خطبة عن (اتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ)
ديسمبر 1, 2025الخطبة الأولى (الْمَعْصِيَةُ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
قال نبي الله صالح: (قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) (63) هود، وقال الله تعالى لنبيه محمد: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (15) الأنعام، وقال تعالى عن فرعون: (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (90)، (91) يونس، وفي مسند أحمد: (قال صلى الله عليه وسلم: (وَإِيَّاكَ وَالْمَعْصِيَةَ فَإِنَّ بِالْمَعْصِيَةِ حَلَّ سَخَطُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)، وفي سنن الترمذي: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لَمَّا وَقَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْمَعَاصِي نَهَتْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا فَجَالَسُوهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ وَوَاكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ فَضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ وَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ»،
إخوة الإسلام
المعصية: هي كل ما يخرج عن طاعة الله تعالى، أو يخالف ما أمر به الشرع، سواء كان قولًا أو فعلًا، وضدها الطاعة، والمعصية أنواع، فمنها: الكبيرة: مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر، ومنها: الصغيرة: وهي ما دون الكبائر، ويُمكن تكفيرها بأعمال أخرى،
وهناك المعصية الظاهرة: مثل المجاهرة بالذنب، أو فعل ما يخالف العرف والشرع، والمعصية الباطنة: وهي التي تكون في القلب، مثل التفكير في الحرام، أو الكبر،
ومن الأحكام التي تتعلق بالمعصية: الإصرار: فالإصرار على المعصية يزيد من خطورتها، ومنها: المجاهرة: فالمجاهرة بالمعصية أخطر من ارتكابها في السر، لأنها تظهر استخفافًا بالشرع ، وتدعو الآخرين لارتكابها، ومنها: التوبة: فيجب على العبد العاصي التوبة من معاصيه، وطلب مغفرة الله تعالى، ومنها: مخالفة الآمر بالمعصية: فلا طاعة للمخلوق في معصية الخالق.
أيها المسلمون
إن الحديث عن المعصية ليس حديثا عن ذنب عابر، ولا عن خطإ عارض، بل هو حديث عن باب خطير، يدخل منه الشيطان إلى قلب الإنسان، فيضعف الإيمان، ويفسد العمل، ويجلب الهم والضيق، ويصد عن الطاعات، فأول ما تُفسده المعصية: هو قلب العبد؛ ذلك العضو الذي إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله، يقول ابن المبارك (رحمه الله): “رأيت الذنوب تميت القلوب، وقد يورث الذل إدمانها”.
فالمعصية: تُطفئ نور الإيمان، وتورث قسوة القلب، وتبعد عن الله تعالى، وفي صحيح مسلم :(قَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ»،
والمعصية لا تؤثر في القلب فقط، بل لها آثار في الدنيا أيضا، قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (30) الشورى،
ومن آثار المعصية: حرمان الهداية: قال تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف:146]. ومن شؤم المعصية علي صاحبها: نسيان العلم، وذهاب الحفظ، وذلك لأن العلم نور، يقذفه الله في القلوب العامرة بطاعته، والمعصية ظلمة، وأنّى للنور أن يجتمع مع الظلام، يقول الامام الشافعي: (شَكَوْتُ إلَى وَكِيعٍ سُوءَ حِفْظِي فَأرْشَدَنِي إلَى تَرْكِ المعَاصي وَأخْبَرَنِي بأَنَّ العِلْمَ نُورٌ ونورُ الله لا يهدى لعاصي)
ومن أعظم آثار المعاصي، وأخطرها على العبد: الوحشةُ التي تحدثها المعاصي بين العبد وربه، واستثقال الطاعات، واستمراء الفواحش، والمعصية تورث الذل، ففي سنن أبي داود: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ»، لذا كان من دعاء بعض السلف :(اللهم أعزني بطاعتك، ولا تذلني بمعصيتك)، فالعز كل العز في طاعة الله، قال تعالى : ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون:8]،
ومن آثار المعاصي: محق العمر، وحرمان الرزق: فالمعاصي تمحق بركة العمر، فإذا أعرض العبد عن الله، واشتغل بالمعاصي، أضاع عمره، وأما عن حرمان الرزق: فقد قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف:96]. ومن آثار المعاصي: هلاك الأمم والشعوب: فلو تأملنا تاريخ الأمم والشعوب، لوجدنا أن المعصية سبب كل بلاء حل بالأمم، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ [الزخرف:55]. ومن آثار المعاصي: تسليط الأعداء، وذهاب القوة، ونزع الهيبة من قلوب الأعداء، ففي سنن أبي داود: (عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا». فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ». فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ قَالَ «حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ». وفي صحيح البخاري: (عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – «جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي»، ولذا كان من دعاء الصالحين: (اللهم لاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا بذنوبنا مَنْ لاَ يخافك ولا يَرْحَمُنَا)، فمازالت نعمة إلا بذنب، ولا حلت نقمة إلا بذنب، كما قال الامام علي (رضي الله عنه): (ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة)،
وتأمل كيف تحول حال القرية الظالمة من أمن إلي خوف، ومن رغد إلي جوع، بسبب المعاصي، قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل:112]. لذلك كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ».
