خطبة حول معنى قوله تعالى ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ )
ديسمبر 13, 2025الخطبة الأولى (حرمة استغلال حاجة الناس)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى الامام مسلم في صحيحه: (عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «لاَ يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطِئٌ»، وروى الإمام أحمد في مسنده: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- «مَنِ احْتَكَرَ طَعَاماً أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَرِئَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ، وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمُ امْرُؤٌ جَائِعٌ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى».
إخوة الإسلام
الاسلام دين اليسر، وقد أمرنا الشرع الحكيم بالتيسير على الناس، وعدم استغلال حاجاتهم، أو الضائقة التي يمرون بها، يقول الله تعالى في محكم آياته: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:280]، ووجَّهنا رسول الاسلام صلى الله عليه وسلم إلى تنفيس الكربات عن المسلمين، وتيسير أمورهم، ومعاونتهم؛ ففي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ).
فهذا الدِّين إنَّما جاء لسعادة البشر في الدُّنيا والآخرة، والسَّعادة لا تكون إلَّا بحصول المصالح في المعاش والمعاد، وكذلك دفع الشَّرِّ والضَّرر عن النَّاس في الدُّنيا والآخرة،
وقد بيَّن الله تعالى صفة رسوله محمد ﷺ، والغاية من بعثته، فقال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ[الأعراف:157].
فهو عليه الصَّلاة والسَّلام لا يأمر إلَّا بالمعروف، الذي تعرفه العقول والفطر السَّليمة، ولا ينهى إلَّا عن المنكر، الذي تأباه العقول والفطر السَّليمة، ولا يحلُّ إلَّا ما أحلَّه الله، من الطِّيبات النَّافعات، ولا يحرِّم إلَّا ما حرَّمه الله، من الخبائث الضِّارَّات والمضرَّات، ودينه هو دين الحنفية السَّمحة، قال شيخ الإسلام: “ومن استقرأ الشَّريعة في مواردها ومصادرها واشتمالها على مصالح العباد في المبدأ والمعاد؛ تبيَّن له من ذلك ما يهديه الله إليه وَمَنْ لَمْ
يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ).
أيها المسلمون
والإسلام حرم استغلال حاجة الناس، كما في الأحاديث المتقدمة: (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «لاَ يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطِئٌ»، وعَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- «مَنِ احْتَكَرَ طَعَاماً أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَرِئَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ)،
فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم احتكار الطعام وغيره من ضروريات الانسان، لأنه أمر ينافي الأخلاق والمبادئ الإسلامية، ويتنافى مع مقصد تهذيب الأخلاق، وبيَّن صلى الله عليه وسلم أنه بُعث ليتمم مكارم الأخلاق؛ ففي مسند أحمد: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلاَقِ»، وفي رواية للبيهقي: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ».
وحرم الله تعالى استغلال حاجة الناس، فقال تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) [البقرة:188]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ».
وحرمة الاستغلال في الإسلام مطلقة، فهو يشتمل أكل أموال الناس بالباطل، وظلمهم، والمتاجرة بآلامهم في الأزمات (كالاحتكار)، واستغلال المنصب والسلطة لتحقيق منافع شخصية، وكل ذلك محرم شرعًا لأن الإسلام يأمر بالتراحم والتكافل، ويحذر من الظلم والأنانية، ويُعتبرها من كبائر الذنوب،
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
ومن أعظم ما ابتُلى به الناسُ في هذه الأزمنة المتأخرة: استغلالُ حاجةِ المحتاجين، والاتجارُ بآلام المضطرين، واستضعافُ مَن ضاقت بهم الدنيا؛ وقد يكون المستغِلّ تاجرًا، أو مسؤولًا، أو صاحبَ عمل، أو صاحبَ مال، أو حتى جارًا أو قريبًا، وهذه جريمةٌ عظيمةٌ، حرّمها الإسلام تحريمًا شديدًا، لأنَّها تُقَوِّضُ أساسَ الرحمة، وتهدِمُ معنى الإخاء، وتزرعُ القسوة والجشع، ففي الصحيحين: (عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ»، وفي سنن الترمذي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)، فكيف يَرحم اللهُ عبدًا يبني غناه على أوجاع الناس؟، ويُوسّع رزقَه على حساب فقر المساكين؟،
والشرع الشريف جعل المضطرَّ معذورًا في أمور كثيرة، ورخّص له فيما حُرِّم عند الشدة، كما في قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ البقرة:173. فإذا كان الله عز وجل يَرفع الإثم عن المضطر، فكيف يرضى بمن يزيد اضطراره، أو يضاعِف مصيبته، أو يستغل ضعفه؟، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في سنن البيهقي: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ». فمن أخذ مالَ المحتاج بثمنٍ مُبالغٍ فيه، أو أجبره على عقدٍ لا يرضاه، أو أجّره بيتًا بثمن يفوق طاقته، أو رفع ثمن سلعة هو محتاج إليها، مستغلًّا حاجته، أو حمّله فوائد وربًا لأنه مضطر، فذلك كلّه استغلال لحاجة الناس، وظلمٌ محضٌ حرّمه الإسلام، لذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طُعْمًا ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ وَالْإِفْلَاسِ». وذلك لأنَّ الاحتكار ورفع الأسعار بغير حق، لا يُظهِر ذكاءً تجاريًّا، بل يكشف لؤمًا وجشعًا وقسوةً، ويشهد على فساد الضمير وضعف الدين.
