خطبة عن (تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)
نوفمبر 30, 2025الخطبة الأولى (اتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (281) البقرة، وفي سنن الترمذي: (عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ».
إخوة الاسلام
قال ابن كثير -رحمه الله-: (في هذه الآية: يعظ الله تعالى عباده، ويذكرهم زوال الدنيا، وفناء ما فيها من الأموال، وغيرها، وإتيان الآخرة، والرجوع إليه تعالى، ومحاسبته تعالى خلقه على ما عملوا، ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير وشر، ويحذرهم عقوبته)، وقال بعض العلماء: (هذه الآية من آخر ما نزل من القرآن، وجعلت خاتمة لهذه الأحكام، والأوامر والنواهي؛ لأن فيها الوعد على الخير، والوعيد على فعل الشر، وأن الانسان راجع إلى الله، فمجازيه على الصغير والكبير، والجلي والخفي، وأن الله لا يظلمه مثقال ذرة)،
فهَذِهِ الْآيَةُ الْعَظِيمَةُ جَاءَتْ جَامِعَةً شَامِلَةً، تَحْمِلُ أَعْظَمَ وَصِيَّةٍ وَأَشَدَّ تَذْكِيرٍ: اتَّقُوا يَوْمًا لَا مَفَرَّ مِنْهُ، يَوْمًا لَا يُنْسَى وَلَا يَتَكَرَّرُ، يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ بِلَا مَالٍ وَلَا جَاهٍ وَلَا عَشِيرَةٍ. يَوْمَ يُبْعَثُ النَّاسُ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، وَيَقِفُونَ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ الْمُلُوكِ، الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ. إِنَّهَا آيَةٌ تَطْرُقُ الْقُلُوبَ طَرْقًا، وَتَدْعُو الْإِنْسَانَ إِلَى مُرَاجَعَةِ نَفْسِهِ، فَكُلُّ خُطْوَةٍ نَخْطُوهَا تُقَرِّبُنَا مِنْ هَذَا الْيَوْمِ، وَكُلُّ نَفَسٍ نَتَنَفَّسُهُ هُوَ اقْتِرَابٌ إِلَى الْمَوْعِدِ الَّذِي لَا يَتَأَخَّرُ.
(وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ): فاليوم الذي نرجع فيه إلى الله ليس يوماً كالأيام، ولا موقفاً كالمواقف؛ فهو يوم تتزلزل فيه القلوب، وتضع كل ذات حمل حملها، ويفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم شأن يغنيه. يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور، ويقف الناس بين يدي الله حفاة عراة غرلاً، كما في مسند أحمد: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «تَدْنُو الشَّمْسُ مِنَ الأَرْضِ فَيَعْرَقُ النَّاسُ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَبْلُغُ عَرَقُهُ عَقِبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ الْعَجُزَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ الْخَاصِرَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ مَنْكِبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ عُنُقَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ وَسَطَ فِيهِ – وَأَشَارَ بِيَدِهِ فَأَلْجَمَهَا فَاهُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُشِيرُ هَكَذَا – وَمِنْهُمْ مَنْ يُغَطِّيهِ عَرَقُهُ». فالذي يستحضر هذا اليوم لا يمكن أن يظلم، ولا يغش، ولا يعتدي، ولا يطلق لسانه في أعراض الناس، ولا يمد يده إلى الحرام، ولا يضيع مسؤولياته. فمراقبة ذلك اليوم هي التي تجعل الإنسان قوياً على هواه، ثابتاً أمام الفتن، صادقاً في معاملاته، مخلصاً في عبادته. ولو علم العبد أنه سيقف بين يدي الله، ويسأله عن كل كلمة نطق بها، وكل خطوة خطاها، وكل نظرة نظرها، لكان ذلك كافياً لتهذيب قلبه واستقامة سيرته.
أيها المسلمون
والمتدبر لقوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ): فيوم لقاء الله يَومٌ مَشهُودٌ، وَلِقَاءٌ مَوعُودٌ، ويوم القيامة يَومٌ يَجمَعُ اللهُ فِيهِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، فَتُنشَرُ الصُّحُفُ وَالدَّوَاوِينُ، وَتُنصَبُ المَوَازِينُ، لَقَدِ انَتَهَتِ الأَيَّامُ، وَتَبَدَّدَتِ الأَوهَامُ، وَضَاعَتِ الأَحلامُ، وَاجتَمَعَ الأَحبَابُ وَالخُصُومُ، وَسِيقَ الظَّالِمُ وَالمَظلُومُ، قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [عبس:34-37]،
فَيَا أَصحَابَ العُقُولِ الرَّاجِحَةِ وَالقُلُوبِ الوَاعِيَةِ، اِعمَلُوا لِيَومِ الحَسَابِ، وَلا يَغُرَّنَّكُم طُولُ الأَمَلِ فَتُسِيئُوا العَمَلَ، فَالمَوتُ يَأتي بَغتَةً، وَمَلَكُ المَوتِ يَأخُذُ عَلَى غِرَّةٍ، وَأَنتُم لِعَبَادَةِ اللهِ وَحدَهُ مَخلُوقُونَ، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ﴾ [الذاريات:56]، فَاستَقِيمُوا عَلَى صِرَاطِهِ، وَالزَمُوا عَتَبَةَ عُبُودِيَّتِهِ، ثُمَّ أَبشِرُوا وَأَمِّلُوا خَيرًا، فَرَبُّكُم يَقُولُ – سُبحَانَهُ -: ﴿يَا عِبَادِ لا خَوفٌ عَلَيكُمُ اليَومَ وَلا أَنتُم تَحزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسلِمِينَ * اُدخُلُوا الجَنَّةَ أَنتُم وَأَزوَاجُكُم تُحبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيهِم بِصِحَافٍ مِن ذَهَبٍ وَأَكوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعيُنُ وَأَنتُم فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلكَ الجَنَّةُ الَّتي أُورِثتُمُوهَا بما كُنتُم تَعمَلُونَ * لَكُم فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنهَا تَأكُلُونَ﴾ [الزخرف:73]
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
(وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ): فالرُّجُوعَ إِلَى اللَّهِ لَيْسَ أَمْرًا اخْتِيَارِيًّا، وَلَا مَوْعِدًا يُمْكِنُ تَغْيِيرُهُ، إِنَّهُ قَدَرٌ مَقْدُورٌ، وَمِيعَادٌ مَكْتُوبٌ، حَتَّى قَالَ اللهُ لِخَيْرِ خَلْقِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ الزمر: (30)، (31)، فَكُلُّنَا رَاجِعُونَ، وَكُلُّنَا وَاقِفُونَ، وَكُلُّنَا مَسْؤُولُونَ. فاتقوا ذلك اليوم، فهو قريب، بل أقرب من شراك نعلك. ولا يغركم طول الأمل، ولا يخدعكم متاع الدنيا، فإنها زائلة، وإن النعيم الحقيقي والراحة الأبدية إنما هي بعد الموت.
(وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ): فأَعْظَمَ مَا يُعِينُ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لِهَذَا الْيَوْمِ: أَنْ يَتَذَكَّرَ الْعَبْدُ أَنَّهُ سَيَقِفُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَحْدَهُ: لَا يَنْفَعُهُ صَاحِبٌ، وَلَا وَلَدٌ، وَلَا مَالٌ. قَالَ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ الشعراء (88) ،(89). وَهُنَا يَقِفُ الْإِنْسَانُ مَعَ قَلْبِهِ: مَاذَا يَحْمِلُ؟ أَفِيهِ إِيمَانٌ؟ أَمْ فِيهِ غَفْلَةٌ وَشَهَوَاتٌ؟، هل فيه خشية لله؟، هل فيه إخلاص؟ أم امتلأ قلبه بالشهوات، واستحوذ عليه حب الدنيا، حتى نسي آخرته ومصيره؟
وَمِمَّا يُعِينُ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لِهَذَا الْيَوْمِ: تذكر القبر… فإن القبر أول منازل الآخرة؛ إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار. وتذكر البعث… يوم تخرج من القبر وحولك الظلمة والعراء. وتذكر العرض… يوم تدنو الشمس، ويطول الوقوف، ويشتد الكرب. وتذكر الحساب… يوم تُعرض صحيفتك بلا زيادة ولا نقصان. وتذكر الميزان… يوم توزن الأعمال لا الكلمات. وتذكر الصراط… أدق من الشعرة وأحد من السيف. وتذكر الجنة أو النار… فهما نهاية الطريق. واعلم أنَّ الدُّنْيَا مَزْرَعَةٌ، وَالْآخِرَةَ حَصَادٌ. والْيَوْمَ عَمَلٌ بِلَا حِسَابٍ، وَغَدًا حِسَابٌ بِلَا عَمَلٍ.
ومما يعين على الاستعداد لذلك اليوم: تقوى الله في السر والعلن، ومحاسبة النفس قبل فوات الأوان، والإكثار من العمل الصالح، والبعد عن الحرام صغيره وكبيره، والإخلاص لله في كل عمل، وصحبة الصالحين والابتعاد عن أهل الغفلة، والدعاء الدائم بحسن الختام والثبات
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.
الخطبة الثانية (اتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وإن من أعظم ما يلين القلوب، ويوقظ القلوب الغافلة، ويعيد الإنسان إلى الطريق المستقيم: أن يتذكر يوم الرجوع إلى الله. فالله سبحانه يقول: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} العلق:8، ويقول تعالى :{ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} السجدة:11، ويقول تعالى: {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} آل عمران (28). فما من أحد إلا وسيُعرض على الله عرضاً لا يخفى منه شيء.
(وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ): واعلموا أن العبد حين يقف بين يدي الله لا مال، ولا جاه، ولا أصحاب، ولا عشيرة؛ بل عمل صالح يرفعه، أو عمل سيئ يوبقه. وذكر يوم الرجوع ليس لتخويف النفوس فحسب، بل لإحيائها، وتزكيتها، وتثبيتها على الطاعة؛ فمن علم أن الله سيجمع الخلائق للحساب، أحسن العمل، وصدق التوبة، وسارع في الخيرات. وأعظم الناس عقلاً من وقف مع نفسه وقفة صدق، ونظر في صحيفة أعماله قبل أن تُعرض على الله، وأصلح ما بينه وبين ربه قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أيها المسلمون
(وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ): فاستعينوا على ذلك اليوم بكثرة ذكر الله، وملازمة الطاعات، وحفظ الجوارح، وتطهير القلوب ،والبعد عن المظالم، والإحسان إلى الخلق، فإن الحسنات يذهبن السيئات، وإن رحمة الله واسعة لعباده التائبين. ونسأل الله أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يجعل لقاءنا به لقاء رضاً ونجاة، لا لقاء خزي وهلكة.
الدعاء
