خطبة عن (الرحلة إلى الدار الآخرة) 3 (القصاص والحوض والصراط)
ديسمبر 12, 2025خطبة عن (الرحلة إلى الدار الآخرة)1 (البعث والحشر والشفاعة)
ديسمبر 12, 2025الخطبة الأولى (الرحلة إلى الدار الآخرة)2 (الحساب والميزان)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
في الصحيحين: (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ حُوسِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ». فَقُلْتُ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) فَقَالَ «لَيْسَ ذَاكِ الْحِسَابُ إِنَّمَا ذَاكِ الْعَرْضُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ».
إخوة الإسلام
ونستكمل حديثنا عن الرحلة إلى الدار الآخرة: فبعد قراءة الكتاب يبدأ الحساب، ويختلف حساب الخلق يوم القيامة على حسب اختلاف أعمالهم، فمنهم من يدخل الجنة بغير حساب، ومنهم من تعرض عليه أعماله عرضا لا حاسبا، ومنهم من يحاسب حسابا يسيرا، ومنهم يحاسب ويدخل النار لفترة محددة عقوبة له، ومنهم من يدخل النار ويمكث فيها إلى الأبد، قال تعالى: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [غافر:17]، وفي سنن الترمذي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ».
ونبدأ بعرض صور من حساب الكافرين والمنافقين: ففي صحيح مسلم: (قَالَ صلى الله عليه وسلم (فَيَلْقَى الْعَبْدَ فَيَقُولُ أَيْ فُلْ أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ فَيَقُولُ بَلَى. قَالَ فَيَقُولُ أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلاَقِيَّ فَيَقُولُ لاَ. فَيَقُولُ فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي. ثُمَّ يَلْقَى الثَّانِيَ فَيَقُولُ أَيْ فُلْ أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ فَيَقُولُ بَلَى أَيْ رَبِّ. فَيَقُولُ أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلاَقِىَّ فَيَقُولُ لاَ. فَيَقُولُ فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي. ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ آمَنْتُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ وَبِرُسُلِكَ وَصَلَّيْتُ وَصُمْتُ وَتَصَدَّقْتُ. وَيُثْنِي بِخَيْرٍ مَا اسْتَطَاعَ فَيَقُولُ هَا هُنَا إِذًا – قَالَ – ثُمَّ يُقَالُ لَهُ الآنَ نَبْعَثُ شَاهِدَنَا عَلَيْكَ. وَيَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْهَدُ عَلَىَّ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ وَلَحْمِهِ وَعِظَامِهِ انْطِقِي فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِعَمَلِهِ وَذَلِكَ لِيُعْذِرَ مِنْ نَفْسِهِ. وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ وَذَلِكَ الَّذِي يَسْخَطُ اللَّهُ عَلَيْهِ».
وفي صحيح البخاري: (قَالَ قَامَ فِينَا النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ قَالَ: «لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِي. فَأَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. وَعَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. وَعَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ، فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. أَوْ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ»،
وفي سنن الترمذي: (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «يُجَاءُ بِابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ بَذَجٌ فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ أَعْطَيْتُكَ وَخَوَّلْتُكَ وَأَنْعَمْتُ عَلَيْكَ فَمَاذَا صَنَعْتَ. فَيَقُولُ يَا رَبِّ جَمَعْتُهُ وَثَمَّرْتُهُ فَتَرَكْتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ فَارْجِعْنِي آتِكَ بِهِ. فَيَقُولُ لَهُ أَرِنِى مَا قَدَّمْتَ. فَيَقُولُ يَا رَبِّ جَمَعْتُهُ وَثَمَّرْتُهُ فَتَرَكْتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ فَارْجِعْنِي آتِكَ بِهِ. فَإِذَا عَبْدٌ لَمْ يُقَدِّمْ خَيْرًا فَيُمْضَى بِهِ إِلَى النَّارِ».
