خطبة عن (نعمة الوقت)
نوفمبر 15, 2025الخطبة الأولى (الطَّمَعُ: صوره وأسبابه ونتائجه وعلاجه)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
قال تعالى: (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ) (88) الحجر، وفي صحيح مسلم: (قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ الضَّعِيفُ الَّذِي لاَ زَبْرَ لَهُ الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعًا لاَ يَتْبَعُونَ أَهْلاً وَلاَ مَالاً وَالْخَائِنُ الَّذِي لاَ يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ وَإِنْ دَقَّ إِلاَّ خَانَهُ وَرَجُلٌ لاَ يُصْبِحُ وَلاَ يُمْسِي إِلاَّ وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ»، وفي مسند أحمد: (عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ طَمَعٍ يَهْدِي إِلَى طَبْعٍ وَمِنْ طَمَعٍ يَهْدِي إِلَى غَيْرِ مَطْمَعٍ وَمِنْ طَمَعٍ حَيْثُ لاَ طَمَعَ»، وفي سنن الترمذي: (بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ طَمَعٌ يَقُودُهُ)،
إخوة الإسلام
بداية: من المعلوم أن الطَّمع نوعان، هما: الطَّمع المحمود، وذلك مثل: طَّمع المؤمن في مغفرة الله، وطَّمعه في دخول الجنة، والطَّمع في كرم الله. أما الطَّمع المذموم: فمثله: الطَّمع في طلب الدنيا، وجمع المال، والطَّمع في السلطة أو المنصب، والطَّمع في المأكل والمشرب والملذات، لذا قال بعض العارفين: (الطَّمع طمعان: طمع يوجب الذُّل لله، وهو إظهار الافتقار ،وغايته العجز والانكسار، وغايته الشرف والعز والسعادة الأبدية، وطمع يوجب الذُّل في الدارين، وهو رأس حب الدنيا، وحب الدنيا رأس كلِّ خطيئة، والخطيئة ذلٌّ وخزي،
وحقيقة الطَّمع: أن تعلِّق همتك، وقلبك، وأملك، بما ليس عندك، فإذا أمطرت مياه الآمال على أرض الوجود، وألقي فيها بذر الطَّمع، بسقت أغصانها بالذُّل، ومتى طمعت في الآخرة، وأنت غارق في بحر الهوى، ضللت وأضللت)
أيها المسلمون
وحديثنا اليوم –إن شاء الله تعالى- عن الطمع المذموم: فإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْآفَاتِ الَّتِي ابْتُلِيَتْ بِهَا النُّفُوسُ، وَتَنَافَسَتْ بِسَبَبِهَا الْقُلُوبُ، دَاءً يُفْسِدُ الْأَعْمَالَ، وَيُعَكِّرُ صَفْوَ الْعَيْشِ، وَيَقْطَعُ الصِّلَاتِ، وَيَهْدِمُ الْمَبَادِئَ، أَلَا وَهُوَ (داء الطَّمَع المذموم)؛ ذَلِكَ الْمَرَضُ الَّذِي يَبْدَأُ فِكْرَةً صَغِيرَةً، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى شَهْوَةٍ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى عُبُودِيَّةٍ، تُخْضِعُ صَاحِبَهَا لِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَتَجْعَلُهُ أَسِيرًا لِرَغَبَاتِهِ، مُنْقَادًا لِشَهَوَاتِهِ، مُتَطَلِّعًا إِلَى مَا لَيْسَ لَهُ، نَاسِيًا مَا وَهَبَهُ اللَّهُ مِنْ نِعَمٍ عَظِيمَةٍ، ولهذا، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله “من نفس لا تشبع”، ففي سنن الترمذي: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ وَمِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ وَدَعْوَةٍ لاَ تُسْتَجَابُ». وفي سنن الترمذي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلاَ فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ». وفيه أيضا: «وَلَوْ أَنَّ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ مَالٍ لاَبْتَغَى إِلَيْهِ ثَانِيًا وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَانِيًا لاَبْتَغَى إِلَيْهِ ثَالِثًا وَلاَ يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ»، فالطمع مِنْ أَعْظَمِ مَا يُبْتَلَى بِهِ الْقَلْبُ، فِي طَرِيقِ سَيْرِهِ إِلَى اللهِ، فَهُوَ نَارٌ خَفِيَّةٌ، إِذَا اشْتَعَلَتْ أَحْرَقَتِ الْيَقِين، وَأَطْفَأَتْ نُورَ الْقَنَاعَةِ، وَأَوْرَثَتْ صَاحِبَهَا الذُّلَّ وَالْهَوَانَ.
