خطبة عن (هُوَ الكَرِيمُ يُجِيبُ مَنْ نَادَاهُ)
ديسمبر 24, 2025الخُطْبَةُ الأُولَى (نِعْمَةُ الهِدَايَةِ وَصَلَاحِ البَالِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) (2) محمد، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) (4): (6) محمد، وفي صحيح مسلم: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِيَ الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ».
إخوة الإسلام
قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} الانعام:125، وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي وَصْفِ أَهْلِ الجَنَّةِ: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الأعراف:43. وَفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي ذَرٍّ الغِفَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ».
والمتدبر للآيات القرآنية، والأحاديث النبوية السابقة يَجِدُ أَنَّ “الهداية وصَلَاحَ البَالِ” هُوَ الثَّمَرَةُ العُظْمَى، وَالجَائِزَةُ الكُبْرَى، الَّتِي يَمُنُّ بِهَا اللهُ عَلَى أَهْلِ الإِيمَانِ، وَأَهْلِ التَّضْحِيَةِ، (وَالبَالُ): هُوَ مَوْطِنُ الفِكْرِ، وَمَحَلُّ القَرَارِ، وَمُسْتَقَرُّ الهُمُومِ وَالأَفْرَاحِ، فَإِذَا صَلَحَ البَالُ، صَلَحَتِ الحَيَاةُ، وَإِنْ قَلَّ فِيهَا المَتَاعُ، وَإِذَا فَسَدَ البَالُ، ضَاقَتِ الدُّنْيَا عَلَى صَاحِبِهَا، وَإِنْ مَلَكَ كُنُوزَ الأَرْضِ، وَقَدْ رَبَطَ اللهُ سُبْحَانَهُ هَذَا الصَّلَاحَ بِثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ: الإِيمَانِ، وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، وَاتِّبَاعِ مَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا سَبِيلَ لِرَاحَةِ النَّفْسِ بَعِيدَاً عَنْ هَدْيِ السَّمَاءِ، وَلَا طُمَأْنِينَةَ لِلرُّوحِ بَعِيدَاً عَنْ الِاعْتِصَامِ بِالحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وتَأَمَّلُوا فِي قَوْلِهِ تعالى: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} (2) محمد. فلِمَاذَا قَرَنَ اللهُ بَيْنَ مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ وَصَلَاحِ البَالِ؟، والجواب: لِأَنَّ الذَّنْبَ هُوَ أَكْبَرُ مُشَتِّتٍ لِلْفِكْرِ، وَأَعْظَمُ مُقْلِقٍ لِلرَّاحَةِ، والمَعْصِيَةُ تُورِثُ فِي القَلْبِ ظُلْمَةً، وَفِي النَّفْسِ اضْطِرَابَاً، وَفِي الخَاطِرِ ضِيقَاً، فَإِذَا مَنَّ اللهُ عَلَى العَبْدِ بِالتَّكْفِيرِ وَالغُفْرَانِ، انْزَاحَتِ الغُمَّةُ، وَهَدَأَتِ النَّفْسُ، وَصَفَا البَالُ لِذِكْرِ اللهِ وَطَاعَتِهِ، فصَلَاح البَالِ يَعْنِي أَنْ يَجْمَعَ اللهُ عَلَيْكَ قَلْبَكَ، فَلَا تَتَفَرَّقُ بِكَ السُّبُلُ فِي أَوْدِيَةِ الدُّنْيَا، وَلَا تَتَخَطَّفُكَ هُمُومُ الرِّزْقِ أَوْ خَوْفُ الخَلْقِ، وفي سنن الترمذي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهَ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ».
