خطبة عن (الْمَعْصِيَةُ)
ديسمبر 2, 2025الخطبة الأولى «أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ»
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (1): (4) قريش، وفي سنن الترمذي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا».
إخوة الإسلام
من أعظم النعم التي امتن الله بها على عباده، نعمة الأمن، ونعمة الرزق، وهما أساس الحياة، واستقامة المعاش، فلا يهنأ عبد بدين ولا دنيا إذا فقدهما، قال الله تعالى في سورة قريش: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾. فذكر الله تعالى هاتين النعمتين بعد أمره بعبادته، وكأن المعنى: اعبدوا ربكم شكراً على ما أنعم به عليكم من رزقٍ وأمنٍ، فهما جماع النعم، ومن فقدهما عاش في شقاءٍ وضيقٍ وعناء.
وقد كانت قريش في جاهليتها تعيش بين قبائل العرب التي تأكل بعضها بعضاً، والقتل والسلب ديدنها، ولكن الله خصهم بنعمة الأمن في بلدٍ حرام، لا يُهاجمهم فيه أحد، ولا يُظلم فيه أحد، ثم رزقهم مع الأمن رزقاً طيباً، فجعل تجارتهم آمنة، ورزقهم من كل الثمرات، ثم أمرهم الله بعبادته شكرًا له، فقال تعالى: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ﴾، لأن الشكر الحقيقي للنعم هو طاعة المنعم، فمن عبد الله شكرًا دام عليه فضله، ومن عصاه كفرًا زالت عنه النعمة.
وتأملوا حال الناس في زمن النبي ﷺ: فحين بعثه الله في مكة، كانت الجزيرة تعيش فوضى الجوع والخوف، فلما جاء الإسلام، وحكم القرآن، انتشر الأمن في البلاد، وعمّ الرخاء، فصار الرجل يخرج من أقصى الجزيرة، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ففي صحيح البخاري: (وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ)، فهل بعد هذا الأمن أمن؟ وهل بعد هذه النعمة نعمة؟،
فقوله تعالى: (أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ): هي نعمٌ تستوجب الشكر، والشكر لا يكون باللسان فقط، بل بطاعة الله في السر والعلن، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والعدل بين الناس، والبعد عن الظلم والمعاصي، فمن شكر النعمة دامت، ومن كفرها زالت، قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم:7].
وقول الله تعالى: (أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ): ليس آية تقرأها الألسن فقط، بل هي موعظةٌ متجددة، تقول لكل مجتمعٍ آمنٍ غنيٍّ: احذر أن تُبدّل شكر الله نسيانًا، أو أن تُقابل النعمة بالمعصية، فإن الله غنيٌّ عنك، وقادرٌ أن يبدل النعمة نقمةً في لحظة،
فلنكن من الشاكرين لا بالكلام، بل بالعمل، ولنجعل من أمننا ورزقنا وسيلةً لطاعة الله، ولنكثر من الدعاء أن يديم علينا النعم، ويكفينا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، ففي صحيح مسلم: (كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ».
والجوع والخوف: هما سلاح الله الذي يبتلي به من يشاء من عباده، قال تعالى: ﴿فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل:112]. فإذا نُزعت بركة الرزق، واضطرب الأمن ، لم يجد الناس قراراً ولا طمأنينة، وإن ملكوا الأموال والقصور، وتنعّموا بالمظاهر والترف.
وقد علّمنا القرآن أن الأمن نعمةٌ لا تُقدّر بثمن، وأن فقده بلاء عظيم، فقد قال الله تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (112) النحل،
وقال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (15): (19) سبأ
فكم من بلادٍ واسعةٍ عامرةٍ، زالت خيراتها حين ضاع الأمن، وكم من شعبٍ كان في رخاءٍ وسعةٍ، فلما فسدت القلوب، وظهرت المعاصي، تبدلت النعمة نقمة، وسُلبوا الطمأنينة التي كانت تسكن بيوتهم وقلوبهم، فمن أهم وأعظم أسباب الأمن: الإيمانُ بالله تعالى، فمن آمنَ بربه استقرت نفسه، ومن ابتعد عن الطاعة عاش في قلقٍ واضطراب، وإن بدا في ظاهر أمره آمناً. قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام:82].