وفي صحيح مسلم: (قَالَ كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَضَحِكَ فَقَالَ «هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ». قَالَ قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ «مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ يَقُولُ يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ قَالَ يَقُولُ بَلَى. قَالَ فَيَقُولُ فَإِنِّي لاَ أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلاَّ شَاهِدًا مِنِّي قَالَ فَيَقُولُ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا قَالَ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ فَيُقَالُ لأَرْكَانِهِ انْطِقِي. قَالَ فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ قَالَ ثُمَّ يُخَلَّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلاَمِ – قَالَ – فَيَقُولُ بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا. فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ».
وقال تعالى: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) (18) الحاقة فالكافرون والمشركون والمنافقون يُحاسبون، ثم يُدخلون النار، ويُخلدون في العذاب، أما بعض عصاة الموحدين، فيُحاسبون، ويُعذبون في النار، ولكنهم لا يُخلدون فيها، ويُخرجون منها بشفاعة الشافعين.
أيها المسلمون
ثم نتعرف على بعض الصور لحساب العبد المؤمن: فالعبد المؤمن يدنيه ربه، ويقربه منه، ويستره، حتى لا يُفضحه بذنوبه بين الخلائق، ففي الصحيحين: (أن رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ،(أي ستره)، وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبِّ. حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ. فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ»،
وفي سنن الترمذي: (ولا يبقَى في ذلك المجلس أحدٌ إلَّا حاضره اللهُ تعالَى مُحاضرةً حتَّى إنَّه ليقولُ الرَّجلُ ألا تذكُرُ يا فلانُ يومَ عمِلتَ كذا وكذا يُذكِّرُه بعضَ غدَراتِه في الدُّنيا فيقولُ يا ربِّ ألم تغفِرْ لي؟ فيقولُ بلَى فبسعةِ مغفرتي بلغتَ منزلتَك هذه)،
وفي صحيح مسلم: (رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا. فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ فَيُقَالُ عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا. فَيَقُولُ نَعَمْ. لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ. فَيُقَالُ لَهُ فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً. فَيَقُولُ رَبِّ قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لاَ أَرَاهَا هَا هُنَا». فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ).
ومن صور حساب المؤمنين: في معجم الطبراني: (إِنَّ الرجلَ لَيأتي يومَ القيامةِ بِالعَمَلِ, لَوْ وُضِعَ على جَبَلٍ لأَثْقَلهُ, فَتَقُومُ النِّعْمَةُ من نِعَمِ اللهِ, فَتَكَادُ أنْ تَسْتَنْفِذَ ذلكَ كلَّهُ, إلَّا أنْ يتطاولَ اللهُ برحمتِه). وروى البزار: (يُخْرَجُ لابنِ آدمَ يومَ القيامةِ ثَلاثةُ دَوَاوِينَ: دِيوَانٌ فيهِ العَمَلُ الصَّالِحُ، ودِيوَانٌ فيهِ ذنوبُهُ، ودِيوَانٌ فيهِ النِّعَمُ مِنَ اللهِ تعالى عليهِ، فيقولُ اللهُ لأَصْغَرِ نِعَمِهِ أَحْسِبُهُ قال في دِيوَانِ النِّعَمِ: خُذِي ثَمَنَكِ من عَمَلِه الصَّالِحِ، فَتَسْتَوْعِبُ عَمَلهُ الصَّالِحَ كلَّهُ، ثُمَّ تَنَحَّى وتقولُ: وعِزَّتِكَ ما اسْتَوْفَيْتُ وتَبْقَى الذُّنوبُ والنِّعَمُ فإِذَا أرادَ اللهُ أنْ يرحمَ قال: يا عَبدي قد ضَاعَفْتُ لكَ حَسَناتِكَ وتَجَاوَزْتُ عن سَيِّئَاتِكَ أَحْسِبُهُ قال: ووَهَبْتُ لكَ نِعَمِي)،