وَالطَّمَعُ: لَيْسَ مُجَرَّدَ رَغْبَةٍ، بَلْ هُوَ تَعَلُّقٌ مَرَضِيٌّ، يَأْسِرُ النَّفْسَ فَلَا تَشْبَعُ، وَلَا تَقْنَعُ، وَلَا تَهْدَأُ، وَلَا تَرَى مَا فِي يَدِ اللهِ، وَإِنَّمَا تَلْهَثُ خَلْفَ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، فمن كان ذا طمع مسيطر على قلبه، فإن الذل قرينه؛ لأنه يبذل عرضه في سبيل تحقيق ما هوته نفسه، وطمع فيه قلبه؛ ولو لم يكن في الطمع إلا تضيع العمر، في طلب رزق قد تكفل الله به، لكفى بذلك زجرًا، فكيف وفي الطمع التعب الدائم، وتحقير النفس وإذلالها، ونقص الثقة بالله عز وجل، مع شعور صاحبه بفقر دائم، وفي مسند أحمد: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (وَلاَ يَفْتَحُ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلاَّ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ»
وإذا كان الطمعُ داءً كبيراً، فإن الخطر الأكبر أن يتجاهله الإنسان، أو يبرره لنفسه، أو يظن أنه غير موجود فيه، فالنفس البشرية جبلت على حب الدنيا، والطمع جزء من تركيبتها، ولا ينجو من هذا إلا من نجا بالله، وقويت صلته بربه، وراقب قلبه، وجاهد شهواته.
فالطمع إذا استقر في القلب أعمى البصيرة، وجرّ صاحبه نحو الذنوب، وربما أوقعه في الكبائر، وربما أفسد عليه علاقاته، ودينه، وسمعته، وآخرته، والطمع يؤدي إلى الشح والبخل، وفي صحيح مسلم: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «… وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ».
أيها المسلمون
والطَّمَع لَيْسَ مُجَرَّدَ حُبٍّ لِلْمَالِ، أَوِ التَّطَلُّعِ لِلزِّيَادَةِ، بَلْ هُوَ إِفْرَاطٌ فِي التَّعَلُّقِ، وَإِسْرَافٌ فِي الرَّغْبَةِ، وَخُرُوجٌ عَنْ حَدِّ الِاعْتِدَالِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَالطَّمَعُ إِذَا سَكَنَ الْقَلْبَ أَضْعَفَ التَّوَكُّلَ، وَأَطْفَأَ نُورَ الرِّضَا، وَسَلَبَ صَاحِبَهُ لَذَّةَ الْقَنَاعَةِ، حَتَّى لَوْ مَلَكَ خَزَائِنَ الدُّنْيَا، فمَظَاهِر الطَّمَعِ كَثِيرَةٌ، وصوره تَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَتَتَنَوَّعُ بِحَسَبِ أَحْوَالِ النَّاسِ،
فَمِنْ صُوَرِ الطَّمَعِ: أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ إِلَى مَا أَعْطَى اللَّهُ غَيْرَهُ، فَيَسْتَقِلَّ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَيَسْتَعْظِمَ مَا عِنْدَ أَخِيهِ، وَيَظُنَّ أَنَّ الْخَيْرَ مَحْصُورٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْمَنَاصِبِ، وَيَفُوتُهُ أَنَّ النِّعْمَةَ الْحَقِيقِيَّةَ هِيَ سَكِينَةُ الْقَلْبِ، وَبَرَكَةُ الْعُمْرِ، وَصَلَاحُ الْبَالِ، وفي صحيح ابن حبان: (انظر إلى من تحتك ولا تنظر إلى من فوقك فإنه أجدر أن لا تزدري نعمة الله عندك)
