خطبة عن (الرَّجَاءُ بِغَيْرِ عَمَلٍ غُرُورٌ)
نوفمبر 11, 2025الخطبة الأولى (خُطُورَةُ التَّحَايُلِ عَلَى ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (163) الأعراف، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ (البقرة:65)
إخوة الإسلام
في هذه الآيات المباركات من كتاب الله العزيز يحذر الله عباده من خُطُورَة التَّحَايُلِ عَلَى ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ، ومخالفة أوامر الله، وارتكاب نواهيه، فهؤلاء القوم من اليهود كانت قريتهم بقرب البحر، وكان أهلها يعتدون في يوم السبت على حرمات الله، حيث أمرهم أن يعظموا يوم السبت، ولا يصيدوا فيه سمكًا، فابتلاهم الله وامتحنهم؛ فكانت حيتانهم تأتيهم يوم السبت كثيرة طافية على وجه البحر، وإذا ذهب يوم السبت تذهب الحيتان في البحر، ولا يرون منها شيئًا، فكانوا يحتالون على حبسها في يوم السبت في حفائر، ويصطادونها بعده، وهذه صورة من صور كثيرة تحايَلوا بها على تحقيق أغراضهم، بشيء حرَّمه الله عليهم، كما حرَّم عليهم شحوم الذبائح ـ وهي عادة تكون متماسِكة جامدة كاللّحم ـ فأذابوها لتصير سائلاً وتتحوّل عن حالتِها الأولى، وقد ابْتلاهم الله بمثل هذه التكاليف؛ لأنهم قوم فاسقون عاصون لله، فكانت عقوبتهم أن مسخ الله صورتهم، وجعل منهم القردة والخنازير،
والهدف المباشر من هذه القصة أن تترفع هذه الأمة عما وقعت فيه الأمم الأخرى من انحراف، وأن يرتفع أفراد هذه الأمة عما وقع فيه أفراد من أمم أخرى من المعاصي، وتمثل هذه القصة درسا لمن خالف أمر الله بحيلة من الحيل، فهدي الله المنزل يجب أن يُطبق بقوة، وليحذر المتحايلون على حرمات الله عقابه الأليم.
أيها المسلمون
إن من أخطر ما يُبتلى به الناسُ أن يحتالوا على محارم الله، بحيلٍ ظاهرها الطاعة وباطنها المعصية، فيُزيِّن لهم الشيطانُ أعمالَهم، حتى يظنّوا أنهم على خير، وهم في الواقع يخادعون الله، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون، فكم نرى من يتحايل في البيع والشراء بالربا ويقول: هذه حيلةٌ شرعية؟، وكم نرى من يترك الصلاة أو يتهاون في الحجاب أو ينشر المنكرات باسم الحرية أو المصلحة!،
ورأينا اليوم أنواعًا من التحايل يندى لها الجبين؛ تحايلٌ على الزكاة بالهروب من أدائها، وتحايلٌ في العمل والغشّ باسم النظام، وتحايلٌ على الحجاب بملابس لا تستر، وتحايلٌ على ترك المحرمات بتأويلات باطلة وشبهات مزخرفة. وكأنّ القوم لم يسمعوا قول النبي ﷺ: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُسَمُّونَ الرِّبَا بِغَيْرِ اسْمِهِ» (رواه أحمد).
ومن صور التحايل على الربا: إذا أراد زيد أن يشتري ذهبا أو شيئا ما، فذهب معه عمرو إلى التاجر، وقام زيد باختيار ما يريد، ولكن عمرو هو الذي دفع الثمن، على أن يسدد له زيد المبلغ على أقساط، مضافا إليها فوائد مالية، على اعتبار أنه بيع بالتقسيط.
ومن صور التحايل على الربا: أن يُدخلا بينهما محلِّلاً للربا، يشتري السلعة منه آكل الربا، ثم يبيعها المعطي للرِّبا إلى أجلٍ، ثم يعيدها إلى صاحبها بنقص دراهم، يستفيدها المحلِّل.
ومن صور التحايل: التحايلُ للفِرار من أداءِ الزكاة، وذلك ببَيع النصابِ أو هبَتِه أو استبداله قبل الحَول ثم الرجوع فيه، وقد حذَّرنا الحبيب من ذلك في قوله: «لا يُجْمَع بين متَفرِّقين، ولا يُفرَّق بين مجتمعٍ؛ خشيةَ الصدقة» رواه أحمد والنسائي.
ومن صور التحايل: الحيلةُ في إسقاطِ ما وجَب في الحال، كالنّفقة على المطلَّقة أو أداءِ الدّين ؛فيخادعُ المرء ربَّه، وما يخادع المغرورُ إلا نفسَه، فيُملِّك مالَه زوجتَه أو ولده، فيُسقِط ما وجَب عليه، بزَعم الإعسار، ألا ساءَ ذلك الاحتيال والمسار!
ومن صور التحايل: التحايلُ في استرجاع شيء من المهر، لمن عزَم الطلاق، مضارَّةً للزوجة؛ فتجعَل المسكينةُ مالها لخلعِه لِقاءً ولشره اتِّقاءً، وفي هذا التحايُل الكائِد يقول الحقُّ تبارك وتعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: 229).
ومن صور التحايل: الخديعةُ بالرّجعة بعد الطلاق، لا للألفَة والوِفاق، بل لأجلِ الاعتداء والإضرارِ والإباق، وفي فضحِ هذه الحيلة وهتكها يقول العزيز الجبار جلّ جلاله: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا} (البقرة:231).
