خطبة عن (فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ)
نوفمبر 23, 2025الخطبة الأولى (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)
الحمدُ للهِ الَّذي لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، أحاطَ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْء، وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَقَهَرَ بِقُدْرَتِهِ كُلَّ شَيْءٍ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، أيها المسلمون
قال الله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (59) الأنعام، وقال تعالى: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ يوسف: (76)، وقال تعالى: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (113) النساء، وقال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ الاسراء: (85). وَقَالَ تَعَالَى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾ الرعد:9.
وفي قصة نبي الله موسى والخضر: جاء في الصحيحين: (فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ إِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ – أَوْ قَالَ تَسَجَّى بِثَوْبِهِ – فَسَلَّمَ مُوسَى . فَقَالَ الْخَضِرُ وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلاَمُ فَقَالَ أَنَا مُوسَى . فَقَالَ مُوسَى بَنِى إِسْرَائِيلَ قَالَ نَعَمْ . قَالَ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لاَ تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَهُ لاَ أَعْلَمُهُ. قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا، وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا، فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ لَيْسَ لَهُمَا سَفِينَةٌ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ، فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمَا، فَعُرِفَ الْخَضِرُ، فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ فِي الْبَحْرِ. فَقَالَ الْخَضِرُ يَا مُوسَى، مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ كَنَقْرَةِ هَذَا الْعُصْفُورِ فِي الْبَحْرِ).
إخوة الإسلام
هذه الآيات العظيمة، والأحاديث الجليلة، تكشف لنا حقيقةً كبرى من حقائق هذا الوجود، وهي أن العلم كله لله تعالى، وأن ما يصل إليه البشر من العلوم، مهما بلغ وارتفع، فإنما هو ذرة من بحر، وقطرة من سيل، وشيء قليل قياسًا إلى علم الله المحيط، فالعلوم الدنيوية نفسها –مع عظمتها– تشهد بعجز الإنسان؛ فكلما تقدّم العلم، ازداد العلماء يقينًا بأن ما يجهلونه أعظم مما يعلمونه، قال بعض أهل العلم: (غاية علم الإنسان أن يعرف أنه لا يعلم). ومن يتأمل في علم الله سبحانه وتعالى، يجد أنه علمٌ لا يحدّه زمان، ولا يقيّده مكان، ولا تخفى عليه خافية، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ طه: (7)، ويعلم الله ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وهو سبحانه يعلَم دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصمّاء، في الليلة الظلماء، ويعلم خفايا القلوب، ووساوس النفوس، وآجال العباد، وأرزاقهم، وحركاتهم وسكناتهم، فهل يعقل بعد هذا أن يتكبر الإنسان بعلم؟، أو أن يغترّ بشهادة؟، أو أن يظن أنه بلغ النهاية؟، فالذي يغترّ بعلمه إنما يغترّ بجهله!، فمن ظن أنه علم فقد جهل، وجميع الخلائق لا يعلمون إلا ما علمهم الله من علمه، قال تعالى: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) البقرة:225، فلا يعلم أحد شيئا إلا ما علمه العليم الخبير، أعظم الخلائق من الملائكة والرسل الكرام (صلوات الله وسلامه عليهم) وقفوا عاجزين أمام علم الله سبحانه فقالوا: (سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة:32].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
والمتدبر لقوله تعالى: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ يوسف: (76): فهَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ تُعْلِنُ حَقِيقَةً عُظْمَى مِنْ حَقَائِقِ هَذَا الدِّينِ وهي: أَنَّ الْعِلْمَ كُلَّهُ مَهْمَا بَلَغَ فَهُوَ قَلِيلٌ إِلَى جَانِبِ عِلْمِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ مَهْمَا تَعَلَّمَ وَتَبَحَّرَ وَتَفَوَّقَ، فَفَوْقَهُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ منه، وَفَوْقَ الْأَعْلَمِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ، حَتَّى يَنْتَهِيَ الْعِلْمُ كُلُّهُ إِلَى اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلِذَا كَانَ السَّلَفُ يَقُولُونَ: «مَنْ قَالَ: أَنَا عَالِمٌ؛ فَقَدْ جَهِلَ».
