خطبة عن (الرِّضَا والتَّرَاضِي)
ديسمبر 16, 2025الخُطْبَةُ الأُولَى (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (119) المائدة، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (7)، (8) البينة.
إخوة الإسلام
إن المتدبر لآيات القرآن الكريم، يتبين له أن: قوله تعالى: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ): هذه العبارة الكريمة وردت في أربعة مواضع من القرآن الكريم، وهي تصف حال المؤمنين الصادقين، والسابقين الأولين من المؤمنين، ففي سورة المائدة، قال تعالى: (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (119) المائدة، فجاءت الآية في سياق الحديث عن يوم القيامة، وجزاء الصادقين. وفي سورة التوبة، قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة: (100)، فجاءت الآية في حق السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين. وفي سورة المجادلة، قال تعالى: (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) المجادلة: (22)، فجاءت الآية في وصف حزب الله، الذين لا يوادّون من حادّ الله ورسوله، وجزائهم عند ربهم. وفي سورة البينة، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (7)، (8) البينة. فجاءت الآية في وصف جزاء خير البرية، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
فهؤلاء جميعا (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ): أي قَبِل الله أعمالهم، وأثابهم عليها، وعفا عن زلاتهم، وذلك لما أطاعوه، وأجابوا نبيه إلى ما دعاهم إليه، من أمره ونهيه. (وَرَضُوا عَنْهُ): أي فرحوا بما أعطاهم من الكرامة، والنعيم المقيم، وما منّ به عليهم من الهداية واليقين، والفوز بجنات النعيم، وما فيها من النعيم المقيم.
أيها المسلمون
وقوله تعالى: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾: فإنَّها من أعظمِ آياتِ القرآنِ منزلةً، وأرفعِها قدرًا، وأبقاها أثرًا في نفوسِ المؤمنين، فهي كلماتٌ قليلةُ الحروفِ، عظيمةُ المعاني، جمعتْ غايةَ الفضلِ، ونهايةَ السعادةِ، وأعلى مراتبِ الفوز، فرضا اللهِ هو الغايةُ التي من أجلِها خُلِقَ الخلقُ، وأُنزِلَتِ الكتبُ، وبُعِثَتِ الرسلُ، وسعى الصالحون، وجاهد المجاهدون، وصبر الصابرون، فمن رضيَ اللهُ عنه فقد فاز فوزًا عظيمًا، ومن حُرِمَ رضا اللهِ، فما نالَ شيئًا، وإن ملكَ الدنيا كلَّها.
وقوله تعالى: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ): فهذه الآية ليست مجرد ثناء، ولا عبارة تقال، ولا وصفا عابرا، بل هي غاية الغايات، ومنتهى الآمال، وأشرف ما يناله عبد من ربه، أن يرضى الله عنه، ثم يرزقه الرضا عن ربه، فدخول الجنة نعيمٌ، والنجاة من النار فوزٌ، ولكن رضا الله أعظمُ من ذلك كله، فقد قال تعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ التوبة (72)، فرضا الله عز وجل عن عباده في الآخرة هو أكبر وأعظم من كل نعيم الجنة المادي ،لأن الرضا هو غاية المطالب، وأسمى مراتب الفلاح والفوز.
وكثيرٌ من الناس يطلبُ الرضا من الخلق، ويسعى خلف القبول في أعين الناس، ويتعب نفسه ليُحمد أو يُذكر، وينسى أن القبول الحقيقي: هو أن يرضى الله عنه، فإذا رضي الله عن العبد، أرضى الله عنه الناس، بل يرضى عنه أهل السماء والأرض، ففي الصحيحين: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ إِنِّي أُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبَّهُ – قَالَ – فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِى فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ. فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ – قَالَ – ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ)،
واعلموا أن الرضا من الله على العبد ليس دعوى، ولا نسبا، ولا انتسابا، ولا شعارا يُرفع، وإنما هو ثمرة إيمان صادق، وعمل صالح، وصبر جميل، وتسليم لأمر الله في السراء والضراء، وحين نتأمل قوله تعالى: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ ندرك أن رضا الله منحة عظيمة، لا ينالها كل أحد، وإنما ينالها من حقق شروطها، ووفى بحقها، وثبت على طريقها.
وتأملوا أيضا قوله تعالى: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ): فالرضا متبادل: (رضا من العبد عن ربه: في قضائه وقدره، في عطائه ومنعه، في أمره ونهيه، في حكمته وتشريعه)، (ورضا من الله تعالى عن العبد: بالهداية والتوفيق والسداد في الدنيا، والفوز والفلاح في الآخرة)،
وليس الراضي من يرضى بالله حين تعطيه الدنيا، ثم يسخط إذا ضاقت عليه، وليس الراضي من يرضى بالصحة، ويجزع عند المرض، ولا من يرضى بالنعمة، ويعترض عند البلاء، وإنما الرضا الحقيقي: أن يقول القلب قبل اللسان: رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، ويشكر الله ويحمده على كل حال. فهم (رضوا عن الله): أي رضوا بقضائه، ورضوا بحكمه، ورضوا بشرعه، ورضوا بما قسم لهم، فلم يتسخطوا عند البلاء، ولم يعترضوا عند الشدة، ولم يبدلوا ولم يغيروا، ولم يجعلوا الدين تابعًا للأهواء.