وفي سنن الترمذي: «يُدْعَى أَحَدُهُمْ فَيُعْطَى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ وَيُمَدُّ لَهُ فِي جِسْمِهِ سِتُّونَ ذِرَاعًا وَيُبَيَّضُ وَجْهُهُ وَيُجْعَلُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ يَتَلأْلأُ فَيَنْطَلِقُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَيَرَوْنَهُ مِنْ بَعِيدٍ فَيَقُولُونَ اللَّهُمَّ ائْتِنَا بِهَذَا وَبَارِكْ لَنَا فِي هَذَا حَتَّى يَأْتِيَهُمْ فَيَقُولُ أَبْشِرُوا لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ مِثْلُ هَذَا ). وفي سنن ابن ماجة: «يُصَاحُ بِرَجُلٍ مِنْ أُمَّتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ فَيُنْشَرُ لَهُ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلاًّ كُلُّ سِجِلٍّ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَلْ تُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا فَيَقُولُ لاَ يَا رَبِّ فَيَقُولُ أَظَلَمَتْكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ ثُمَّ يَقُولُ أَلَكَ عُذْرٌ أَلَكَ حَسَنَةٌ فَيُهَابُ الرَّجُلُ فَيَقُولُ لاَ. فَيَقُولُ بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَاتٍ وَإِنَّهُ لاَ ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ فَتُخْرَجُ لَهُ بِطَاقَةٌ فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قَالَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلاَّتِ فَيَقُولُ إِنَّكَ لاَ تُظْلَمُ. فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ فَطَاشَتِ السِّجِلاَّتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ».
وقصة هذا الرجل لابد أن نفهمها في سياق الأحاديث السابقة، التي وردت في دخول بعض عصاة الموحدين النار، فلعل هذا الرجل قد كان كافرا، ونطق بالشهادتين، ودخل في الاسلام، ثم مات قبل أن يعمل أعمالا صالحة، فالإسلام يجب ما قبله، وأدخلته بطاقة الشهادتين الجنة.
أيها المسلمون
والله تعالى يحاسب عباده إما بالعدل، وإما بالفضل، فيحاسب الكافرين بالعدل، قال تعالى: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ) غافر:71، فبعدله يدخلهم النار، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) النساء:40،
ولابد أن يعترف الكفار أنهم كانوا ظالمين، وأنهم كانوا كافرين، وأن الله تعالى لم يظلمهم، وأنهم يستحقون العذاب في النار: قال تعالى (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ) (97) الأنبياء وقال تعالى: (وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) (130) الانعام.
وأما عباد الله المؤمنين فيعاملهم الله بالفضل لا بالعدل: ففي الصحيحين: (أن النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «يُدْنَي الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ – وَقَالَ هِشَامٌ يَدْنُو الْمُؤْمِنُ – حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ تَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا يَقُولُ أَعْرِفُ، يَقُولُ رَبِّ أَعْرِفُ مَرَّتَيْنِ، فَيَقُولُ سَتَرْتُهَا فِي الدُّنْيَا وَأَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ ثُمَّ تُطْوَى صَحِيفَةُ حَسَنَاتِهِ)، وفي رواية: قال صلى الله عليه وسلم: (حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ)،
فالله تعالى بفضله يدخل المؤمنين الجنة، لأن نعيم الجنة لا يكافئه عمل صالح، وهذا هو المعنيُ بقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ». قَالُوا وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «لاَ، وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ)، فجميع عباده تحت عفوه ورحمته وفضله، فما نجا منهم أحد إلا بعفوه، ومغفرته، ولا فاز بالجنة أحد إلا بفضله ورحمته، فلو عذب الله عباده كلهم، لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم، لكان ذلك بفضله، لا بأعمالهم، وفي المعجم للطبراني: (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يبعث الله يوم القيامة عبدا لا ذنب له فيقول الله: بأي الأمرين أحب إليك أن أجزيك بعملك أو بنعمتي عندك؟ قال: رب إنك تعلم أني لم أعصك قال: خذوا عبدي بنعمة من نعمي، فما تبقى له حسنة إلا استغرقهتا تلك النعمة، فيقول رب بنعمتك ورحمتك، فيقول: بنعمتي ورحمتي، ويؤتى بعبد محسن في نفسه، لا يرى أن له ذنبا فيقول له: هل كنت توالي أوليائي؟ قال: كنت من للناس سلما، قال: فهل كنت تعادي أعدائي؟ قال: يا رب لم يكن بيني وبين أحد شيئا، فيقول الله عز وجل: لا ينال رحمتي من لا يوالي أوليائي ويعادي أعدائي).