والمتدبر لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) (4): (6) محمد،، يلاحظ أن مِنْ أَعْظَمِ مَرَاتِبِ صَلَاحِ البَالِ، ذَلِكَ الَّذِي يُعْطَاهُ الشُّهَدَاءُ وَالصَّادِقُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وهُنَا نَقِفُ مَأْخُوذِينَ بِهَذَا العَطَاءِ؛ فَهُمْ قَدْ بَذَلُوا أَرْوَاحَهُمْ، فَمَا حَاجَتُهُمْ لِصَلَاحِ البَالِ بَعْدَ المَوْتِ؟، إِنَّهُ صَلَاحُ البَالِ فِي مَقَامِ البَرْزَخِ، وَعِنْدَ العَرْضِ عَلَى اللهِ، وَفِي مَنَازِلِ الكَرَامَةِ، يُصْلِحُ اللهُ بَالَهُمْ، فَلَا يَخَافُونَ مِمَّا هُمْ قَادِمُونَ عَلَيْهِ، وَلَا يَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوا وَرَاءَهُمْ، والهِدَايَةَ بَعْدَ القَتْلِ فِي سَبِيلِ اللهِ هِيَ الهِدَايَةُ إِلَى مَنَازِلِ الجَنَّةِ، وَإِلَى الرِّضَا المُطْلَقِ عَنِ اللهِ، وَرِضَا اللهِ عَنْهُمْ، ففي الصحيحين: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ. يَقُولُونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ. فَيَقُولُ هَلْ رَضِيتُمْ فَيَقُولُونَ وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ. فَيَقُولُ أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالُوا يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا».
ومن الملاحظ أنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدَّمَ ذِكْرَ صَلَاحِ الْبَالِ حَتَّى عَلَى دُخُولِ الْجَنَّةِ فِي قَوْلِهِ: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ}. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاحَ الْبَالِ هُوَ تَهْيِئَةٌ نَفْسِيَّةٌ لِلنَّعِيمِ الْأَبَدِيِّ. فَالَّذِي لَا يَصْلُحُ بَالُهُ فِي الدُّنْيَا بِالْإِيمَانِ، كَيْفَ يَتَلَذَّذُ بِنَعِيمِ الْآخِرَةِ؟ إِنَّهُ تَدْرِيبٌ لِلرُّوحِ عَلَى السَّكِينَةِ الَّتِي لَا تَنْقَطِعُ.
والمتأمل والمتدبر لقوله تعالى: (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ) محمد: (5)، يتبين له أنَّ الهِدَايَةَ لَيْسَتْ لَحْظَةً عَابِرَةً، بَلْ هِيَ اسْتِمْرَارٌ وَثَبَاتٌ، وَصَلَاحُ البَالِ لَيْسَ تَرَفَاً، بَلْ هُوَ ضَرُورَةٌ، لِيَسْتَقِيمَ أَمْرُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فكَيْفَ لِإِنْسَانٍ فَاسِدِ البَالِ، مَشْتُوتِ الفِكْرِ، أَنْ يَقِفَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ خَاشِعَاً؟، وكَيْفَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ أُسْرَةً، أَوْ يُؤَدِّيَ أَمَانَةً؟، فإِنَّ الضَّنْكَ الَّذِي يَعِيشُهُ البَعِيدُونَ عَنِ اللهِ هُوَ فَسَادُ البَالِ بِعَيْنِهِ، حَيْثُ تَتَصَارَعُ فِيهِمُ الرَّغَبَاتُ، وَتَقْتُلُهُمُ المَخَاوِفُ، وَيَسْتَبِدُّ بِهِمُ القَلَقُ عَلَى المُسْتَقْبَلِ، أَمَّا مَنْ لَزِمَ عَتَبَةَ العُبُودِيَّةِ، وَقَالَ “آمَنْتُ بِاللهِ” ثُمَّ اسْتَقَامَ، فَقَدْ وَضَعَ حِمْلَهُ عَلَى الرَّكْنِ الشَّدِيدِ، وَأَصْلَحَ المَوْلَى لَهُ بَالَهُ، فَصَارَ يَمْشِي فِي النَّاسِ بِنُورٍ، وَيَسْتَقْبِلُ الأَقْدَارَ بِصَبْرٍ، وَيَشْكُرُ عِنْدَ النِّعْمَةِ، وَيَسْتَغْفِرُ عِنْدَ الزَّلَّةِ، فصَلَاح البَالِ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللهُ فِي القَلْبِ، فَيُبَدِّلُ الخَوْفَ أَمْنَاً، وَالاضْطِرَابَ سَكِينَةً، (صَلَاح البَالِ) نِعْمَةٌ لَا تُشْتَرَى بِمَالٍ، وَلَا تُنَالُ بِمَنْصِبٍ، وَإِنَّمَا تُنَالُ بِتَحْقِيقِ مَعْنَى: {وآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} (2) محمد. فَكُلَّمَا كَانَ العَبْدُ أَقْرَبَ لِلسُّنَّةِ، وَأَكْثَرَ تَعْظِيمَاً لِلشَّرْعِ، وَأَشَدَّ إِخْلَاصَاً فِي العَمَلِ، كَانَ أَوْفَرَ حَظَّاً مِنْ هَذِهِ السَّكِينَةِ، فَاعْرِفُوا لِلَّهِ قَدْرَهُ، وَاعْرِفُوا لِلْهِدَايَةِ قِيمَتَهَا، وَسَلُوا اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بَالَكُمْ فِي الدَّارَيْنِ.
