خطبة عن ( الجزاء من جنس العمل )
ديسمبر 6, 2025الخطبة الأولى (نحن في زمن وأَيَّام الصَّبْرِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى أبو داود وابن ماجه وصححه الألباني: (قَالَ أَبُو أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيُّ سَأَلْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ فَقُلْتُ يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ كَيْفَ تَقُولُ فِي هَذِهِ الآيَةِ (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) قَالَ أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ «بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْىٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ – يَعْنِي بِنَفْسِكَ – وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ». وَزَادَنِي غَيْرُهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ (أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ قَالَ «أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ». وفي رواية للطبراني في المعجم الكبير: (إن من ورائكم زمان صبر، للمتمسك فيه أجر خمسين شهيدا، فقال عمر: يا رسول الله منا أو منهم؟، قال: منكم).
إخوة الإسلام
لقد أخْبَرَنا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بما سيكونُ من قِلَّةِ الدِّينِ في آخِرِ الزَّمانِ، كما أخْبَرَنا بأَجْرِ الصابرين المُتَمَسِّكِين بدِينِهم في هذا الزمان، وفي ذلك حثًّ لنا على الصَّبْرِ، مع رَجاءِ الأَجْرِ من اللهِ، فقال صلى الله عليه وسلم: (فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ». قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ قَالَ «أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ».
وها نحن نعيش في هذا الزمان، نعيش “زَمانَ الصَبْر” فهي أيام لا طَريقَ لنا فيها إلَّا الصَّبْرُ، وأيَّام يُحمَدُ فيها الصَّبْرُ وأهل الصبر، فهذا الزمان هو الذي تَغلِبُ فيه الفِتَنُ، وتَضعُفُ فيه شَوْكَةُ المُسلِمينَ، “لِلمُتَمَسِّكِ فيه”، أي: لِمَنْ صَبَرَ على التَّمسُّكِ بدِينِه واعْتَصَمَ به، “أَجْرُ خَمْسينَ شَهيدًا”، أي: يَتَضاعَفُ له أجْرُه بأَجْرِ خَمْسينَ من شُهَداءِ الصَّحابَةِ، وهذا مِنْ عِظَمِ بَلاءِ هذا الزَّمانِ، الذي يَكون المُسْتَمْسِكُ بدِينِه كالقابِضِ على جَمْرةٍ من نارٍ،
فمن يعش في هذا الزمان، لا يجد على الخير أعواناً إلا القليل، ومع ذلك يصبر على طاعة ربه، ويصبر على الدعوة إلى الله تعالى، ويصبر على الإسلام صبراً كأنه يقبض على الجمر، فنحن الآن في مجتمع تقتحم فيه المعاصي اقتحاماً، فيمشي المؤمن في الشارع فيجد المعاصي، ويفتح التلفاز أو التليفون، أو الكمبيوتر فيجد المعاصي، بل وينظر من نافذة داره فيجد المعاصي، ويدخل (الجامعة أو المستشفى أو المؤسسة أو المصنع أو المقر الحكومي) فيجد المعاصي، ويذهب للعزاء أو الافراح فيجد المعاصي، ففي كل مكان تطأه قدمه يجد المعاصي، وإذا أردت أن تعصم نفسك من ذلك كله، وتقبض على دينك، فأنت تقبض على الجمر، فنحن في هذا الزمان يحارب فيه الدعاة، ويعتقل فيه المتمسكون بدينهم، ويعذب فيه الناطق بالحق، وتحتل الدول والشعوب التي تخالف أمر الأقوياء، وكأننا في زمن من قالوا: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} [النمل:٥٦]، فما هي جريمتهم؟ {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:٥٦]،
ونحن الآن في هذا الزمن الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ، قِيلَ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ قَالَ الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ». رواه ابن ماجه وأحمد،
وقال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ بِكُمْ وَبِزَمَانٍ». أَوْ «يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ زَمَانٌ يُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ غَرْبَلَةً تَبْقَى حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ وَاخْتَلَفُوا فَكَانُوا هَكَذَا». وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَقَالُوا وَكَيْفَ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «تَأْخُذُونَ مَا تَعْرِفُونَ وَتَذَرُونَ مَا تُنْكِرُونَ وَتُقْبِلُونَ عَلَى أَمْرِ خَاصَّتِكُمْ وَتَذَرُونَ أَمْرَ عَامَّتِكُمْ» رواه أبو داود وغيره،
وفي سنن الترمذي: «كَيْفَ بِكُمْ إِذَا غَدَا أَحَدُكُمْ فِي حُلَّةٍ وَرَاحَ فِي حُلَّةٍ وَوُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ صَحْفَةٌ وَرُفِعَتْ أُخْرَى وَسَتَرْتُمْ بُيُوتَكُمْ كَمَا تُسْتَرُ الْكَعْبَةُ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مِنَّا الْيَوْمَ نَتَفَرَّغُ لِلْعِبَادَةِ وَنُكْفَى الْمُؤْنَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لأَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْكُمْ يَوْمَئِذٍ».