أيها المسلمون
لقد رأينا في هذا العصر صورًا مؤلمة لأممٍ فقدت الأمن والطعام، فصارت تبحث عن لقمةٍ تسد بها رمقها، أو مأوى تأوي إليه من الخوف والدمار. أليست هذه الآيات ماثلة أمام أعيننا؟ أليس من الواجب أن نحمد الله آناء الليل وأطراف النهار على ما نحن فيه من استقرارٍ ونعمةٍ وأمان؟
فلنحذر من كفر النعم، ولنصن هذه النعمة بالعدل والطاعة، ولنحذر من الظلم والفساد، فإن الله يُبدّل النعمة إذا لم تُصن، قال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الأنفال:53].
فاتقوا الله يا عباد الله، واحمدوه على ما أنعم به عليكم من الرزق والأمن والإيمان، وأكثروا من الدعاء، ففي صحيح مسلم: (عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَكَفَانَا وَآوَانَا فَكَمْ مِمَّنْ لاَ كَافِيَ لَهُ وَلاَ مُئْوِيَ». وفي سنن أبي داود: (أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ قَالَ «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية«أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ»
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
فمن شكر الله على نعمة الأمن أن نحافظ عليها بطاعة الله، وبالعدل، وبالوفاء بالحقوق، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن نغرس في أبنائنا حب الوطن، لا من باب العصبية، ولكن من باب حفظ النعمة التي امتن الله بها علينا.
ومن شكر الله على نعمة الرزق ألا نطغى إذا أُعطينا، وألا نبخل إذا أُغنينا، وألا ننسى الفقراء والجائعين، ففي مسند أحمد: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- «مَنِ احْتَكَرَ طَعَاماً أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَرِئَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمُ امْرُؤٌ جَائِعٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى»
ومن شكر النعمة أن ننفق مما رزقنا الله، وأن نساعد المحتاج، فإن المال الذي لا يُخرج منه حقه يُنزع بركته، ويكون حسرةً على صاحبه يوم القيامة. ففي سنن الترمذي: (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «يُجَاءُ بِابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ بَذَجٌ فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ أَعْطَيْتُكَ وَخَوَّلْتُكَ وَأَنْعَمْتُ عَلَيْكَ فَمَاذَا صَنَعْتَ. فَيَقُولُ يَا رَبِّ جَمَعْتُهُ وَثَمَّرْتُهُ فَتَرَكْتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ فَارْجِعْنِي آتِكَ بِهِ. فَيَقُولُ لَهُ أَرِنِى مَا قَدَّمْتَ. فَيَقُولُ يَا رَبِّ جَمَعْتُهُ وَثَمَّرْتُهُ فَتَرَكْتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ فَارْجِعْنِي آتِكَ بِهِ. فَإِذَا عَبْدٌ لَمْ يُقَدِّمْ خَيْرًا فَيُمْضَى بِهِ إِلَى النَّارِ».
وفي الصحيحين: (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا. وَيَقُولُ الآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا».
أيها المسلمون
فاحذروا من كفر النعم، فإن دوامها ليس حقًّا مكتسبًا، وإنما هو فضلٌ من الله، يُنزع متى شاء، فكم من قومٍ عاشوا في رغدٍ ونعمةٍ، فلما أعرضوا عن شكر المنعم، بدّل الله حالهم من بعد أمنٍ خوفًا، ومن بعد سعةٍ ضيقًا، ومن بعد غنى فقرًا.
وفي صحيح البخاري: (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ – رضي الله عنهما – أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»،
وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ)
فاللهم أدم علينا نعمة الإيمان والأمن والاستقرار، وأطعِم الجائعين، وآمن الخائفين، واهدِ الحائرين، ووفّق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، وبارك في بلاد المسلمين أجمعين.
الدعاء