والمستغل لحاجة الناس ربما يربح مالًا وفيرًا، ولكنّه يخسرُ رضا الله، ويخسرُ شفقة المؤمنين، ويخسرُ البركة، ويخسرُ راحة البال؛ وفي صحيح ابن حبان: قال عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ الرِّزْقَ لَيَطْلُبُ الْعَبْدَ كَمَا يَطْلُبُهُ أَجَلُهُ». فلا يحتاج المؤمن إلى ظلم ولا جشع؛ لأنَّ رزقه مكتوب، وما عند الله خيرٌ له من الدنيا وما فيها.
واستغلال حاجة الناس لها صور متعددة: فمن صور الاستغلال المحرَّم: استغلال العمال: بتأخير رواتبهم، أو تكليفهم فوق طاقتهم، أو حرمانهم حقوقهم. وكذا استغلال المريض: برفع الأجرة على علاجٍ لا غِنى له عنه. ومن صوره: استغلال المحتاج للدَّين: بفرض الربا، أو الشروط الظالمة. ومنها: استغلال الجائع والعطشان، وذلك برفع الأسعار في الحاجات الضرورية. ومنها: استغلال طالب العلم: بفرض رسوم مُنهِكة لا يقدر عليها. فهذه الصور كلها محرمة أشد التحريم، فيا من تُعامل الناس، تذكّر أن الله يُعاملك بمعاملتك، ويا من تستغل ضعف غيرك، اعلم أن الله قادر عليك.
أيها المسلمون
إن لجوء البعض (وخاصة فئة التجار) إلى استغلال أوقات الأزمات لتحقيق مزيد من الأرباح وتضخيم ثرواتهم، والمتاجرة بآلام الناس ومعاناتهم، هو سلوك مخالف لما دعا إليه الدين الحنيف من التراحم والتكافل والإحساس بالآخرين، وهو ما يسمى: (بالاحتكار)، فالاحتكار: هو حبس شيء يحتاج إليه الناس، عن البيع والتداول، بقصد زيادة سعره، وهو أمر محرم شرعًا، بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يحتكر إلا خاطئ»، وهذا ظلم، والظلم حرام، فمَنْ يَسْتَغل ظروف الناس، ويحتكر السلع، ويبيعها بهذه الأسعار المبالغ فيها، فقد ارتكب مُحرَّمًا؛ للضرر الناجم عن استغلاله احتياج الناس إلى مثل هذه السلع، فهو يضرُّ الناس ويضيِّق عليهم، وهذا يؤدي إلى إيذائهم ماديًّا ومعنويًّا، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن الإضرار.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (حرمة استغلال حاجة الناس)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن الملاحظ: أن الناس في الشدة يضعفون، وفي الضيق ينهار بعضهم، وفي الحاجة تنكشف النفوس، وهنا يُبتلى الناس بامتحان الأخلاق: فمنهم من يرق قلبه، ويعطف، ويجود، ويتعاون، ومنهم: من يستغل، ويغش، ويحتكر، ويرفع الأسعار، ويستعبد الناس بالمماطلة، والقروض المحرمة، والديون المرهقة، والتلاعب بالأسعار، والبيع بالباطل.
وقد قرر القرآن الكريم قاعدة ربانية عظيمة، فقال تعالى: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) الأعراف:85، وقال سبحانه: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) المطففين:1، فويل لكل من نقص حق الناس، وويل لكل من استغل حاجتهم، وويل لكل من ضيق عليهم في معيشتهم. فهذا من أشد صور الظلم، لأنه يجمع بين أكل المال بالباطل، وبين قسوة القلب، وغياب الرحمة، وترك التقوى، وقطع الأخوة.
وذا كان الاسلام قد نهى عن النجش، كما في الصحيحين: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنِ النَّجْشِ) والنجش: هو أن يزيد رجل السعر في السوق من غير قصد الشراء – فنهى عنه لأنه يؤذي الناس، فكيف بمن يرفع الأسعار بأضعاف مضاعفة، أو يحبس السلع، أو يفرض شروطا ظالمة على المحتاجين؟. وقد قال الله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) (42) إبراهيم.
أيها المسلمون
إن الله يمهل الظالم، ولكنه لا يهمله، ودعوة المظلوم – ولو كان كافرا – ليس بينها وبين الله حجاب، وما من انسان استغل حاجة فقير، أو ضعف محتاج، أو ضيق ملهوف، إلا عامله الله بالمثل، واعلموا أن الدين ليس صلاة وصوما فقط، بل هو رحمة وعدل، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا غفر الله له لأنه سقى كلبا، فكيف بمن يسقي إنسانا، أو يعين أسرة، أو يقضي دين مديون، أو يساعد ضعيفا؟، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن امرأة دخلت النار في هرة، لأنها حبستها، فكيف بمن حبس أرزاق الناس، وحاجاتهم، ومعيشتهم؟!
فإذا أردنا مجتمَعًا قويًّا مباركًا؛ فلنبنِه على الرحمة لا على الاستغلال، وعلى التراحم لا على الجفاء، وعلى الإحسان لا على الطمع.
الدعاء
