خطبة عن «أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ»
ديسمبر 3, 2025الخطبة الأولى (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى؟)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى لنبيه موسى: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى) (17): (19) النازعات، وقال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) (9) الشمس، وقال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) (14) الأعلى، وقال تعالى: (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) (18) فاطر، وقال سبحانه: (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) (76) طه، وفي صحيح مسلم: كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا).
إخوة الإسلام
“التزكية”: هي التطهر من دنس الكفر والمعاصي، والتزكية: أن تزكي نفسك بالإيمان والعمل الصالح، وقال تعالى: (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى؟)، أي: هل لك رغبة في أن تتطهر، وتُطهِّر نفسك من الذنوب والأخلاق السيئة، وتصبح مؤمناً؟،
(هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى؟): إنها دعوة لطيفة لتبني الإيمان والعمل الصالح، وأن تتحلى بالصفات الحميدة، وتتخلى عن العقائد الضالة، وتتوب إلى ربك، وتتقبل الإرشاد إلى طريق الهداية والفلاح،
ومن الملاحظ أنه حِينَ قَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ: «هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى»، كَانَ يُخَاطِبُ رَجُلًا بَلَغَ غَايَةَ الطُّغْيَانِ، وَمَعَ ذَلِكَ، لَمْ يُغْلِقِ اللَّهُ أَمَامَهُ بَابَ التَّزْكِيَةِ، فَكَيْفَ بِنَا نَحْنُ؟!، فمَا دَامَ الْعَبْدُ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ، فَبَابُ التَّزْكِيَةِ مَفْتُوحٌ، وَبَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ، وَبَابُ الْعَوْدَةِ مَفْتُوحٌ.
واعلم أن حاجة النفس إلى التزكية في هذا الزمان أشد من حاجتها إلى الطعام والشراب والكساء، وذلك لعدة أسباب، ومنها: كثرة الفتن والمغريات، وأصناف الشهوات والشبهات؛ فحاجة المسلم الآن إلى البناء أعظم من حالة أخيه أيام السلف، والجهد لابد أن يكون أكبر؛ وذلك لفساد الزمان والخلان، وضعف المعين، وقلة الناصر. ومن أسباب حاجة النفس إلى التزكية: كثرة حوادث النكوص على الأعقاب، والانتكاس، حتى بين بعض العاملين للإسلام، مما يحملنا على الخوف من أمثال تلك المصائر. ومن أسباب حاجة النفس إلى التزكية: أن مسؤولية المرء ذاتية، فالإنسان يحاسب عن نفسه لا عن غيره، فلابد من جواب واستعداد، قال تعالى: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) النحل: (111)، ومن أسباب حاجة النفس إلى التزكية: عدم العلم بما نحن مقبلون عليه؛ والله عز وجل – وهو الحق وقوله الصدق – أقسم في كتابه أحد عشر قسماً على فلاح من زكى نفسه، وعلى خسران من أهمل ذلك، فقال تعالى: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (1): (10) الشمس،
ومن أسباب حاجة النفس إلى التزكية: أن النفس من أشد أعداء الإنسان الداخليين، فهي تدعو إلى الطغيان، وإيثار الحياة الدنيا، وسائر أمراض القلب إنما تنشأ من جانبها، ولذلك، كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من شرها كثيراً، ففي صحيح مسلم: (كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا). ومن أسباب حاجة النفس إلى التزكية: أن التزكية طريق الجنة، قال الله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) النازعات: (40)، (41)،
ومن أسباب حاجة النفس إلى التزكية: أن الإنسان محب للكمال، فينبغي له أن يعمل على إكمال نفسه، بتزكيتها وتربيتها، فهذه النفس تصاب بالأعراض التي تصاب بها الأبدان، فهي محتاجة إلى تغذية دائمة، ومحتاجة إلى رعاية، ومحتاجة كذلك إلى متابعة، للازدياد من الخير، كما يزداد البدن من الطاقات والمعارف، فلذلك احتاج الإنسان إلى أن يراقب تطورات نفسه، ويعلم أنها وعاء إيمانه، وأهم ما عنده هو هذا الإيمان، فإذا سلبه فلا فائدة في حياته، فلا بد من العمل على تنمية هذا الإيمان وزيادته عن طريق تزكية هذه النفس وتهذيبها
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
والتزكية تقوم على أمرين: (تخلية، وتحلية): أي تخلية النفس عن كل الذنوب والسيئات، والمعاصي والموبقات، وتحليتها: بالإيمان، وصالح الأعمال، والمستحسن من الأخلاق والعادات، حتى تبلغ بها إلى درجة النفس المطمئنة، يقول الامام الغزالي: (جوهر عملية التزكية: الارتقاء بالنفس درجة درجة، من السيئ إلى الحسن، ثم ترقيها في مراتب الحسن والصفاء، حتى تبلغ أعلى المستويات الإنسانية وأسماها، فتتحول من نفس أمارة بالسوء، أو لوامة، إلى نفس مطمئنة، راضية عن ذاتها، مرضية عند مولاها وربها”.