أيُّهَا المُسْلِمُونَ
فأَعْظَم عَطِيَّةٍ يَمُنُّ بِهَا المَلِكُ الوَهَّابُ عَلَى عَبْدِهِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَيْسَتْ مَالاً مَجْمُوعَاً، وَلَا جَاهَاً مَرْفُوعَاً، وَلَا قُصُورَاً مَشِيدَةً، بَلْ هِيَ “نِعْمَةُ الهِدَايَةِ وصلاح البال”. فهَذِهِ النِّعْمَةُ الَّتِي هِيَ مِفْتَاحُ كُلِّ خَيْرٍ، وَأَسَاسُ كُلِّ فَلَاحٍ. فالهِدَايَةُ هِيَ أَنْ يَقْذِفَ اللهُ النُّورَ فِي قَلْبِكَ فَتُبْصِرَ الحَقَّ حَقَّاً وَتَتَّبِعَهُ، وَتُبْصِرَ البَاطِلَ بَاطِلاً وَتَجْتَنِبَهُ. هِيَ تَوْفِيقٌ مِنَ اللهِ لَا يَمْلِكُهُ بَشَرٌ لِبَشَرٍ، بَلْ هُوَ مَحْضُ فَضْلٍ مِنَ الَّذِي يَعْلَمُ مَنْ يَسْتَحِقُّ هَذَا الكَرَمَ الإِلَهِيَّ.
ومَطْلَب الهِدَايَةِ هُوَ المَطْلَبُ الَّذِي نُكَرِّرُهُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، بَلْ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، حِينَ نَقُولُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} الفاتحة:6. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ العَبْدَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ هِدَايَةِ اللهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ. فَنَحْنُ نَحْتَاجُ الهِدَايَةَ لِنَدْخُلَ فِي الإِسْلَامِ، وَنَحْتَاجُ الهِدَايَةَ لِنَثْبُتَ عَلَيْهِ، وَنَحْتَاجُ الهِدَايَةَ لِنَعْرِفَ تَفَاصِيلَ الشَّرِيعَةِ، وَنَحْتَاجُ الهِدَايَةَ لِنَعْمَلَ بِمَا عَلِمْنَا، فَمَنْ حُرِمَ الهِدَايَةَ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ، وَلَوْ كَانَ أَذْكَى النَّاسِ عَقْلاً، أَوْ أَكْثَرَهُمْ عِلْمَاً بِأُمُورِ الدُّنْيَا.
ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَرَى الهِدَايَةَ مَحْصُورَةً فِي أَدَاءِ الشَّعَائِرِ فَحَسْبُ، وَلَكِنَّ الحَقِيقَةَ أَنَّ مِنَّ أَجَلِّ ثِمَارِ الهِدَايَةِ مَا ذَكَرَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ حِينَ قَالَ تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} محمد: (5). فَهَلْ تَأَمَّلْتُمْ مَعْنَى “صَلَاحِ البَالِ”؟، إِنَّ صَلَاحَ البَالِ هُوَ طُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ، وَرَاحَةُ الضَّمِيرِ، وَسُكُونُ القَلْبِ وَسْطَ عَوَاصِفِ الحَيَاةِ، هُوَ أَنْ تَعِيشَ فِي سَلَامٍ دَاخِلِيٍّ، لَا تُزَعْزِعُكَ المِحَنُ، وَلَا تُطْغِيكَ المِنَحُ. هُوَ أَنْ يَكُونَ شَأْنُكَ كُلُّهُ مُجْتَمِعَاً غَيْرَ مُتَشَتِّتٍ، وَقَلْبُكَ مَوْصُولاً بِخَالِقِهِ، فَلَا تَخْشَى مِمَّا غَابَ، وَلَا تَبْتَئِسَ عَلَى مَا فَاتَ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ
ولَا يُمْكِنُ أَنْ يَصْلُحَ بَالُ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ هِدَايَةِ رَبِّهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} طه:124. وَالضَّنْكُ لَيْسَ بِالضَّرُورَةِ فَقْرَاً فِي المَالِ، فَقَدْ يَكُونُ المَرْءُ ثَرِيَّاً وَلَكِنَّ بَالَهُ مَشْغُولٌ، وَنَفْسَهُ قَلِقَةٌ، وَصَدْرَهُ ضَيِّقٌ. أَمَّا المُهْتَدِي، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، فَأَصْبَحَ مُسْتَقِرَّ البَالِ، رَاضِيَاً بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ، يُوقِنُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ.
