خطبة عن : من وصايا وآداب السفر ( عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالتَّكْبِيرِ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ )
ديسمبر 20, 2025الخُطْبَةُ الأُولَى (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى عن بني إسرائيل: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (74) البقرة، وقال تعالى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (85) البقرة، وقال تعالى: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (140) البقرة، وقال تعالى لرسوله محمد: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (149) البقرة، وقال تعالى: (قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (99) آل عمران
إخوة الإسلام
نقف اليوم -إن شاء الله تعالى- مع آيةٍ جامعةٍ من كتاب الله العزيز، نتدبرها، ونتفهم معانيها، ونرتشف من رحيقها المختوم، مع قوله تعالى: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)، فهي آية تتردد في كتاب الله الكريم، لتوقظ القلوب، وتهزَّ النفوس، وتُقيم الموازين في حياتنا.
فقوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}: ليست مجرد كلمات تُتلى، بل هي ركنٌ عظيمٌ من أركان الإيمان، يستوجب منا التأمل العميق، والفهم الدقيق، فقوله تعالى: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ) فنفي الغفلة عن الله سبحانه وتعالى، ليس إثباتاً لمجرد العلم، بل هو إثباتٌ لكمال المراقبة، وتمام الإحاطة، وحتمية الجزاء، فالله جل جلاله لا يغفل، ولا ينام، ولا ينسى، ولا يذهل عن شيءٍ من أعمال عباده، صغُر أو عظُم، خفيَ أو ظهر، قال تعالى: (قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى) طه: (52)، وفي صحيح مسلم: (قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَنَامُ وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجَابُهُ النُّورُ – وَفِى رِوَايَةِ أَبِى بَكْرٍ النَّارُ – لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ»
وقوله تعالى: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)، فنحن أَمَامَ مِيزَانٍ رَبَّانِيٍّ دَقِيقٍ، وَقَاعِدَةٍ إِيمَانِيَّةٍ كُبْرَى، لَوْ اسْتَقَرَّتْ فِي سُوَيْدَاءِ الْقُلُوبِ، لَغَيَّرَتْ مَجْرَى حَيَاةِ الْبَشَرِ، فهَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ خَبَرٍ يُرْوَى، بَلْ هِيَ رَقَابَةٌ ذَاتِيَّةٌ، وَيَقَظَةٌ إِيمَانِيَّةٌ، تَمْلَأُ جَوَانِبَ النَّفْسِ هَيْبَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِجْلَالاً لَهُ، ففيها إِثْبَاتٌ لِكَمَالِ عِلْمِهِ، وَتَمَامِ إِحَاطَتِهِ، وَدِقَّةِ مُرَاقَبَتِهِ، لِكُلِّ ذَرَّةٍ فِي هَذَا الْكَوْنِ الْفَسِيحِ.
(وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ): ترسم لنا مشهدَ المراقبة الإلهية الشاملة، فالله عز وجل يعلم ما في السموات وما في الأرض، فعلمه محيطٌ بكل شيء، وأفعالنا كلها مسجلة، وأقوالنا كلها مكتوبة، حتى النوايا التي لا يطلع عليها بشرٌ، فإن الله مطلعٌ عليها، فهذا الاستشعار الدائم بأنَّ اللهَ يراني “هو مقامَ الإحسان”، الذي عرفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» [متفق عليه]. وهذا المقام هو الذي يجعل المؤمن يعيش حياته بحذرٍ، فلا يقدم على معصيةٍ في خلوةٍ، يظن أنه وحيد، ولا يتكاسل عن طاعةٍ يراها الناس صغيرة.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
