خطبة عن (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)
نوفمبر 24, 2025الخطبة الأولى (وجاء الخليفة أبو بكر الصديق)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
قال الله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (100) التوبة، ورُوي في صحيح مسلم: (قَالَ -صلى الله عليه وسلم- «النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ وَأَنَا أَمَنَةٌ لأَصْحَابِي فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ». وفي سنن الترمذي: (عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ». وفي الصحيحين: (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً وَلَكِنَّهُ أَخِي وَصَاحِبي وَقَدِ اتَّخَذَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلاً». وفي صحيح البخاري: (خَطَبَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ… إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ).
إخوة الإسلام
أهلُ السُّنَّة والجماعة يُحِبُّون أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم -، ويفضِّلونهم على جميع الخلق بعد الأنبياء؛ لأنَّ محبتهم من محبة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ومحبة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من محبة الله، وهم يُثنون على الصحابة، ويتَرَضَّون عنهم، ويستغفرون لهم؛ فإِنَّ التَّارِيخَ لَمْ يَشْهَدْ رِجَالاً مثلهم، فقد اشْتَدَّ بِاللهِ عَزْمُهُمْ، وَصَدَقَتْ للهِ نَوايَاهُمْ، وذلك فِي غَايَاتٍ شَرِيفَةٍ، مِنَ الإيمَانِ وَالإِصْلاحِ، نَذَرُوا لَهَا حَيَاتَهُمْ، وصَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيهِ، فِي جَسَارَةٍ وَتَضْحِيَةٍ. نَعَمْ! إِنَّ التَّارِيخَ لَمْ يَشْهَدْ ذَلكَ، كَمَا شَهِدَهُ مِنْ صَحْبِ رَسُولِ اللهِ –صلى الله عليه وسلم- فِي حُبِّهِمْ وَتَضْحِيَاتِهِمْ، وَعِبَادَتِهِمْ وَزُهْدِهِمْ، وَسَمْعِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ للهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.
ولذلك، سوف يكون حديثنا اليوم -إن شاء الله تعالى- عن صحابي قلّ أن تجود الأيام بمثله، وعن قلب امتلأ بالإيمان، ونفس سمت باليقين، وصحبة لا يدانيها شرف: إنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصديقه، ورفيقه في الغار، وأسبق الناس إلى الإسلام، وأثبتهم في المواقف، إِنَّهَ (عَبْد اللَّهِ بْنِ عُثْمانِ بْنِ عَامِرٍ، (أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ)، خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ الْأَوَّلُ، وَالْمُؤْمِنُ بِرَسُولِ اللهِ مِنَ الرِّجَالِ الْأَوَّلُ، وَالْمُبَشَّرُ بِالْجَنَّةِ الْأَوَّلُ، رَضِيَ اللهُ عَنْه وأرضاه.
لقد سَبَقَ إِلَى الإيمَانِ، وَبَادَرَ إِلَى الرُّفقَةِ، وَلاَزَمَ الصُّحْبَةَ، وَاخْتُصَّ بِالْمُرَافَقَةِ فِي الْغَارِ وَالْهِجرةِ، قال تعالى: ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا﴾ [التوبة:40]. فرضي الله عنه وأرضاه، وجزاه الله عنا وعن الاسلام والمسلمين خير الجزاء.
أيها المسلمون
(أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ)، وُلِدَ (رضي الله عنه) بَعْدَ عَامِ الْفِيلِ بِسَنَتَيْنِ وسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَصَحِبَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ الْبِعْثَةِ، وَسَبَقَ إِلَى الْإِسْلامِ، وَاسْتَمَرَّ مَعَهُ طِيلَةَ إقامَتِهِ فِي مَكَّةَ، وَفِي الْهِجْرَةِ وَالْغَارِ، وَشَهِدَ مَعَهُ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، إِلَى أَنْ تُوفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَكَانَتِ الرَّايَةُ مَعَه يَوْمَ تَبُوكَ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ، فِي حَيَاةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وَاسْتَمَرَّ خَلِيفَةَ الْأرْضِ بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَيهِ الصَّلاَةُ وَالسّلامُ، وَلُقِّبَ بِخَلِيفَةِ رَسُولِ اللهِ، وكَانَ (رَضِيَ اللهُ عنه) أَبْيَضَ، نَحِيفًا، خَفِيفَ الْعَارِضَيْنِ، لاَ يَسْتَمْسِكُ إِزَارُهُ عَلَى حِقْوَيْهِ؛ لِشِدَّةِ نَحَافَتِهِ، قَلِيلَ لَحْمِ الْوَجْهِ، غَائِرَ الْعَيْنَيْنِ، نَاتِئَ الْجَبْهَةِ.