والنَّاس فِي هَذَا الزَّمَانِ قَدِ افَتَتنُوا بِالتَّقَدُّمِ العلمي، وَالْاِكْتِشَافِ وَالتِّقْنِيَاتِ، فَأُعْجِبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِمَا وَصَلُوا إِلَيْهِ مِنَ الْمَعَارِفِ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أَدْرَكُوا كُلَّ شَيْءٍ، وَنَسُوا أَنَّ هَذِهِ الْعُلُومَ، عَلَى سِعَتِهَا، إِنَّمَا هِيَ قَطْرَةٌ مِنْ بَحْرٍ لَا يَتَنَاهَى مِنْ عِلْمِ اللهِ، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: «مَا أُوتِينَا مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا لِيُعَرِّفَنَا بِجَهْلِنَا». وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «لَا يَزَالُ الرَّجُلُ عَالِمًا مَا طَلَبَ الْعِلْمَ، فَإِذَا قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ؛ فَقَدْ جَهِلَ». وقد تقدّم الناس اليوم في علوم الدنيا: فاكتشفوا الذرّة، ودرسوا الفضاء، وبنوا الجسور، واخترعوا الآلات، وغاصوا في أعماق البحار، وكثير منهم اغترّ بما وصل إليه من علم، ونسي فضل الله عليه أن علمه، قال تعالى: (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (151) البقرة، وقال تعالى: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (239) البقرة، ونسِي الانسان أن العلم الحقيقي هو ما يقرب من الله، ويزيد الإيمان، ويرفع صاحبه، لا ما يزيد الكبر والغرور.
ومن أبلغ الشواهد على أن علم البشر محدود، وأن فوق كل ذي علم عليم، ما جاء في قصة نبي الله موسى والخضر (عليهما السلام)، فحينما أراد الله أن يعلّم موسى أن فوق علمه علم، وأن في الخلق من علّمه الله شيئًا لم يعلّمه هو، أمره أن يأتي عبده الصالح الخضر، ففي الصحيحين: (عن أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «إِنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِى إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ فَقَالَ أَنَا فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ، هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ قَالَ مُوسَى يَا رَبِّ فَكَيْفَ لِي بِهِ قَالَ تَأْخُذُ مَعَكَ حُوتًا فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ، فَحَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهْوَ ثَمَّ، فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ ثُمَّ انْطَلَقَ، وَانْطَلَقَ مَعَهُ بِفَتَاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، حَتَّى إِذَا أَتَيَا الصَّخْرَةَ وَضَعَا رُءُوسَهُمَا فَنَامَا، وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ، فَخَرَجَ مِنْهُ، فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا، وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الْحُوتِ جِرْيَةَ الْمَاءِ فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلَ الطَّاقِ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ ، نَسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْحُوتِ، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتَهُمَا، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا قَالَ وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا قَالَ فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا وَلِمُوسَى وَلِفَتَاهُ عَجَبًا فَقَالَ مُوسَى ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا قَالَ رَجَعَا يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى ثَوْبًا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى. فَقَالَ الْخَضِرُ وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلاَمُ قَالَ أَنَا مُوسَى. قَالَ مُوسَى بَنِى إِسْرَائِيلَ قَالَ نَعَمْ أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا. قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا، يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لاَ تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَ اللَّهُ لاَ أَعْلَمُهُ. فَقَالَ مُوسَى سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا، وَلاَ أَعْصِى لَكَ أَمْرًا .فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ، فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا، فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَمَرَّتْ سَفِينَةٌ فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ، فَعَرَفُوا الْخَضِرَ، فَحَمَلُوهُ بِغَيْرِ نَوْلٍ فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ، لَمْ يَفْجَأْ إِلاَّ وَالْخَضِرُ قَدْ قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ بِالْقَدُومِ .