ومما يندَرج في الاحتيالِ المحرَّم: مضارَّة الورَثة في أنصبائِهم وسهامِهم حجبًا وحرمانًا، إيصاءً بأكثر من الثلث أو نقصانا.
ومن صور التحايل: حِيلٌ لزيجات ذاتِ أسماء ومسمَّيات، جُلُّها يندرج تحت إشباع الغرائز والنّزوات بعد أن أُسقِطت المودَّة والواجبات وغُيِّبت الرحمة والالتزامات، فظاهرها أمر صحيحٌ، ولكن فَحوَاها تدليس صَريح، يقول صلى الله عليه وسلم: «لا ترتكِبُوا ما ارتَكبتِ اليهودُ، فتسْتحِلُّوا محارمَ اللهِ بأدْنى الِحيَل» رواه الترمذي وغيره بإسنادٍ حسن.
ومن صور التحايل: تمييعُ قضايا الدين باسم المصلحةِ واليُسر والتلفيق تارةً والمرونة والتطوّر الحضاري أخرى، نعم ذلك حقٌّ وايم الحقّ، لكن تلك مصطلحات لها دلالتها ومضامينها، لا تُرسَل على عواهِنها دون قيدٍ ورابط وقرينةٍ وضابط،
ومن أعظم صور التحايل أن يعمل المرء بالمعصية، ثم يُبرّرها بحجة حسن النية أو المصلحة أو الضرورة، دون تقوى ولا ورع، وما أكثر من يقول اليوم: “قلبي أبيض، والله غفور رحيم” ثم يرتكب الكبائر، وينسى أن الله شديد العقاب، وأن رحمته لا تكون إلا لمن تاب وآمن وعمل صالحًا، وكل ذلك من جنس حيلة أصحاب السبت، وإن اختلفت الصور والعصور.
أيها المسلمون
والحيلة في الدين ليست ذكاءً ولا فقهًا، بل هي مرض في القلب وضعف في الإيمان، قال ابن القيم رحمه الله: «المتحيِّل على الحرام هو مستخفٌّ بأمر الله، مُستدرِكٌ على شرعِه، ظانٌّ أنه أذكى من أن يُحرَّم عليه ما حرّم الله». فأين هؤلاء من قول الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) (8): (12) البقرة، وأين هم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في سنن ابن ماجه: (عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا يُعْزَفُ عَلَى رُءُوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ وَالْمُغَنِّيَاتِ يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ وَيَجْعَلُ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ». وفي سنن الدارمي: (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُكْفَأُ». قَالَ زَيْدٌ يَعْنِي الإِسْلاَمَ: «كَمَا يُكْفَأُ الإِنَاءُ كَفْيَ الْخَمْرِ». فَقِيلِ: فَكَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِيهَا مَا بَيَّنَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا فَيَسْتَحِلُّونَهَا».
أيها المسلمون
فلنحذر من حيل الشيطان، فهو يُزيِّن الباطل، حتى يُخدع به المؤمن، كما قال تعالى: ﴿وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ (60) النساء، واعلموا أن من تعمّد التحايل على أوامر الله، فقد هدم سياج الدين في قلبه، واستبدل طاعة الهوى بطاعة المولى، ومن أراد النجاة، فليجعل خوف الله أمامه، وليتذكّر أن الله لا تُخدع حكمته ولا تُغلب قدرته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية (خُطُورَةُ التَّحَايُلِ عَلَى ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
إن التحايل على الدين لم يكن يوماً طريقَ الصالحين، ولا سبيلَ المخلصين، وقد كان المؤمنون الصادقون إذا سمعوا أمر الله قالوا: (سمعنا وأطعنا). أما ضعاف الإيمان فيقولون: كيف نخرج من هذا الحكم بحيلةٍ أو تأويل؟، فتُقسى قلوبهم، ويُحرمون بركة الطاعة،
وقصة أصحاب السبت ليست حكاية للتاريخ، بل هي عظةٌ باقية لكل زمان، يقول الله بعدها مباشرة: ﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة:66). أي جعلناها عقوبةً لمن فعل، وموعظةً لمن يأتي بعدهم حتى لا يقع فيما وقعوا فيه.
فيا من يبرّر لنفسه الحرام، اتقِ الله، واعلم أن الحيلة لا تُغني عنك من الله شيئًا.
ويا من تُخادع الناس بمظهر الصلاح وأنت ترتكب المحرمات في الخفاء، تذكّر أن الله لا تخفى عليه خافية، وأنه يعلم السر وأخفى. قال تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ (غافر:19).
واعلموا أن النجاة في الصدق مع الله، لا في الخداع والمراوغة، فليجعل كلٌّ منا بينه وبين الحرام حاجزًا من التقوى، ولْيعلم أنّ الدنيا زائلة، وأن من ترك شيئًا لله عوّضه الله خيرًا منه، قال النبي ﷺ كما في مسند أحمد: «إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئاً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ بَدَّلَكَ اللَّهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ»،
فاحذروا من الحيل والمكر، وكونوا صرحاء مع أنفسكم في طاعة الله، فالدين ليس بالأقوال ولكن بالعمل الصادق. فاللهم طهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، واجعلنا من عبادك الصادقين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
الدعاء