وَمِنْ صور الطمع ومَظَاهِرِهِ: أَنْ يَتَحَايَلَ الْإِنْسَانُ عَلَى الشَّرْعِ لِلْحُصُولِ عَلَى مَكَاسِبَ مَادِّيَّةٍ، فَيُلْبِسَ الْحَرَامَ ثَوْبَ الْحَلَالِ، وَيُغَلِّفَ الرِّبَا بِغِطَاءِ التِّجَارَةِ، وَيُزَيِّنَ الْغِشَّ بِأَنَّهُ ذَكَاءٌ وَاسْتِثْمَارٌ. وَهَذَا – وَاللَّهِ – مِنْ أَخْطَرِ أَبْوَابِ الطَّمَعِ، لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْأَكْلِ الْحَرَامِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِحُدُودِ اللَّهِ. وَمِنْ صُوَرِ ومظاهر الطَّمَعِ كَذَلِكَ: تَعَلُّقُ بَعْضِ النَّاسِ بِالْمَنَاصِبِ، وَلَوْ عَلَى حِسَابِ الدِّينِ وَالْأَمَانَةِ، فَيُرَى الْمَرْءُ يَطْلُبُ الشُّهْرَةَ وَالرِّفْعَةَ، وَيُنَافِسُ فِي الظُّهُورِ، وَيَتَزَاحَمُ عَلَى مَا لَا يَنْفَعُ، وَرُبَّمَا خَانَ الْأَمَانَةَ، أَوْ ظَلَمَ النَّاسَ، أَوْ غَفَلَ عَنْ وَاجِبَاتِهِ الْأُسَرِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بَحْثًا عَنْ مَجْدٍ زَائِلٍ.
ومِنْ صُوَرِ الطَّمَعِ: أَنْ يَتَحَوَّلَ الْمَالُ مِنْ وَسِيلَةٍ إِلَى غَايَةٍ، فَيُصْبِحَ الْمَرْءُ يَبِيعُ لِأَجْلِهِ دِينَهُ وَعِرْضَهُ وَضَمِيرَهُ، وَيَتَنَازَلُ عَنْ مَبَادِئِهِ، وَيَتَجَاوَزُ حُدُودَ رَبِّهِ.
وَمِنْ صُوَرِهِ: التَّسَوُّلُ بِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَاسْتِعْطَافُ النَّاسِ بِغَيْرِ مُسَوِّغٍ، وَالتَّطَلُّعُ إِلَى مَا عِنْدَ الْآخَرِينَ مِنْ رِزْقٍ، وَالْحَسَدُ لِمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ.
وَمِنْ صُوَرِ الطَّمَعِ الْمُنْتَشِرَةِ: التَّحَايُلُ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْوُصُولِ إِلَى مَكَاسِبَ مَالِيَّةٍ مُحَرَّمَةٍ؛ كَالْقُرُوضِ الرِّبَوِيَّةِ الْمُغَلَّفَةِ، أَوِ الْعُقُودِ الْمَشْبُوهَةِ، أَوِ الِاتِّفَاقَاتِ الَّتِي ظَاهِرُهَا الْحِلُّ وَبَاطِنُهَا الْحَرَامُ. وَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: مَنْ تَحَايَلَ عَلَى الْحَرَامِ وَقَعَ فِيهِ، وَكَانَ إِثْمُهُ أَشَدَّ، لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَعْصِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِأَمْرِ اللهِ.
وَمِنْ صُوَرِ الطَّمَعِ: الطمع في الشهرة والمدح والثناء، فيطلب المرء أن يمدحه الناس، ويعظموه، ولو كان خاليا من الخير.