فإذا كنت من هؤلاء المؤمنين القابضين على الجمر، والذين يصلحون ما أفسد الناس من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلاء الغرباء الذين لا يعتبرون بنظر الناس إليهم، وإنما فقط يعتبرون بنظر الله عز وجل لهم، فوطن نفسك، واعلم بأنك في أيام الصبر، وأن أجرك عظيم، وأنك كمن هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم: (عن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ». قال الإمام النووي: (المراد بالهرج هنا: الفتنة، واختلاط أمور الناس).
أيها المسلمون
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: (لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ». قال العلماء: (هذا ليس على إطلاقه في كل عمل، وإنما يكون في الأعمال التي يشق فعلها وقت الفتن، وهُوَ مَبْنِيّ عَلَى قَاعِدَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّ الْأَعْمَال تَشْرُف بِثَمَرَاتِهَا، وَالثَّانِيَة أَنَّ الْغَرِيب فِي آخِر الْإِسْلَام كَالْغَرِيبِ فِي أَوَّله، وَبِالْعَكْسِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» رواه مسلم.
فلا بد أن نعلم أن الصحابة لن يصل إلى درجاتهم أحد، ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ – رضي الله عنه – قَالَ قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ»، فهذا الأجر يُرِيد به الْمُنْفَرِدِينَ عَنْ أَهْل زَمَانهمْ، فمثلا: (الْإِنْفَاق فِي أَوَّل الْإِسْلَام أَفْضَل) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام لِخَالِدِ بْن الْوَلِيد رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: (لَوْ أَنْفَقَ أَحَدكُمْ مِثْل أُحُد ذَهَبًا مَا بَلَغَ مَدّ أَحَدهمْ وَلَا نَصِيفه). وَالسَّبَب فِيهِ أَنَّ تِلْكَ النَّفَقَة أَثْمَرَتْ فِي فَتْح الْإِسْلَام وَإِعْلَاء كَلِمَة اللَّه مَا لَا يُثْمِر غَيْرهَا، وَكَذَلِكَ الْجِهَاد بِالنُّفُوسِ لَا يَصِل الْمُتَأَخِّرُونَ فِيهِ إِلَى فَضْل الْمُتَقَدِّمِينَ لِقِلَّةِ عَدَد الْمُتَقَدِّمِينَ وَقِلَّة أَنْصَارهمْ، فَكَانَ جِهَادهمْ أَفْضَل، وَلِأَنَّ بَذْل النَّفْس مَعَ النُّصْرَة وَرَجَاء الْحَيَاة لَيْسَ كَبَذْلِهَا مَعَ عَدَمهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: (أَفْضَل الْجِهَاد كَلِمَة حَقّ عِنْد سُلْطَان جَائِر). جَعَلَهُ أَفْضَل الْجِهَاد لِيَأْسِهِ مِنْ حَيَاته.
أَمَّا النَّهْي عَنْ الْمُنْكَر بَيْن ظُهُور الْمُسْلِمِينَ، وَإِظْهَار شَعَائِر الْإِسْلَام، فَإِنَّ ذَلِكَ شَاقّ عَلَى الْمُتَأَخِّرِينَ، لِعَدَمِ الْمُعِين، وَكَثْرَة الْمُنْكَر فِيهِمْ، كَالْمُنْكِرِ عَلَى السُّلْطَان الْجَائِر، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: (يَكُون الْقَابِض عَلَى دِينه كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْر). فلَا يَسْتَطِيع دَوَام ذَلِكَ لِمَزِيدِ الْمَشَقَّة فَكَذَلِكَ الْمُتَأَخِّر فِي حِفْظ دِينه، وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ فَلَيْسُوا كَذَلِكَ، لِكَثْرَةِ الْمُعِين وَعَدَم الْمُنْكَر، فَعَلَى هَذَا يَنْزِل الْحَدِيث ويفهم،
وأيضا فإن هذا لا يقتضي تفضيل المؤمنين في وقت الفتن على الصحابة. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: (حَدِيث لِلْعَامِلِ مِنْهُمْ أَجْر خَمْسِينَ مِنْكُمْ). لَا يَدُلّ عَلَى أَفْضَلِيَّة غَيْر الصَّحَابَة عَلَى الصَّحَابَة، لِأَنَّ مُجَرَّد زِيَادَة الْأَجْر لَا يَسْتَلْزِم ثُبُوت الْأَفْضَلِيَّة الْمُطْلَقَة، وَأَيْضًا فَالْأَجْر إِنَّمَا يَقَع تَفَاضُله بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يُمَاثِلهُ فِي ذَلِكَ الْعَمَل، فَأَمَّا مَا فَازَ بِهِ مَنْ شَاهَدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ زِيَادَة فَضِيلَة الْمُشَاهَدَة فَلَا يَعْدِلهُ فِيهَا أَحَد.
