، إذ طعنه أبو لؤلؤة المجوسي، فوقع مضرجاً بدمه، وقال وهو ينازع أنفاسه الأخيرة: «الحمد لله الذي لم يجعل موتي على يد رجلٍ يدّعي الإسلام». ثم أوصى أن يُدفن بجوار صاحبيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق،
وقد افتقدت الأمة عمر يوم طُعن، وبكت عليه الألسن والقلوب، دخل عليه ابن عباس رضي الله عنهما فقال: أبشر يا أمير المؤمنين، صحبت رسول الله فكان عنك راضياً، وخلفت أبا بكر فكان عنك راضياً، وتوفيت والناس عنك راضون، فقال عمر: أما والله، لوددت أن أخرج منها كفافاً لا لي ولا علي.
فرحم الله الفاروق، فقد عاش عظيماً، ومات شهيداً، وبقي اسمه يذكِّر الأجيال بأن الأمة لا تنهض إلا بالعدل والخوف من الله.
فاتقوا الله أيها المسلمون، واعتبروا بسيرة أولئك العظماء، واعلموا أن العدل أساس الملك، وأن الخوف من الله زاد القلوب في طريق الآخرة.
الدعاء