وقوله تعالى: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)، فهذه الغفلة التي نفاها الله تعالى عن ذاته العلية، هي الصفة التي تلازم الكثير من البشر، غفلةٌ عن الهدف من وجودهم، وغفلةٌ عن الحساب القادم، وغفلةٌ عن أن كل نفسٍ مسؤولةٌ عما قدمت، فهذه الآية جاءت لتزيل حُجُبَ هذه الغفلة، ففي الآية تذكيرٌ لنا: بأن تصرفاتنا في بيوتنا، وفي أسواقنا، ومع أزواجنا، وأولادنا، وجيراننا، وفي أعمالنا، ليست عشوائية، ولا متروكة دون حساب، فعندما يظلم أحدنا أخاه، أو يغش في بيعه، أو يقطع رحمه، أو يتكاسل عن صلاته، فليتذكر أن هناك رقيباً لا يغفل، وهذا التذكير هو السلاح الأقوى لردع النفوس عن الظلم والفساد، فَالَّذِي يَعْلَمُ أَنَّ رَبَّهُ لَا يَغْفُلُ عَنْه لَحْظَة، كَيْفَ يَجْرُؤُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ فِي الْخَلَوَاتِ؟، وَكَيْفَ يَتَجَرَّأُ عَلَى أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ عَيْنَ اللَّهِ تُرَاقِبُهُ؟
كما يُلاحظ المتدبر للآية: إن الصيغة جاءت بالتوكيد اللفظي والبلاغي؛ بـ “ما” النافية، وبالباء الزائدة في الخبر (بغافلٍ)، وهذا التوكيد ليس عبثاً، بل هو لتقرير الحقيقة الثابتة، التي لا تقبل الشك، ولإقامة الحجة البالغة على العباد، وهي رسالةٌ واضحةٌ لأولئك الذين يتمادون في غيهم، ويظنون أنهم سيفلتون من العقاب، فتأخير العقوبة ليس نسياناً، والإمهال ليس إهمالاً، فالله تعالى يمهل ولا يهمل، ويسجل كل شيء في صحائف، قال تعالى: (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (59) الانعام، وقال تعالى: (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (61) يونس،
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
وقوله تعالى: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)، فإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي سِيَاقَاتٍ تَتَحَدَّثُ عَنْ قَسْوَةِ الْقُلُوبِ، وَعَنْ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ، وَعَنْ تَبْدِيلِ شَرْعِ اللَّهِ، وَكَأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِلْبَشَرِ: مَهْمَا بَلَغْتُمْ مِنَ الدَّهَاءِ، وَمَهْمَا أَخْفَيْتُمْ مِنْ خَبَايَا الصُّدُورِ، وَمَهْمَا ظَنَنْتُمْ أَنَّكُمْ أَفْلَتُّمْ مِنْ حِسَابِ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ مَنْ خَلَقَكُمْ لَا يَغْفُلُ عَنْكُمْ، إِنَّهَا صَيْحَةُ نَذِيرٍ لِكُلِّ مَنْ طَغَى وَتَجَبَّرَ، وَلِكُلِّ مَنْ غَشَّ فِي تِجَارَتِهِ، وَلِكُلِّ مَنْ خَانَ أَمَانَتَهُ، فَاللَّهُ لَيْسَ بِغَافِلٍ عَنِ الْمُوَظَّفِ الَّذِي يُضِيعُ أَوْقَاتَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا عَنِ التَّاجِرِ الَّذِي يَحْتَكِرُ الْأَقْوَاتَ، وَلَا عَنِ الرَّاعِي الَّذِي يَظْلِمُ رَعِيَّتَهُ.
وقوله تعالى: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)، فبَعْض النَّاسِ يَرَوْنَ الظُّلْمَ يَفْشُو، وَالْمُنْكَرَ يَعْلُو، فَيَتَسَاءَلُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: أَيْنَ اللَّهُ عَمَّا يَفْعَلُ الظَّالِمُونَ؟، وَالْجَوَابُ يَأْتِي صَرِيحاً مُدَوِّياً: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} إبراهيم: (42).
فتَأْخِير الْعُقُوبَةِ لَيْسَ نِسْيَاناً، بَلْ هُوَ اسْتِدْرَاجٌ وَإِمْهَالٌ، لِيَزْدَادُوا إِثْماً، ثُمَّ يَأْخُذَهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ.
وهَذِهِ الْآيَةُ بَلْسَمٌ عَلَى قُلُوبِ الْمَظْلُومِينَ، وَطُمَأْنِينَةٌ لِلْمُضْطَهَدِينَ؛ أَنَّ صَيْحَاتِهِمْ مَسْمُوعَةٌ، وَأَنَّ دُمُوعَهُمْ مَرْصُودَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ سَيَقْتَصُّ لَهُمْ، وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ.