واعلموا أن من أعظم فوائد التزكية، وعواقبها على أصحابها: أنها تهبهم سعادة الدنيا قبل سعادة الآخرة، قال ابن الجوزي: (من أحب تصفية الأحوال فليجتهد في تصفية الأعمال)، قال تعالى: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً) (الجـن:16)، وصدق الله تعالى إذ يقول: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (9)، (10) الشمس
وأما عن الوسائل التي يتوصل بها الانسان إلى تزكية هذه النفس وتهذيبها، فمنها: العمل على تطهير النفس من أخلاقها الرذيلة: كالرياء والعجب والشح والبخل، والحرص والطمع، والأمن من مكر الله، إلى غير ذلك، وتحليتها بالأخلاق الحميدة الفاضلة مثل: الإخلاص، والإنابة، والخوف من الله، والشكر، والتواضع، إلى غير ذلك. ومن وسائل تزكية النفس: المحافظة على الفرائض والنوافل، لأنها أفضل طاعة يتقرب بها العبد إلى مولاه، ففي صحيح البخاري: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ)، وأعظمها تأثيراً في تزكية النفوس هو ما كان منها أكثر مذلة وخضوعاً لله عز وجل.
ومن وسائل تزكية النفس: تدبر القرآن، فهو جلاء القلوب، وإذا صفى القلب زكت النفس، فالقلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، وجلاؤها تلاوة القرآن، وذكر الله، والاستغفار، ومن وسائل تزكية النفس: التوبة، فهي أول مقامات منازل العبودية عند السالكين، وبها يذوق الإنسان حلاوة الانتقال من التخلية إلى التحلية، قال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (31) النور، ومن وسائل تزكية النفس: الإكثار من وعظها وتذكيرها بالموت والدار الآخرة، ففي سنن ابن ماجه: (عَنْ أَبِي يَعْلَى شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا ثُمَّ تَمَنَّى عَلَى اللَّهِ».
ومن وسائل تزكية النفس: الإقلال من النوم والأكل والكلام، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله موجبة لقسوة القلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي، وكثرة الأكل موجبة لقوة نوازع النفس الشهوانية لدى الإنسان، ومن وسائل تزكية النفس: التحلي بالصبر واليقين: فبالصبر ينتصر على شهوات نفسه، فيحجزها عن المحرمات، ويحبسها على الطاعات، ولا يمكن الحصول عليهما إلا عن طريق الصبر، أما اليقين: فإنه يقضي به على ثبات النفس التي يُوسوسها بها الشيطان، قال سفيان : بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، قال الله عز وجل: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (24) السجدة،
ومن وسائل تزكية النفس: الدعاء: فهو سلاح المؤمن، فيلجأ الإنسان إلى الله دائماً أن يقيه شر نفسه، وأن يعينه على طاعته، فقد كان من دعائه عليه الصلاة والسلام، كما في صحيح مسلم: (اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ. أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ وَاهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ لاَ يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لاَ يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ »،
ومن وسائل تزكية النفس: ترك الحرام: ففي مسند أحمد: (قال صلى الله عليه وسلم: (يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ النَّارُ أَوْلَى بِهِ)، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وَقَالَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)». ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ».
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ
الخطبة الثانية (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى؟)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
(هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى؟): إِنَّ التَّزْكِيَةَ الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا الْقُرْآنُ لَيْسَتْ مَجَرَّدَ تَرْكٍ لِلْمَعَاصِي، بَلْ هِيَ بِنَاءٌ يَرْفَعُ الْإِنْسَانَ دَرَجَاتٍ. ففِي قِصَّةِ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ عِبْرَةٌ عَجِيبَةٌ؛ فَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ لِمَنْ قَالَ: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى»: ﴿هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى﴾. وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: «مَا زَالَ بَابُ الرَّحْمَةِ مَفْتُوحًا، وَمَا زَالَ طَرِيقُ الطَّهَارَةِ مُمْكِنًا، وَمَا زَالَ لَكَ أَنْ تَتَغَيَّرَ». ثُمَّ جَاءَتِ السُّنَّةُ تُؤَكِّدُ ذَلِكَ، فَقَالَ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ الْقَلْبِ إِذَا صَلَحَ أَوْ فَسَدَ، وَفِي الدُّعَاءِ: «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا».
