خطبة عن (بر الوالدين وعقوقهما)
نوفمبر 26, 2025الخطبة الأولى (صاحبُ الْجَنَّتَيْنِ دُروسٌ وَعِبرٌ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) (32): (34) الكهف
إخوة الإسلام
إن المتدبر لهذه الآيات المباركات من كتاب الله العزيز يتبين له: أن الله تعالى يَضربُ لنا في القرآن الكريم أمثالاً واقعيةً، ذات تأثيرٍ بالغٍ، وفيها العِبَرُ العظيمةُ؛ فالقصدُ مِن إيرادِها: تثبيتُ قلبِ المؤمنِ، وتقويةُ صِلَتِه وعلاقتِهِ باللهِ تعالى، ونزعِ الكُفرِ وخُبثهِ مِن قُلوبِ العبادِ،
وقصة صاحب الجنتين: تحكي عن رجلٍ جمحَ عن دعوةِ الحقِّ، وآثرَ الضلالةَ والكُفرَ على الهُدى والإيمان، وكانَ لهُ جنتانِ، فافتُتِنَ بجمالِهِما، وأنكرَ البعثَ والآخرة، فضُرِبَ هذا المثل ليُبيِّنَ عاقبةَ مَن غرَّتهُ الحياةُ الدُنيا، وآثرَها على الآخرة؛ وأعماهُ مالُهُ وسُلطانُهُ، ولم يستجب لِنُصحِ الناصحين، ولم يتَّعِظ بمن سبقهُ من المتكبرين، ولم يأخذ العِبرةَ، فأغواهُ الشيطانُ، فوقعَ في شرِّ الخطيئةِ والمعصيةِ.
فالقصة تبين لنا بأسلوب بليغ: صور عاقبة الجاحدين المغرورين، وحسن عاقبة الشاكرين المتواضعين، وتبين لنا: الآثار الطيبة التي تترتب على الإيمان والعمل الصالح، والآثار السيئة التي يُفضى إليها الكفر وسوء العمل، وتبين لنا: أنّ المتفرد بالولاية والقدرة هو الله عز وجل، فلا قوة إلا قوته، ولا نصر إلا نصره، ولا مستحق للعبادة أحد سواه، ولا ثواب أفضل من ثوابه، ولا عاقبة لأوليائه خير من العاقبة التي يقدرها لهم.
ومن الملاحظ: أن المحور الأساسي للقصة هو العقيدة، فقد بيّنت القصة حقيقة الإنسان حين يتملّك من الدنيا الجاه، أو المال، أو السلطان، دون أن يُرجع الفضل إلى الله تعالى، والواجب على المؤمن في مثل تلك المواقف: أن يكون ثابتًا على دينه، عالمًا أنّ الذي خلقه ورزقه هو الله، وأنّ مصيره إليه، فلا ينخدع بما يظهر أمامه من مُلكٍ زائلٍ، وأن يقوم بحق النعمة التي بين يديه، فيشكر الله عليها، وتظهر قصة صاحب الجنتين سنّة التقابل، ففيها مشهد النمو والازدهار الذي يقابله الدمار والبوار، فتكبُّر صاحب الجنتين، أدّى به إلى الندم، وبيّن الله أنّ مصير الحياة الدنيا إلى الزوال والعدم،
كما تُظهر القصة: أن الله تعالى قد يزوي الدنيا عن أوليائه وأصفيائه، وقد يوسعها على أعدائه، ففي مسند أحمد: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلاَقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لاَ يُحِبُّ وَلاَ يُعْطِي الدِّينَ إِلاَّ لِمَنْ أَحَبَّ فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ)، فَإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا أَعْطَاهُ الإِيمَانَ. وفي مسند أحمد: (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ». ثُمَّ تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) الانعام: (44).
أيها المسلمون
ومن أهم الفوائد والدروس والعبر المستفادة من قصة صاحب الجنتين: أخذ العظة والعبرة من حال من خدعته الدنيا، بما أظهرت له من الملذات، وعدم عصيان الله أو نسيان الآخرة. وأن التكبّر الحاصل عند صاحب الجنتين لا يرجع إلى التحدّث عن نعمة الله؛ وإنّما ذلك من باب الغرور. وأن النعمة التي ينعم الله -تعالى- بها على عباده هي مُلكٌ لله، يؤدي الإنسان حقّها بالشُكر، وإن لم يستخدمها في طاعة الله لا تتحقّق منها أي فائدة، وتكون سببًا في بطلان أعماله. وأن الله تعالى ينعم على عباده ليبتليهم، وينظر هل يشكرون أم يكفرون. وأن كلّ النعم ما عدا الإسلام والإيمان معرضةٌ للزوال. وأن فتح باب الدنيا على الإنسان يكون في أكثر الأمر للاستدراج. قال تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} [الكهف:35] وكأن حب الدنيا والعجب بها غشي على عقله فقال ذلك، وإلا فهو مما لا يقوله عاقل، وهو مما لا يرتضيه فاضل. فهذا الرجل لم يكن لينظرَ إلى المعطي وهو الله تعالى، بل كان تركيزُه على العطاء نفسه؛ لذلك تبدأ الآية الكريمة {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} [الكهف:34]، فشُغِل به عن ذكر ربه، وفضلِه عليه، ومِن هنا كان جدالُه مع صاحبه وقولُه: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا)
ومن الدروس والعبر المستفادة: أن الإنسان إنما ينال الخير كل الخير بإيمانه بالله رب العالمين، وبما يقتضيه هذا الإيمان من عمل صالح، أن ما يمتلكه الإنسان في هذه الدنيا، فإنما هو وسيلة يتقرب بها إلى الله، ويؤدي فيها حق الله.