ومن آثار المعاصي: ظهور الأمراض والأوجاع الفتاكة: ففي سنن ابن ماجه: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا. وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُنَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ. وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ. وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ ». والمعاصي سبب للفساد في الأرض: قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم:41]. والمراد بالفساد الذنوب وموجباتها،
أيها المسلمون
أما عن حال السلف مع المعصية: فقد كان السلف الصالح يتعاملون مع المعصية بحذر شديد ،ففي الصحيحين: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابْن مَسْعُودٍ: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ جَالِسٌ فِي أَصْلِ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَنْقَلِبَ عَلَيْهِ وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ وَقَالَ لَهُ هَكَذَا فَذَهَبَ وَأَمَرَّ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ)، وفي صحيح البخاري: (عَنْ أَنَسٍ – رضي الله عنه – قَالَ إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالاً هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إِنْ كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – الْمُوبِقَاتِ)، (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِى بِذَلِكَ الْمُهْلِكَاتِ)،
لقد كان السلف الصالح يعلمون شؤم المعصية، ولذلك كان الواحد منهم إذا نزل به بلاء، رجع إلي نفسه، وعاد باللائمة عليها، وسرعان ما يرجع إلي ربه، ويقرع باب التوبة، مستغفرا، يقول ما قاله أبونا آدم، وأمنا حواء حينما أخرجا من الجنة، قالي تعالى: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف:23]. وقال تعالى ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [النساء:79].
وأما عن علاج الذنوب والمعاصي: فمن أعظم أبواب النجاة منها: تقوى الله، ومراقبته، وكثرة ذكر الله، وصحبة الصالحين، وإغلاق أبواب الفتنة قبل أن تُفتح، وإشغال الوقت بالطاعة، وقطع الطريق على النفس الأمارة بالسوء، والتوبة النصوح، قال تعالى: ﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر:53].
ومن علاج الذنوب والمعاصي: استشعار عظمة الله: قال بعض السلف: (لا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر عظمة من عصيت)، فالله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وبيده مقاليد الأمور، قال تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا﴾ [الأحزاب:52]،
ومن علاج الذنوب والمعاصي: المجاهدة: فترك المعصية يحتاج إلى مجاهدة وصبر ومصابرة، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت:69] ومن علاج الذنوب والمعاصي: معايشة حقيقة الموت: قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ [آل عمران:185]، ومعايشة يوم القيامة: قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ [البقرة:281]، وقال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾ [الحاقة:18].
ومن علاج الذنوب والمعاصي: الدعاء الدائم المستمر بالثبات على الدين والطاعة: ففي سنن الترمذي: (قَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ قُلْتُ لأُمِّ سَلَمَةَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا كَانَ عِنْدَكِ قَالَتْ كَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ». قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لأَكْثَرِ دُعَائِكَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ قَالَ «يَا أُمَّ سَلَمَةَ إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إِلاَّ وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ»
ومنها: أن يحذر المسلم من إحسان الظن بنفسه؛ لأن ذلك يمنعه من رؤية عيوبها، فربما كانت تلك العيوب سببًا لعدم ثباته على الطاعة؛ ومنها: أن يحذر العجب بطاعته وعبادته، فيحتقر ويزدري المذنبين، فربما كان ذلك سببًا في انتكاسته؛ وأتبع السيئة الحسنة تمحها، ففي الصحيحين: (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ – رضي الله عنه – أَنَّ رَجُلاً أَصَابَ مِنَ امْرَأَةٍ قُبْلَةً، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) هود:114. قَالَ الرَّجُلُ أَلِيَ هَذِهِ قَالَ: «لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الْمَعْصِيَةُ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
واعلموا أن الله تعالى قد أراد أن يُذنب العبادُ لحكمة: ففي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ»، وفي سنن الترمذي: (أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»، فهذه الذنوب والمعاصي إنما قدّرها الله تعالى على عباده،
والحكمة من تقدير المعاصي: تتمثل في إظهار كمال قدرة الله تعالى، ورحمته، وحكمته، حيث يظهر من خلالها أسماء الله وصفاته، مثل: (التواب والغفور والشديد)،
كما أن تقديرها يمنح العبد فرصة للتوبة، والعودة إلى الله، وفهم قيمة الطاعة، والتحرر من الغرور والعجب، فالعاصي الذي يوفق للتوبة، يزداد انكسارًا بين يدي الله، وربما يكون أشد إنابة منه قبل المعصية، بينما يظهر الله شديد بطشه وعذابه لمن أصر على المعصية، ولمن هانت عليه المعاصي.
ومن حكمتها: تجنب الغرور والعجب: فعندما يرى العبد حال أهل المعصية، يستشعر نعم الله عليه، ويزداد شكرًا لله، ويتجنب الغرور والعجب بالنفس. ومن حكمتها: إظهار القدرة الإلهية: فيُظهر الله من خلال تقدير المعاصي قدرته على هداية من يشاء من عباده وإضلال من يشاء، وإظهار عزة الربوبية وذل العبودية. ومن حكمتها: تحقيق مصالح أخرى: مثل قيام الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاللذين يتسلط عليهم الكفار لا يظهر لهم الجهاد وغيره إلا بوجود الكافر.
ومن حكمة تقدير المعصية والذنب أيضا: معرفة كرم الرب في قبول العذر من العاصي إذا اعتذر إليه، فيوجب له ذلك اشتغالاً بذكره وشكره ومحبته، فيكمّل لعبده مراتب الذل والخضوع والانكسار بين يديه والافتقار إليه والتوبة والرجوع إليه، فيترتب على ذلك حصول فرح الله تعالى بتوبة عبده، ففي الصحيحين: (قَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلاً، وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ، حَتَّى اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي. فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ»
الدعاء