فلِنَنْظُرْ فِي أَحْوَالِنَا الْيَوْمَ، كَيْفَ نَتَعَامَلُ مَعَ رَقَابَةِ اللَّهِ؟، هَلْ نَسْتَشْعِرُ هَذِهِ الْآيَةَ عِنْدَمَا نَخْلُو بِهَوَاتِفِنَا؟، هَلْ نَسْتَشْعِرُهَا عِنْدَمَا نَتَحَدَّثُ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ؟، وهَلْ نَسْتَشْعِرُهَا وَنَحْنُ نُؤَدِّي صَلَوَاتِنَا بِحَرَكَاتٍ جَوْفَاءَ لَا رُوحَ فِيهَا؟، فالْغَفْلَةَ عَنْ اللَّهِ تعالى هِيَ الَّتِي أَوْرَدَتْنَا الْمَهَالِكَ،
إِنَّ الْعَوْدَةَ إِلَى رِحَابِ الْآيَةِ تَعْنِي: أَنْ نُصْلِحَ السَّرَائِرَ، كَمَا نُصْلِحُ الظَّوَاهِرَ، وَأَنْ نَعْلَمَ أَنَّ مَلِكَ الْمُلُوكِ مُطَّلِعٌ عَلَى كُلِّ تَفَاصِيلِ حَيَاتِنَا. (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
الخُطْبَةُ الثانية (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وإذا كانت هذه الآية تحمل في طياتها الوعيد للمسيئين، فإنها تحمل في الوقت ذاته البشرى العظيمة للمحسنين والصالحين، فالله الذي لا يغفل عن سيئات المسيء، فإنه لا يغفل أبداً عن حسنات المحسن، وعن صبر الصابر، وعن دعوة المظلوم، فكم من جهدٍ يُبذل في الخفاء، لا يراه الناس ولا يشكرون عليه؟ ، وكم من دمعةٍ تُسكب في جوف الليل خشيةً من الله؟، وكم من صدقةٍ تُعطى باليمين لا تعلم بها الشمال؟، فكل هذه الأعمال الصالحة، وكل هذه النوايا الطيبة، هي في ميزان حسناتٍ عند ربٍ لا يغفل، فهذه الآية تزرع الطمأنينة في قلوب العاملين المخلصين، بأن أجرهم محفوظٌ، ومضاعف، وأن سعيهم مشكور، حتى لو قوبل بالجحود من البشر، فهذه الْآيَةُ فِي شِقِّهَا الْأَوَّلِ تَحْذِيراً وَوَعِيداً، وفِي شِقِّهَا الْآخَرِ بِمَثَابَةِ الْبُشْرَى وَالتَّثْبِيتِ لِكُلِّ مَنْ سَارَ عَلَى دَرْبِ الطَّاعَةِ.
{وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فسَجْدَتَكَ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَدَمْعَتَكَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَصَبْرَكَ عَلَى مَرَارَةِ الْبَلَاءِ، وَكَظْمَكَ لِلْغَيْظِ حِينَ تَقْدِرُ عَلَى الِانْتِقَامِ، وَبِرَّكَ بِوَالِدَيْكَ حِينَ يَكْبُرَانِ؛ كُلُّ ذَلِكَ مَحْفُوظٌ عِنْدَ رَبٍّ لَا يَضِيعُ عِنْدَهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ.
فمَا أَجْمَلَ أَنْ يَعِيشَ الْإِنْسَانُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ جُهْدَهُ لَيْسَ ضَائِعاً! قَدْ يَغْفَلُ عَنْكَ النَّاسُ، قَدْ لَا يُقَدِّرُ مُدِيرُكَ فِي الْعَمَلِ إِخْلَاصَكَ، قَدْ يَنْسَى مَنْ أَحْسَنْتَ إِلَيْهِمْ مَعْرُوفَكَ، لَكِنَّ رَبَّكَ لَيْسَ بِغَافِلٍ. فهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الَّتِي تَجْعَلُ الْمُؤْمِنَ يَسْتَمِرُّ فِي الْعَطَاءِ دُونَ انْتِظَارِ شُكْرٍ مِنْ أَحَدٍ، وَهِيَ الَّتِي تَجْعَلُهُ يَصْبِرُ عَلَى الطَّاعَةِ وَإِنْ لَمْ يَرَ ثَمَرَتَهَا الْعَاجِلَةَ. إِنَّ عِلْمَكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَاكَ وَيَعْلَمُ نِيَّتَكَ يَكْفِيكَ عَنْ كُلِّ عُيُونِ الْبَشَرِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
والمتدبر لمواضع الآية يتبين له: أنها في كل موضعٍ كانت تأتي كالخاتمة القوية التي تربط الأحداث الظاهرة بالجزاء الأخروي المستحق، لتدعونا لنكون أمةً يقظة، مستحضرةً هذه المراقبة في كل حين.
فالْوَاجِب عَلَيْنَا الْيَوْمَ أَنْ نُحَوِّلَ هَذِهِ الْآيَةَ إِلَى مَنْهَجِ حَيَاةٍ، وأَنْ نَسْتَحْضِرَهَا فِي بُيُوتِنَا، فَلَا نَظْلِمَ زَوْجَةً وَلَا نُقَصِّرَ فِي حَقِّ ابْنٍ، وأَنْ نَسْتَحْضِرَهَا فِي أَعْمَالِنَا، فَنُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ. وأَنْ نَسْتَحْضِرَهَا فِي خَلَوَاتِنَا، فَلا نَجْعَل اللَّهَ أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْنَا.
فَيَا مَنْ تَعْمَلُ الصَّالِحَاتِ فِي السِّرِّ، ابْشِرْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِغَافِلٍ عَنْكَ، وَيَا مَنْ تَظْلِمُ وَتَبْغِي فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، احْذَرْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِغَافِلٍ عَنْكَ، وَيَا مَنْ تُعَانِي مِنَ الْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ، اطْمَئِنَّ، فَإِنَّ رَبَّكَ لَيْسَ بِغَافِلٍ عَنْ دُعَائِكَ وَصَبْرِكَ.
الدعاء