فَقَالَ لَهُ مُوسَى قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا. قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا. قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِى عُسْرًا». قَالَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «وَكَانَتِ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا قَالَ وَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نَقْرَةً، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ مِثْلُ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ ثُمَّ خَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ، فَبَيْنَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ، إِذْ أَبْصَرَ الْخَضِرُ غُلاَمًا يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ رَأْسَهُ بِيَدِهِ فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ. فَقَالَ لَهُ مُوسَى أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَاكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا. قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا قَالَ وَهَذَا أَشَدُّ مِنَ الأُولَى، قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ – قَالَ مَائِلٌ – فَقَامَ الْخَضِرُ فَأَقَامَهُ بِيَدِهِ فَقَالَ مُوسَى قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا، وَلَمْ يُضَيِّفُونَا، لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا. قَالَ (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) إِلَى قَوْلِهِ (ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا). فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا»، فعلم موسى نبيّ الله، وعلمُ الخضر الذي علّمه الله، كلاهما لا يساويان في علم الله قطرة على منقار عصفور، فكيف بمن دون موسى والخضر؟!، وكيف بمن اغترّ بذكاء زائل، أو شهادة دنيوية؟، فعلم الله أكبر، وأشمل وعلمه أزلي ومحيط، وليس له حد، قال تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (59) الأنعام،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)
الحمدُ للهِ الَّذي لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، أحاطَ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْء، وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَقَهَرَ بِقُدْرَتِهِ كُلَّ شَيْءٍ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، أيها المسلمون
وهناك نماذج من البشر أهلكه الغرور بالعلم؛ ومنهم (قارون)، الذي آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، فلما نُصِح بالتواضع والشكر، قال مغترًّا: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾ القصص:78، فخسف الله به الأرض، وعلّم الناس من بعده أن العلم إن لم يورث صاحبه خشية كان سبب هلاكه. وكذلك كان حال كثير من أهل الكفر في الأمم السابقة واللاحقة؛ عرفوا بعض علوم الدنيا، فاغترّوا بها، قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) (82): (85) غافر، فهؤلاء جعلوا العلم حاجزًا بينهم وبين الإيمان، وما علموا أن العلم الحقيقي يقود إلى التواضع، لا التكبّر، وإلى السجود، لا الجحود.
والمتدبر لقوله تعالى: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾: يخبر الله جل وعلا فيها عن سعة علمه، وعظيم إحاطته بخلقه، وأن ما تراه العيون، وما لا تراه، ومثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وورق الأشجار، على كثرته واتساعه، وعظيم عدده، لا يعلمه إلا الرب تبارك وتعالى، فكل تلك الأمور أينما كانت، وأينما غابت عن عيوننا، فالغيب وغياهب البحار، ومفاوز البر، وكل ما يقع فيه، وما يكون في ليل أو في نهار أو في أي مكان قد اطلع الله جل وعلا عليه، وقد علمه وكتبه وأراده وشاءه، قال الله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام:٥٩] ثم تتناقلها الرياح ميمنة وميسرة، وشمالاً وجنوباً، ثم تهوي، كل ذلك يعلمه الله جل وعلا، لا يخفى عليه من خلقه خافية أينما كانت، قال تعالى عن لقمان: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: ١٦]. والإنسان إذا ستره الظلام، فقد اطلع الله جل وعلا عليه، سواء أسر في نفسه أم أعلن، فالقلوب له مفضية، والسر عنده علانية، ولا تخفى عليه من خلقه خافية. فما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، جفت الأقلام وطويت الصحف، فالعاقل من أحسن صلته بربه جل وعلا، فهو المطلع سبحانه على الضمائر والسرائر، عليم بما في الصدور من النيات والإرادات، وأحاط علمُه بالعالم العلوي والسفلي، لا يخلو عن علمه مكان، ولا زمان، يعلم الغيب والشهادة، والظواهر والبواطن، والجلي والخفي، ولا يعزُب عنه مثقال ذرَّةٍ في الأرض ولا في السماء.
أيها المسلمون
ومن الآثار الإيمانية للإيمان بأن الله عليم: فالإيمان بأن علمه قد أحاط بكل شيء – يورث في القلب مراقبةً لله تعالى، وحياءً منه بأن يراه الله على معصية. وإيمان العبد بعلم الله تعالى يجعله راضيًا بأقدار الله، ويستسلم لمشيئته؛ لأن الله هو العليم الحكيم. قال تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة:216]. وكمالُ عِلْمِ الله سُبحانه وتعالى بجميع الأحوال المُحيطة بالخليقة: يستلزم لزومهم طريق العُبوديَّة، ويستدعي التَّزوُّد بالتَّقوى، والاستعداد ليوم المعاد، لعلمهم أنَّ ربَّهم تعالى ما ضلَّ وما نَسِيَ وما سَهَا. وفي هذا دعوةً لمراقبة الله على الدوام في كل قول أو فعل، فالله سبحانه قد أحاط علمه بكم, مطلع عليكم، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (7) المجادلة،
فالله تعالى مطلعٌ عليكم، عالمٌ بظواهركم وبواطنكم, لا يغيبُ عن علمه وسمعه شيءٌ من أحوالكم, قد أحاط علمه، وجرى قلمه بكل شيء، قال تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:30].
الدعاء