فمخطئ وواهم من تصور له أحلامه أن الحياة سهلة، وأن دروبها مفروشة بالرمال الناعمة ،أو أنها مزروعة بالورود والرياحين، فالحقيقة التي لا مراء فيها أن دروب الحياة مليئة بالأشواك، ومليئة بالمصاعب، والعقبات والعراقيل، ولا يكاد امرؤ أن يخلو من البلايا والنوازل، والمؤمنون هم الأكثر ابتلاء دون غيرهم. ففي مسند أحمد: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَلاَءً الأَنْبِيَاءَ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ »،
فمن حكمة الله جل شأنه أن يبتلي عباده، وان يمتحن صدق إيمانهم في كثير من الأمور، كالخوف، والجوع، والفقر، وفقد الأحبة، والفراق، والخسارة في التجارة، ونقص الأموال، وغير ذلك من الأهوال والمصائب والشدائد، التي تحتاج إلى نفوس قوية بإيمانها، وعزائم جبارة، تستطيع حمل هذه الأهوال والتعايش معها، والصبر عليها، دون تبرم، ودون أي اعتراض أو شكوى، بل رضا واحتسابا لله، مصداقا لقوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (155): (157) البقرة، أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (نحن في أَيَّام الصَّبْرِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وقد أثنى الله تعالى على هؤلاء الذين اختبر إيمانهم فثبتوا، وصبروا وصابروا، وقد تحروا الهداية من الله وقبلوها، وعملوا بها، فكانت لهم المغفرة، وقد وعدهم الله بالفوز العظيم، وبأنه سبحانه وتعالى سيوفيهم أجورهم، يقول سبحانه: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (10) الزمر.
ولذلك، فإِذَا كَثُرَت عَلَيْكَ الفِتَنُ، ورَأَيْتَ النَاسَ يَنْحَرِفُونَ عَنِ الطَّرِيْقِ مِنْ حَوْلِكَ، فَاِصْبِرْ, وإِذَا كَثُرَت الفِتَنُ وَالمُغْرِيَاتُ، وَزَادَتْ فِي النَّاسِ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتُ، فَاصبر، فنحن في أَيَّام وزمن الصَّبْرِ،
ولاَ بُدَّ لِلإِنْسَانِ أَنْ يَتَفَقَدَ جَذْوَةَ نُورِ الإِيْمَانِ فِي قَلْبِهِ، لِئلَا تَنْطَفِئ، وَيَأْمُرَ مَنْ حَوْلَهُ بِالـمَعْرُوفِ ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الـمُنْكَرِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ إِنْكَارِ الـمُنْكَرِ باليَدِ أَوِ باللِّسَانِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِإنْكَارِ بِالقَلْبِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيْمَانِ، وَلَيْسَ دُونَ ذَلِكَ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيْمَانٍ، ففي صحيح مسلم: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ».
أيها المسلمون
فعليكم بالصبر في المواطن كلّها، فإنّ الصّبر يجر إلى البر، وإن البر يجرّ إلى الجنّة، فهذه الدنيا دار ابتلاء، دار أكدار، دار امتحان، دار تكليف، دار الشهوات، دار المكذبين من الأعداء، دار الفاسدين والظلمة والمجرمين والكافرين والمنافقين، فلا بد من صبر على ما نحن مأمورون به، ولا بد من صبر على ما حرم الله علينا، ولا بد من صبر على المصائب التي نكرهها، فإذا قابلنا النعم بالصبر على شكرها، وأداء الحق الذي فرض الله علينا، وإذا قابلنا المعاصي بالصبر عنها، والكف عنها، وإذا قابلنا المصائب بالصبر عليها، وعدم الجزع والسخط ، تم لنا الفلاح، وفزنا بالمطلوب، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69]، فهم جاهدوا أنفسهم، وجاهدوا الشيطان، وجاهدوا العصاة، وجاهدوا الكفار، وجاهدوا الهوى، فقال تعالى: (جَاهَدُوا فِينَا) فأطلق الجهاد حتى يعم كل أنواع الجهاد، فجاهدوا كل ما يهمهم، وكل ما يخشون شره، جاهدوا النفس حتى استقاموا، وجاهدوا الشيطان حتى سلمهم الله من شره، وجاهدوا أعداء الله حتى نصرهم الله، وجاهدوا الهوى حتى تغلبوا عليه، إلى غير ذلك من أنواع الجهاد،
ألا فلنصبر ونجاهد، قدر استطاعتنا، فقد قال الله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) البقرة:286، وقال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) (7) الطلاق.
الدعاء