ولقد حمل أبو بكر هم الدعوة، ودفع ماله، وجاد بنفسه، وكان سندًا للنبي صلى الله عليه وسلم في كل مراحل الدعوة، لذلك، فقد أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه محبته لأبي بكر، ففي صحيح البخاري: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ عَاصِبٌ رَأْسَهُ بِخِرْقَةٍ، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ «إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ النَّاسِ خَلِيلاً لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً، وَلَكِنْ خُلَّةُ الإِسْلاَمِ أَفْضَلُ، سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِى بَكْرٍ». وفي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي عُثْمَانَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلاَسِلِ فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ «عَائِشَةُ». قُلْتُ مِنَ الرِّجَالِ قَالَ «أَبُوهَا»،
إنَّه أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، صَاحِبُ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، الَّتِي لَمْ يَلْحَقْ بِهِ أحَدٌ؛ ففي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا». قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه أَنَا. قَالَ «فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً». قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه أَنَا. قَالَ «فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا». قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه أَنَا. قَالَ «فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا »قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضى الله عنه أَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ)
وهو قَارِئُ القُرآنِ وجَامِعُهُ، رَقيقُ القَلْبِ عِندَ تِلاوتِهِ، لا يَملِكُ دُموعَهُ إذَا قَرأَهُ، فكَانَ رَجُلاً أَسِيفًا سَرِيعَ البُكاءِ، إذَا صَلَّى بالناسِ لَمْ يَسمَعُوا قِرَاءَتَهُ مِنَ البُكَاءِ، وهو صَاحِبُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، الَّتِي يَدْخُلُ مِنْهَا جَمِيعًا؛ ففي الصحيحينِ: (عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ “، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا، قَالَ: “نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ”.
أيها المسلمون
لقد كان إيمان أبي بكر جبلا، ويقينه بحورا، ومحبة الله ورسوله تنبض في كل ذرة من كيانه، وقد أسلم على يديه أعمدة الإسلام: (عثمان، وطلحة، والزبير، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وغيرهم). وكان يبذل ماله كله في سبيل الله، ففي سنن الترمذي: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَا لأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلاَّ وَقَدْ كَافَيْنَاهُ مَا خَلاَ أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِئُهُ اللَّهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا نَفَعَنِي مَالُ أَحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ).
ومن أعظم مواقفه: ثباته يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، حين اضطربت القلوب، واضطربت الألسنة، فقد وقف عمر يشهر السيف قائلا إن رسول الله لم يمت، فجاء أبو بكر بثبات الجبال، فقال كلمته الخالدة، ففي صحيح البخاري: (أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَرَجَ وَعُمَرُ يُكَلِّمُ النَّاسَ فَقَالَ اجْلِسْ يَا عُمَرُ ،فَأَبَى عُمَرُ أَنْ يَجْلِسَ. فَأَقْبَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَتَرَكُوا عُمَرَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَمَّا بَعْدُ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا – صلى الله عليه وسلم – فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، قَالَ اللَّهُ (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) إِلَى قَوْلِهِ (الشَّاكِرِينَ) آل عمران:144،
وَقَالَ وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ هَذِهِ الآيَةَ حَتَّى تَلاَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ فَمَا أَسْمَعُ بَشَرًا مِنَ النَّاسِ إِلاَّ يَتْلُوهَا. فَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ تَلاَهَا فَعَقِرْتُ حَتَّى مَا تُقِلُّنِي رِجْلاَيَ، وَحَتَّى أَهْوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ حِينَ سَمِعْتُهُ تَلاَهَا أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَدْ مَاتَ)، فسقط الناس يبكون، وأفاقت الأمة، لأن رجلا واحدا ثبت يوم لم يثبت غيره.
ولما بويع بالخلافة، وقف يخاطب الأمة قائلا، كما في سنن البيهقي: (إِنَّ أَكْيَسَ الْكَيْسِ التَّقْوَى وَأَحْمَقَ الْحُمْقَ الْفُجُورُ أَلاَ وَإِنَّ الصِّدْقَ عِنْدِي الأَمَانَةُ وَالْكَذِبَ الْخِيَانَةُ أَلاَ وَإِنَّ الْقَوِيَّ عِنْدِى ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ مِنْهُ الْحَقَّ وَالضَّعِيفَ عِنْدِي قَوِىٌّ حَتَّى آخُذَ لَهُ الْحَقَّ أَلاَ وَإِنِّي قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِأَخْيَرِكُمْ)، (فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني)، إنه تواضع يكسوه نور، وإيمان يفيض على الكلمات، فيجعلها خالدة في الوجدان.
ولما ارتدت العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكثر المتخاذلون، وارتجف كثير من الناس، قام أبو بكر موقفا يهتز له التاريخ، وأعلن كلمته المشهورة، كما في الصحيحين: (فَقَالَ وَاللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ – رضي الله عنه – فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ – رضي الله عنه – فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ). فحفظ الله به الدين، وثبت به أركان الدولة، وجمع الله على يديه كلمة الأمة، وبدأت الخلافة الراشدة من موقف رجل يخاف الله، ولا يخاف في الله لومة لائم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية (وجاء الخليفة أبو بكر الصديق)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وإذا ذكرنا أبا بكر الصديق، فإننا نذكر القدوة، والصدق، والثبات على الحق، نذكر الرجل الذي قدّم للدين أعظم الأمثلة في الإيمان، والعمل، واليقين، لقد عاش (رضي الله عنه) للدين وجاهد بنفسه وماله، ووقف مواقف يعجز عنها الرجال. وكان رقيق القلب، شديد الخوف من الله، ومع ذلك كان قويًا في الحق، ثابتًا في الملمات، عالي الهمة، لا يعرف التردد، ولا يداهن في دين الله. ولذلك اختاره الله لصحبة نبيه، واختارته الأمة لخلافتها.