ومن الدروس والعبر المستفادة: أن كثرة المال ليس دليلًا على الإكرام، ولا قلته دليلًا على الإهانة. قال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:15،16]، وقَالَ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ:55،56]. وأن المال وسيلة وليس غاية، وصاحب المنهج السليم لا يتأثر بفقر أو غنى. لأن الغنى والفقر مما يمتحن الله به عباده، قال تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف :33:35] ففي هذا دليل على أنه يمنع العباد بعض أمور الدنيا منعًا عامًّا أو خاصًّا لمصالحهم، وأن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة، وأن الآخرة عند الله تعالى خير للمتقين لربهم بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، لأن نعيمها تام كامل من كل وجه،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (صاحبُ الْجَنَّتَيْنِ دُروسٌ وعِبرٌ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن الدروس والعبر المستفادة: أن من أنفق عمره في تحصيل الدنيا، وأعرض عن الدين، حُرم الدين والدنيا معًا، يَقُولُ تَعَالَى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} بِأَمْوَالِهِ، أَوْ بِثِمَارِهِ، فوَقَعَ بِهَذَا الْكَافِرِ مَا كَانَ يَحْذَرُ، مِمَّا خَوَّفه بِهِ الْمُؤْمِنُ، مِنْ إِرْسَالِ الْحُسْبَانِ عَلَى جَنَّتِهِ، الَّتِي اغْتَرَّ بِهَا وَأَلْهَتْهُ عَنِ اللَّهِ تعالى.
ولا حظ الفرق بين موقف من ألهته الدنيا عند المصيبة، وبين أهل الإيمان، فأهل الدنيا: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا}، وأما أهل الإيمان، فحالهم كما في حديث صُهَيْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: “عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ”
وقِصَّة صَاحِبِ الجَنَّتَيْنِ تُعَلِّمُنَا أَنَّ: النِّعْمَةَ تَبقَى بِالشُّكرِ وَتَزُولُ بِالغُرُورِ. وأن التَّوَاضُعَ سَبِيلُ الرِّفْعَةِ. وأن الإِيمَانَ خَيرٌ مِن كُلِّ مَالٍ وَزَرْعٍ. وأن الدُّنْيَا لَا أَمَانَ لَهَا. وأَنَّ العَبدَ لَا يَمْلِكُ شَيئًا، وَإِنَّمَا هُو مُستَخلَفٌ فِيهِ. وأَنَّ النِّعْمَةَ إِن لَم تُقَيَّد بِالشُّكرِ؛ قُيِّدَت بِالزَّوَالِ. فالمُؤمِن الحَقّ يَنظُرُ إِلَى نِعَمِ اللهِ بِنَظَرِ الخَوفِ وَالرَّجَاءِ، وَلِذَلِكَ أَرشَدَهُ صَاحِبُهُ الصَّالِحُ وَقَالَ لَهُ: ﴿وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾. فَهِيَ كَلِمَةُ المُتَّقِينَ، وَشِعَارُ المُتَوَاضِعِينَ، وَسِرُّ بَقَاءِ النِّعَمِ.
ومِن أَعظَمِ العِبَرِ أَيْضًا: أَنَّ نِعَمَ اللهِ لَا تُوزَنُ بِالكَثْرَةِ، وَلَكِن تُوزَنُ بِالقُربِ مِنَ اللهِ. فَكَم مِن فَقِيرٍ قَلِيلِ المَالِ عَظِيمِ الشُّكرِ فَهُوَ عِندَ اللهِ أَكبَرُ قَدْرًا مِن غَنِيٍّ مُتَكَبِّرٍ مَغرُورٍ. وَعَلَينَا – عِبَادَ اللهِ – أَن نُجَدِّدَ نِيَّاتِنَا، وَنُحاسِبَ أَنفُسَنَا، وَنَنظُرَ فِي نِعَمِ اللهِ الَّتِي لَا تُحْصَى، فَمَا مِن نِعمَةٍ فِي جَسَدٍ أَو أَهلٍ أَو مَالٍ أَو وَلَدٍ؛ إِلَّا وَاللهُ هُوَ المُنعِمُ بِهَا، فَإِن شَكَرنَا زَادَنَا، وَإِن غَفَلنَا نَزَعَهَا مِنَّا.
الدعاء