وَمِنْ صُوَرِ الطَّمَعِ: الطمع في الميراث، فكم رأينا من يقطع رحمه، ويعتدي على حقوق إخوته وأخواته وأقاربه بسبب حفنة من المال، وكذا الطمع في الربح السريع، فيلقي المرء بماله في معاملات محرمة، أو يدخل قلبه في تجارة مشبوهة، أو يبحث عن المكاسب بلا تعب ولا جهد.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
ومِنْ أهم أَسْبَابِ الطَّمَعِ: ضَعْفَ الْيَقِينِ بِوَعْدِ اللَّهِ، وَالْجَهْلَ بِحَقِيقَةِ الدُّنْيَا، وَقِلَّةَ ذِكْرِ اللَّهِ، وَالِانْغِمَاسَ فِي التَّرَفِ، وَكَثْرَةَ الْمُقَارَنَاتِ، وَالتَّعَرُّضَ لِمَظَاهِرِ حَيَاةِ النَّاسِ فِي وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ، الَّتِي صَارَتْ تُزَيِّنُ الدُّنْيَا تَزْيِينًا، وَتَرْبِطُ السَّعَادَةَ بِكَثْرَةِ الْأَشْيَاءِ، لَا بِبَرَكَةِ الرُّوحِ،
وَمِنْ أَسْبَابِهِ أَيْضًا: ضَعْفُ التَّرْبِيَةِ الْإِيمَانِيَّةِ، وَغِيَابُ الْقُدْوَةِ، وَالْبِيئَةُ الَّتِي لَا تُذَكِّرُ بِاللَّهِ، وَلَا تَزْرَعُ الْقَنَاعَةَ.
وَمن أَسْبَاب الطَّمَعِ: الِاغْتِرَارُ بِالدُّنْيَا، وَالرِّفْقَةُ السَّيِّئَةُ، وَمَجَالِسُ اللهْوِ، وَالِانْغِمَاسُ فِي الْمُقَارَنَاتِ، وَكَثْرَةُ النَّظَرِ إِلَى مَا عِنْدَ النَّاسِ، وَالِاشْتِغَالُ الْمُفْرِطُ بِالتَّرَفِ وَزُخْرُفِ الْحَيَاةِ. وَمِنْ أَسْبَابِهِ كَذَلِكَ: عدم الرضا بما قسم الله، ونسيان قوله تعالى: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (32) الزخرف
أما عن آثار الطمع ونتائجه: فإِنَّ الطَّمَعَ يُفْسِدُ الْعَلَاقَاتِ، وَيُمَزِّقُ الْأُسَرَ، وَيُوَلِّدُ الْخُصُومَاتِ، وَقَدْ يُوقِعُ الْعَبْدَ فِي ظُلْمِ غَيْرِهِ، أَوْ فِي أَكْلِ أَمْوَالِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمِنْ أَعْظَمِ نَتَائِجِهِ أَنَّهُ يَحْجُبُ الْقَلْبَ عَنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ، وَيَجْعَلُ صَاحِبَهُ يَظُنُّ أَنَّ رِزْقَهُ لَنْ يَصِلَ إِلَّا بِالْحِيلَةِ، أَوْ بِالْمُنَافَسَةِ الْمُحَرَّمَةِ، أَوْ بِالتَّعَدِّي، وَهَذَا كُلُّهُ يُنَاقِضُ الْإِيمَانَ الْحَقَّ.
ومن نَتَائِج الطَّمَعِ: الْقَلَقُ الدَّائِمُ، وَسُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ، وَالْحِرْصُ الَّذِي يُورِثُ التَّعَبَ النَّفْسِيَّ، وَالْبُعْدُ عَنِ التَّوَكُّلِ، وَالرَّكْضُ خَلْفَ الْهَوَى، حَتَّى يَفْقِدَ الْمَرْءُ بَرَكَةَ عُمْرِهِ وَمَالِهِ.
وَمِنْ نَتَائِجِهِ: قَطِيعَةُ الْأَرْحَامِ، وَتَهَالُكُ النَّاسِ عَلَى الدُّنْيَا، وَظُهُورُ الْخُصُومَاتِ، وَانْتِشَارُ الْغِشِّ وَالرِّبَا، وَفَسَادُ الْبُيُوتِ، وَنُزُولُ الْعُقُوبَاتِ، وَذَهَابُ الْبَرَكَةِ وَالنُّورِ.