وقد كان أبو بكر إماما في العبادة، خاشعا في الصلاة، بكاء عند تلاوة القرآن، رقيق القلب، لكنه أشد الأمة على أعدائها. كان يقوم الليل، ويصوم النهار، ويخدم الأرامل والضعفاء، حتى أن عمر كان يراه يذهب قبل الفجر إلى بيت عجوز أعمى، فيكنس بيته، ويصلح شأنه، ولا يدري أحد من هو، فلما مات أبو بكر انقطع ذلك الخير، فعرف عمر أن فاعل ذلك الخير هو أبو بكر. ومن فضائله أنه أول من جمع القرآن في مصحف، حفظا لكتاب الله، وصونا لدينه، وكان ذلك من أعظم أعماله التي رفع الله بها درجته.
وكان ورعًا، خاشع القلب، يقول وهو على فراش الموت: “ليتني كنت شعرة في جنب عبد مؤمن”. فما عرف التاريخ رجلا بعد الأنبياء أفضل منه، ولا أصدق منه، ولا أرحم بالأمة منه. وتُوفِّيَ الصديقُ يَوْمَ الاثنَيْنِ، أَوْ لَيْلَةَ الثُّلاَثَاءِ، لِثَمانٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُوْلَى سَنَةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. وَصَلَّى عَلَيهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي الْمَسْجِدِ، وَدُفِنَ لَيْلاً فِي بَيْتِ عَائِشَةَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَرَضِيَ اللهُ عَنِ الصِّدِّيقِ وَأَرْضَاهُ، وَجَعَلَنَا مِمَّنْ يَقْتَفُونَ أثَرَهُ وَيَسِيرُونَ عَلَى نَهْجِهِ، وَجَمَعَنَا بِهِ فِي جَنَّتِهِ مَعَ الْحَبيبِ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلمون
إن سيرة أبي بكر ليست تاريخا يُقرأ، ولا مواقف تُروى، وإنما هي رسالة عظيمة لكل مسلم يريد أن يسير إلى الله على بصيرة، ففي زمن كثرت فيه الفتن، وتزاحمت الشهوات، وضعفت الهمم، نحتاج أن ننظر كيف عاش هذا الرجل مع الله. لقد علمتنا سيرته معنى الصدق، ومعنى الإخلاص، ومعنى أن يكون قلب العبد معلقا بالله في كل حال. فكان أبو بكر يرى الدنيا صغيرة، ويرى الآخرة كبيرة، فإن جاءه النصر نسبه إلى الله، وإن جاءه الفضل شكر الله، وإن نزل به البلاء صبر واحتسب. فما أحوج شباب الأمة اليوم إلى القدوة الصادقة، إلى من يعلمهم أن العزة ليست في المال، ولا في الوظائف، ولا في الهيئات، وإنما هي في طاعة الله واتباع رسوله. وما أحوج الآباء إلى أن يتعلموا من أبي بكر رقة القلب، وقوة الإيمان، وسعة الصدر، وحسن الخلق، وبذل النفس والمال في سبيل الله.
أيها المسلمون
إن أخلاق أبي بكر ليست بعيدة المنال، فمن صدق الله صدقه الله، ومن أخلص لله رفعه الله، ومن أحسن العمل أعطاه الله من فضله ما لا يخطر على بال.
وإن أمتنا اليوم تحتاج إلى رجال من طراز أبي بكر، رجال يثبتون عند المحن، وينصرون الحق، ويحملون هم الدين، ويقدمون مصلحة الأمة على مصالح أنفسهم، ويعرفون أن طريق الجنة يحتاج جهدا وصبرا وثباتا.
فاجعلوا من سيرته نبراسا، ومن إيمانه زادا، ومن مواقفه عبرة، فإن الأمة لا تنهض إلا برجال صادقين، ونساء مؤمنات، وقلوب خاشعة، ونيات مخلصة.
فحياة أبي بكر تعلمنا: أن الصدق أساس الطريق. وأن نصرة الدين لا تكون بالكلام بل بالعمل .وأن اليقين بالله يورث الثبات في الفتن. وأن الإخلاص هو الذي يرفع العبد درجات.
وإننا اليوم في زمنٍ تموج فيه الفتن، وتكثر فيه الانحرافات، نحن أحوج ما نكون إلى الاقتداء بهذا الجبل الراسخ. نحتاج إلى صدقه، إلى شجاعته، إلى زهده، إلى خوفه من الله، إلى إخلاصه في العمل، وإحسانه في العبادة. فاللهم ارزقنا صدق الصديق، وثبات الصديق، وإيمان الصديق، ويقين الصديق. اللهم ارض عن أبي بكر، واجزه عن الأمة خير ما جزيت خليفة عن أمته.
الدعاء