أيها المسلمون
وننتقل من العرض والحساب إلى الميزان، قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) [الأنبياء:47]. وقال تعالى: (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) [القارعة:6]. وأخرج ابن حبان: (قال صلى الله عليه وسلم: “أثقل شيء في الميزان الخلق الحسن”.
وأخرج الإمام أحمد: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «بَخٍ بَخٍ لِخَمْسٍ مَا أَثْقَلَهُنَّ فِي الْمِيزَانِ َ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَالْوَلَدُ الصَّالِحُ يُتَوَفَّى فَيَحْتَسِبُهُ وَالِدُهُ». وَقَالَ « بَخٍ بَخٍ لِخَمْسٍ مَنْ لَقِىَ اللَّهَ مُسْتَيْقِناً بِهِنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ والْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ والْحِسَابِ»،
وفي الصحيحين: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ»،
وفي صحيح مسلم: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ. وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ – أَوْ تَمْلأُ – مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الرحلة إلى الدار الآخرة)2
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وفي الميزان يوزن كل شيء له علاقة بالعبد، فالموزون يوم القيامة هو العمل، والصحف، والعبد نفسه. ففي حديث البطاقة كما في سنن ابن ماجة: (فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ فَطَاشَتِ السِّجِلاَّتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ».
وفي الصحيحين: «إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ وَقَالَ اقْرَءُوا (فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) » [الكهف:105]. وفي مسند أحمد: (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكاً مِنَ الأَرَاكِ وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ فَجَعَلَتِ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مِمَّ تَضْحَكُونَ». قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ. فَقَالَ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ».
وفي مسند البزار: (يؤتى بابن آدم يوم القيامة حتى يوقف بين كفتي الميزان ويوكل به ملك، فإن ثقل ميزانه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق: سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا، وإن خف ميزانه نادى بصوت يسمع الخلائق: شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا).
وعند خفة كفة الحسنات تقبل الزبانية وبأيديهم مقامع من حديد عليهم ثياب من نار فيأخذون نصيب النار إلى النار، ففي الصحيحين: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «يَقُولُ اللَّهُ يَا آدَمُ. فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ. قَالَ يَقُولُ أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ. قَالَ وَمَا بَعْثُ النَّارِ قَالَ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ. فَذَاكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ». فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا يَا رَسُولُ اللَّهِ أَيُّنَا الرَّجُلُ قَالَ «أَبْشِرُوا، فَإِنَّ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفٌ وَمِنْكُمْ رَجُلٌ – ثُمَّ قَالَ – وَالَّذِي نَفْسِي فِي يَدِهِ إِنِّي لأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ». قَالَ فَحَمِدْنَا اللَّهَ وَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ «وَالَّذِي نَفْسِي فِي يَدِهِ إِنِّي لأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، إِنَّ مَثَلَكُمْ فِي الأُمَمِ كَمَثَلِ الشَّعَرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأَسْوَدِ أَوِ الرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الْحِمَارِ»،
وفي المستدرك للحاكم: (عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسعت).
ومن مراحل الدار الآخرة (القصاص) وهذا ما نستكمله في اللقاء القادم إن شاء الله تعالى.
الدعاء