وَمِنْ نَتَائِجِهِ كَذَلِكَ: أَنَّ الطَّمَّاعَ لَا يَهْنَأُ بِعَيْشٍ، فَهُوَ وَإِنْ جَمَعَ الْمَالَ فَلَنْ يَطْمَئِنَّ، لِأَنَّهُ يَخَافُ نَفَادَهُ، وَيَسْتَكْثِرُ قَلِيلَهُ، وَيَتَطَلَّعُ إِلَى الْمَزِيدِ، وَقَدْ قِيلَ: الطَّمَعُ فَقْرٌ، وَالْقَنَاعَةُ غِنًى.
فاعْلَمْ أَنَّ الطَّمَعَ يَطْرُدُ السَّكِينَةَ مِنْ قَلْبِكَ، وَأَنَّ الْقَنَاعَةَ تَجْلِبُ لَكَ رَاحَةً لَا يُعْطِيهَا مَالٌ، وَأَنَّ مَا كُتِبَ لَكَ سَيَأْتِيكَ وَلَوْ كُنْتَ فِي أَعَالِي الْجِبَالِ، وَمَا لَمْ يُكْتَبْ لَكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ أَنْ تَأْخُذَهُ وَلَوْ كَانَتْ مَفَاتِيحُ الدُّنْيَا فِي يَدِكَ، فَخُذْ مِنَ الدُّنْيَا مَا يَكْفِيكَ، وَاتْرُكْ مَا يُطْغِيكَ، وَاحْفَظْ قَلْبَكَ مِنَ التَّعَلُّقِ بِهَا، فَإِنَّهَا تَغْدِرُ بِكُلِّ مُتَعَلِّقٍ، وَلَا تَبْقَى لِأَحَدٍ.
والطمع يمحق البركة، ويشعر النفس بحالة الفقر الدائم، ففي الصحيحين: (عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ «هَذَا الْمَالُ – وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ قَالَ لِي يَا حَكِيمُ – إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى»، وإذا تصفحنا كتاب الله عز وجل، لوجدنا أن الطمع كان سببا لسقوط أمم، وتدمير حضارات، وهلاك رجال، كانوا في الظاهر من أقوى الناس، فأول معصية عرفت في الأرض كانت بسبب طمع قابيل في فضل أخيه، فأوردته الغيرة والطمع موارد الدم والقتل. وقص الله علينا في كتابه حال قوم لوط وقوم شعيب وقوم عاد وثمود، فكان الجشع والطمع من أعظم أسباب انحرافهم،
أيها المسلمون
أما عن علاج الطمع: فإِنَّ أَعْظَمَ مَا يَرْدَعُ النَّفْسَ عَنِ الطَّمَعِ: أَنْ يَتَذَكَّرَ الْإِنْسَانُ حَقِيقَةَ الدُّنْيَا، وَأَنَّهَا ظِلٌّ زَائِلٌ، وَمَتَاعٌ قَلِيلٌ، وَأَنَّ مَا كُتِبَ لَهُ فَسَيَأْتِيهِ، وَمَا لَمْ يُكْتَبْ فَلَنْ يَحْصُلَ عَلَيْهِ مَهْمَا بَالَغَ فِي السَّعْيِ، وأنَّ الرَّازِقَ هُوَ اللَّهُ، وَخَزَائِنَهُ لَا تَنْفَدُ، وَأنَّ الْأَرْزَاقَ لَا تُنَالُ بِالْحِيلَةِ، بَلْ تُنَالُ بِمَا كَتَبَهُ اللَّهُ، وَيَصِلُ إِلَيْهَا الْعَبْدُ بِقَدَرٍ، وَلَوِ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ عَلَى أَنْ يُعْطُوكَ شَيْئًا لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ لَكَ مَا اسْتَطَاعُوا.
وعِلَاج الطَّمَعِ يَكُونُ: بِتَقْوِيَةِ الْإِيمَانِ، وَاسْتِحْضَارِ مُرَاقَبَةِ اللَّهِ، وَالْحِرْصِ عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَتَرْبِيَةِ الْقَلْبِ عَلَى الْقَنَاعَةِ، وَالْإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ الَّذِي يُطَمْئِنُ الْقُلُوبَ، وَغَرْسِ مَبْدَأِ أَنَّ أَرْزَاقَ النَّاسِ مَقْسُومَةٌ بِعَدْلِ اللَّهِ، لَا بِجُهْدِهِمْ فَقَطْ.