(ورضي الله عنهم): ففتح لهم أبواب القبول، وبارك لهم في أعمارهم، ورفع ذكرهم، وثبّت قلوبهم، وجعل لهم في الدنيا نورًا، وفي الآخرة أجرًا عظيمًا. فرضا الله عن العبد، ورضا العبد عن الله، هما وجهان لعملة واحدة، حيث أن رضا العبد عن ربه (بالتسليم، والرضا بما قسم له) هو علامة وسبب لرضا الله عنه، وهو ما يجعله يستحق رضوان الله الأكبر، الذي هو أفضل من الجنة وما فيها، ويتحقق عبر الأعمال الصالحة: مثل بر الوالدين، والشكر على النعم، وكظم الغيظ، والإحسان للناس، والتوكل على الله وغيرها من صالح الأعمال.
أيها المؤمنون
وقوله تعالى: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ): فقد وصف الله أهل هذا المقام وصفا عظيما، فهم حزب الله، وهم المفلحون، وهم الفائزون، وهم أهل الجنات والخلود، وليس هذا الوصف خاصا بالأنبياء وحدهم، بل شمل الله به الصحابة الكرام، فقال تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ الفتح:18، وشمل السابقين الأولين فقال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ التوبة :100. فتأملوا الشرط: ﴿وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾: فمن أراد رضا الله: فليسلك طريقهم، ومن أراد مقامهم: فليقتد بأعمالهم، ومن طمع في ثوابهم: فليصبر كما صبروا.
وقوله تعالى: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ): فالرضا عن الله لا يعني ترك الأخذ بالأسباب، ولا الاستسلام للواقع، ولا ترك السعي والعمل، بل هو طمأنينة القلب، مع بذل الجهد، وسكون النفس، مع الاجتهاد، فالعبد الراضي: يعمل ويجتهد، ولكنه لا يجزع إن تأخر الفرج، ولا يسخط إن ضاق الرزق، ولا يعترض على حكم الله، لأنه يعلم أن الله أرحم به من نفسه.
ومن أعظم ما يعين على الرضا: عرفة الله، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته، وعلم حكمته وعدله ولطفه، رضي بقضائه، وسلم لأمره، وأيقن أن ما اختاره الله له خير مما يختاره لنفسه، ومن أعظم ما ينافي الرضا: التسخط، وكثرة الشكوى، والاعتراض على القدر، والنظر إلى ما في أيدي الناس، ونسيان نعم الله الكثيرة.
وقوله تعالى: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ): والرضا لا يأتي فجأة، بل يُربى في القلب، ويحتاج إلى مجاهدة، وتدريب للنفس، وتعويدها على حسن الظن بالله. ومن رضي بالله في الدنيا، رضي الله عنه في الآخرة، ومن سخط في الدنيا، خسر في الآخرة ،وإن أعطي من متاع الدنيا ما أعطي، ففي سنن ابن ماجه: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ «عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ فَمَنْ رَضِىَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ ».
وقد بيّن لنا النبي ﷺ الطريق إلى رضا الله، ففي مسند أحمد: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَضِيَ لَكُمْ ثَلاَثاً وَكَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثاً رَضِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَأَنْ تَنْصَحُوا لِمَنْ وَلاَّهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ»،
وقوله تعالى: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ): فالرضا لا يعني غياب الألم، ولا انعدام الحزن، فحتى الأنبياء حزنوا وبكوا، ولكن الفرق أن قلوبهم لم تعترض على الله، ولم تسخط على قضائه، وفي صحيح مسلم: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ». فالمؤمن بين شكر وصبر، وبين رضا وتسليم.
والرضا في توحيد الله، وفي الاستقامة، وفي الصدق، وفي أداء الأمانة، وفي الإحسان إلى الخلق، ومن رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ نبيًا ورسولًا، رضي الله عنه، وكتب له القبول في الأرض، والرفعة في السماء.
فتفقدوا قلوبكم، وأصلحوا أعمالكم، وجددوا نياتكم، وارضوا عن الله في قضائه، يرضَ عنكم في عطائه، وارضوا عنه في البلاء، يرضَ عنكم في الجزاء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم
الخطبة الثانية (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وقوله تعالى: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ): فهذا ليس مدحًا عابرًا، ولا ثناءً مؤقتًا، بل هو شهادةٌ ربانية، ووثيقةُ فلاحٍ أبدية، ووسامُ شرفٍ، لا يُنالُ بالادعاء، ولا يُدركُ بالأماني، وإنما يُنالُ بالإيمانِ الصادق، والعملِ الصالح، والصدقِ مع الله في السرِّ والعلن.