وَمِنْ أَبْرَزِ مَا يَدُلُّ عَلَى خُطُورَةِ عَدَمِ التَّزْكِيَةِ: قِصَّةُ قَارُونَ؛ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَمَالًا، فَغَرَّهُ ذَلِكَ وَقَالَ مُتَكَبِّرًا: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ القصص:78. فَكَانَ عِلْمُهُ سَبَبَ طُغْيَانِهِ، فَخُسِفَ بِهِ الْأَرْضُ. وَهَكَذَا كُلُّ عِلْمٍ لَا يُزَكِّي النَّفْسَ، وَلَا يَقُودُ إِلَى اللَّهِ، فَهُوَ بَلَاءٌ عَلَى صَاحِبِهِ، أَمَّا الْعِلْمُ الَّذِي يُثْمِرُ الخَشْيَةً، فَهُوَ الَّذِي يَرْفَعُ شَأْنَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ فاطر:28.
(هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى؟): فالنَّفْس إِذَا لَمْ تُزَكَّ، فَإِنَّهَا تَمِيلُ إِلَى الشَّهَوَاتِ، وَتَنْحَرِفُ مَعَ الْأَهْوَاءِ، وَتَسْتَجِيبُ لِوَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ، وَلَا يَنْجُو مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ، والتَّزْكِيَةَ حَقِيقَتُهَا ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: أَوَّلًا: تَطْهِيرُ الْقَلْبِ مِنْ أَمْرَاضِهِ: الْحَسَدُ، وَالرِّيَاءُ، وَالْعُجْبُ، وَالْكِبْرُ، وَالتَّهَاوُنُ بِالذُّنُوبِ. ثَانِيًا: تَطْهِيرُ الْجَوَارِحِ مِنَ الْحَرَامِ: لِسَانٌ يَغْتَابُ، نَظَرٌ يَنْفَلِتُ، يَدٌ تَبْطِشُ، خُطُوَاتٌ تَذْهَبُ إِلَى مَعْصِيَةٍ… وَلَا يَزْكُو عَبْدٌ وَهُوَ يُصِرُّ عَلَى مَعْصِيَةٍ. ثَالِثًا: عِمَارَةُ الْقَلْبِ بِالطَّاعَاتِ: صَلَاةٌ خَاشِعَةٌ، وَتِلَاوَةٌ مُتَدَبِّرَةٌ، وَذِكْرٌ دَائِمٌ، وَصَدَقَةٌ، وَإِحْسَانٌ، وَصِلَةُ رَحِمٍ، وَعِلْمٌ وَتَعَلُّمٌ. ونحن الآن فِي زَمَانٍ تَكَاثَرَتْ فِيهِ الْفِتَنُ، وَتَزَاحَمَتِ الشَّهَوَاتُ، وَضَعُفَتِ الْهُمَمُ؛ فَصَارَتِ التَّزْكِيَةُ ضَرُورَةً لِلْقَلْبِ، لَا نَافِلَةً وَلَا تَرَفًا، فإِنَّنَا فِي زَمَنِ فِتَنٍ مُتَلَاحِقَةٍ، وَإِغْرَاءَاتٍ مُتَتَابِعَةٍ، وَشَهَوَاتٍ لَا تَنْقَطِعُ؛ وَلَا نَجَاةَ فِيهِ إِلَّا لِقَلْبٍ زَكَّاهُ اللَّهُ، وَنَفْسٍ طَهَّرَهَا صَاحِبُهَا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
(هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى؟): فالنفس إذا لم تُزكَّ تُغلبها العادة والكسل والغفلة، فلا ينجو من ذلك إلا من زكّى نفسه، وكلما زكى العبد نفسه؛ أكرمه الله: راحة في القلب، ونورًا في الوجه، وسكينة في الصلاة، وتوفيقًا في العمل، ومحبةً في قلوب الخلق. فليس شيءٌ أنفع للعبد في الدنيا والآخرة من أن يسعى لتزكية نفسه، وأن يجتهد في إصلاحها، فاللَّهُمَّ زَكِّ نُفُوسَنَا، وَطَهِّرْ قُلُوبَنَا، وَأَصْلِحْ أَعْمَالَنَا،
الدعاء