وَمِنَ الْعِلَاجِ كَذَلِكَ: مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ، وَتَعْوِيدُهَا عَلَى الْعَطَاءِ، وَتَعَلُّمُ قَوْلِ: «حَسْبُنَا اللَّهُ»، وَإِدْرَاكُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَأْخُذُ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَأَنَّ الْقَنُوعَ يَعِيشُ مَلِكًا وَلَوْ كَانَ قَلِيلَ الْمَالِ، فالدَّوَاء الشَّافِي لِلطَّمَعِ هُوَ الْقَنَاعَةُ، وَحُسْنُ الظَّنِّ بِاللهِ، وَالْإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِهِ، وَالْيَقِينُ بِوَعْدِهِ، وَالرِّضَا بِمَا قَسَمَ، وَالِاشْتِغَالُ بِمَا يَنْفَعُ، وَالتَّرْبِيَةُ عَلَى الزُّهْدِ، وَالْبُعْدُ عَنِ الْمُقَارَنَةِ فِي الْأَرْزَاقِ.
وَمِنَ الْعِلَاجِ أَيْضًا: النَّظَرُ فِي سِيَرِ السَّلَفِ الَّذِينَ كَانَ يُعْرَضُ عَلَيْهِمُ الْمَالُ وَالدُّنْيَا فَيَرْفُضُونَهَا، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الرِّزْقَ لَمْ يَكُنْ يَوْمًا مِعْيَارَ الْفَضْلِ، بَلْ هُوَ قُرْبُ الْقَلْبِ مِنَ اللهِ، وَصِدْقُ الْعَمَلِ ،وَطِيبُ النَّفْسِ. ومن الوسائل المعينة على ترك الطَّمع: التَّأمُّل في العواقب الوخيمة التي تنتج عن الطَّمع. والتَّأمُّل في نعم الله الكثيرة والمختلفة، وشكره عليها، ولتَّحلِّي بالورع عند الميل إلى الطَّمع، واللجوء إلى الله، والاستعانة به، في الابتعاد عن الطَّمع.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ
انْظُرُوا إِلَى السَّلَفِ كَيْفَ كَانُوا يَرَوْنَ الطَّمَعَ دَاءً مُدَمِّرًا؛ فَقَدْ كَانَ أَحَدُهُمْ يَقُولُ: «كَفَى بِالْقَنَاعَةِ غِنًى، وَكَفَى بِالطَّمَعِ فَقْرًا». وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَعَوَّذُ مِنَ الْوُقُوعِ فِيهِ لِأَنَّهُ يَغْزُو الْقَلْبَ ثُمَّ يُفْسِدُهُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَكَانُوا يَقُولُونَ: «مَنْ طَمِعَ ذَلَّ». وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ ثَابِتَةٌ؛ فَالطَّمَّاعُ لَا يَعْرِفُ الطُّمَأْنِينَةَ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَعْظِمُ حَاجَتَهُ، وَيَسْتَصْغِرُ نِعْمَتَهُ، وَيَعِيشُ عُمْرَهُ كُلَّهُ يَلْهَثُ خَلْفَ الْمَزِيدِ.
وكان السلف يرون أن الطمع يُذهب بركة العلم، فقد اجتمع كعب وعبد الله بن سلام، فقال كعب: يا بن سلام: مَن أرباب العلم؟ قال: الذين يعملون به. قال: فما أذهب العلمَ عن قلوب العلماء بعد أن علموه؟ قال: الطمع، وشَرَه النفس، وطلب الحوائج إلى الناس.
ومن أقوال السلف والعلماء في الطَّمع: قال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: (تعلمن أنَّ الطَّمع فقر، وأنَّ اليأس غنى)، وقال عليٌّ رضي الله عنه: (أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع)، وقال ابن عباس: (قلوب الجهال تستفزها الأطماع، وترتهن بالمنى، وتستغلق) وقال الحسن البصري: (صلاح الدين الورع، وفساده الطَّمع)
الدعاء