وقوله تعالى: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ): فرضا اللهِ ليس كلمةً تُقال، ولا دعوى تُرفع، بل هو ثمرةُ حياةٍ كاملةٍ، عاشت مع الله، وخضعت لأمره، ووقفت عند حدوده، وقدمت رضاه على هوى النفس، وعلى شهوة الدنيا، وعلى ضغط الواقع. ولذلك لما ذكر اللهُ أهلَ الرضا، وصفهم قبل ذلك بأعمالهم، فقال سبحانه: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ التوبة: (100)، فجعل الرضا نتيجةً، لا بداية، وجعل له أسبابًا، لا أمنيات.
وقوله تعالى: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ): فرضا الله لا يكون مع المعصية، ولا يجتمع مع الظلم، ولا يسكن قلبًا امتلأ بالحقد، والغش والخيانة، وإنما يسكن القلوب الصادقة، القلوب التي إذا أُعطيت شكرت، وإذا ابتُليت صبرت، وإذا أذنبت استغفرت، وإذا دُعيت إلى الله لبّت. وقد كان سلفُ هذه الأمة أحرصَ الناس على رضا الله، فكان أحدهم يقول :“واللهِ ما أبالي على أيِّ حالٍ أصبحتُ أو أمسيتُ، ما دمتُ على طاعة الله”. فرضاهم عن اللّه: هو الاطمئنان إليه سبحانه، والثقة بقدره، وحسن الظن بقضائه، والشكر على نعمائه، والصبر على ابتلائه.
وأعظم جزاء الرضا من الله تعالى: أن يحل عليهم رضوانه، فقد روى الشيخان عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدَاً مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدَاً».
واعلموا أن من أعظم ما يعين المسلم على الرضا: كثرة ذكر الله تعالى، والتفكر في نعم الله، وتذكر الآخرة، والنظر إلى من هو دونك في الدنيا، ومصاحبة الراضين الصابرين، وأعظم ذلك كله: الدعاء، أن تسأل الله قلبا راضيا، ونفسا مطمئنة، وإيمانا لا يتزعزع.
ومن أعظم ثمرات الرضا: طمأنينة القلب، وسكينة النفس، وبركة العمر، وقلة الهم، وحسن الخاتمة
ومن علامات رضا الله عن العبد: التوفيقُ للطاعة، والبعدُ عن المعصية، وحسنُ الخلق، وحبُّ الخير للناس، وثباتُ القلب عند الفتن، وأن تجد نفسك راضياً عن قدر الله، وأن يوفقك للأعمال الصالحة: كالشكر، والتوكل، والرفق، وغيرها.
ومن علامات الرضا: ألا تخاصم ولا تعاتب، ففي صحيح البخاري: (أن أَنَس – رضي الله عنه – قَالَ خَدَمْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ. وَلاَ لِمَ صَنَعْتَ وَلاَ أَلاَّ صَنَعْتَ)
ومن علامات الرضا: الاستغناء بالله، وعدم سؤال الناس شيئًا: ففي سنن أبي داود: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ تَكَفَّلَ لِي أَنْ لاَ يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا وَأَتَكَفَّلَ لَهُ بِالْجَنَّةِ». فَقَالَ ثَوْبَانُ أَنَا. فَكَانَ لاَ يَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا). فكان ثوبان يقع سوطه وهو راكب فلا يقول لأحد ناولنيه حتى ينزل فيأخذه.
ومن علامات الرضا: الرضا بقضائه وقدره، واستقبال الابتلاء من الله سبحانه بالطمأنينة والسكينة والرضا والقبول، وموافقة ربك سبحانه وتعالى في قدره والتماس رضاه، فاختيار الله لك فيما تكره خير من اختيارك لنفسك فيما تحب؛ لأنه سبحانه أعلم وأحكم، قال تعالى : {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كثيرا} النساء:19.
ومن علامات الرضا: التخلص من أسر الشهوة، ورغبات النفس، قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (40)، (41) النازعات. ومن علامات الرضا: شعور العبد بانشراح صدره بالإيمان والطاعة، ففي مسند أحمد: (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الإِيمَانُ قَالَ «إِذَا سَرَّتْكَ حَسَنَتُكَ وَسَاءَتْكَ سَيِّئَتُكَ فَأَنْتَ مُؤْمِنٌ».
أيها المسلمون
من أعظم ما نحتاجه في هذا الزمان المضطرب، زمن الفتن، وكثرة الشكاوى، وضيق الصدور، هو خلق الرضا عن الله، فنحن نعيش في زمن كثر فيه السخط، وكثرت فيه المقارنات، ونسي الكثير من الناس نعم الله عليهم، فانشغلوا بما فقدوا، وغفلوا عما أُعطوا، وفي مسند أحمد: (قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ)، وفيه أيضا: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «عَجَباً لِلْمُؤْمِنِ لاَ يَقْضِى اللَّهُ لَهُ شَيْئاً إِلاَّ كَانَ خَيْراً لَهُ».
الدعاء