والسؤال: كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى تَحْقِيقِ هَذِهِ النِّعْمَةِ؟، والجواب: إِنَّ أَوَّلَ الخُطُوَاتِ هِيَ “الصِّدْقُ مَعَ اللهِ”. أَنْ تُرِيَ اللهَ مِنْ قَلْبِكَ رَغْبَةً حَقِيقِيَّةً فِي التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ. ثُمَّ “الإِقْبَالُ عَلَى القُرْآنِ”؛ فَهُوَ هُدَىً وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ. ثُمَّ “كَثْرَةُ الدُّعَاءِ وَالِالْتِجَاءِ”؛ فَقُلُوبُ العِبَادِ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ. فَمَنْ أَقْبَلَ عَلَى اللهِ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ بِالرَّشَادِ، وَأَلْبَسَهُ لِبَاسَ التَّقْوَى، وَجَعَلَ لَهُ نُورَاً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ.
فمن أَعْظَم مَا يُفْسِدُ الْبَالَ هُوَ الذُّنُوبُ وَالْمَعَاصِي. فَالْمَعْصِيَةُ لَهَا أَثَرٌ شُؤْمٌ عَلَى النَّفْسِ، تُورِثُ الظُّلْمَةَ فِي الْقَلْبِ، وَالضِّيقَ فِي الصَّدْرِ، وَالتَّشَتُّتَ فِي الْفِكْرِ، فقَدْ يلْهَمُ الْعَاصِي بِلذَّاتٍ عَابِرَةٍ، لَكِنَّهَا تَعْقُبُهَا مَرَارَةٌ، تُفْسِدُ عَلَيْهِ بَالَهُ أَيَّاماً وَلَيَالِيَ، لِذَا، كَانَتِ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ هِيَ الْبَوَّابَةُ لِتَصْحِيحِ الْمَسَارِ وَاسْتِعَادَةِ صَلَاحِ الْبَالِ، فَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا} هود:3. وَالْمَتَاعُ الْحَسَنُ هُوَ رَاحَةُ النَّفْسِ وَصَلَاحُ الشَّأْنِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.
الخُطْبَةُ الثانية (نعمة الهداية وصلاح البال)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وتَأَمَّلُوا فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى عَنِ المُؤْمِنِينَ: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} (6) محمد، يَقُولُ المُفَسِّرُونَ :إِنَّ الشُّهَدَاءَ وَالصَّالِحِينَ إِذَا دَخَلُوا الجَنَّةَ، لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى دَلِيلٍ يَدُلُّهُمْ عَلَى مَسَاكِنِهِمْ، فَقَدْ عَرَّفَهَا اللهُ لَهُمْ، وَأَلْهَمَهُمْ مَوَاقِعَهُمْ فِيهَا حَتَّى كَأَنَّهُمْ سَكَنُوهَا مِنْ قَبْلُ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ هِدَايَةِ اللهِ لَهُمْ، وَمِنْ تَمَامِ صَلَاحِ بَالِهِمْ؛ فَلَا حَيْرَةَ هُنَاكَ، وَلَا تَرَدُّدَ، بَلْ هُوَ اسْتِقْرَارٌ أَبَدِيٌّ فِي جِوَارِ الرَّحْمَنِ.
واعلموا أنَّ صَلَاحَ الحال والبَالِ فِي الدُّنْيَا هُوَ “جَنَّةُ الأَرْضِ، وَيَتَحَقَّقُ بِثَلَاثِ خِصَالٍ: أَوَّلُهَا: “الرِّضَا بِالقَدَرِ”، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ. وَثَانِيهَا: “سَلَامَةُ الصَّدْرِ” مِنَ الغِلِّ وَالحَسَدِ؛ فَإِنَّ المَشْحُونَ لَا يَهْدَأُ لَهُ بَالٌ، وَلَا يَقَرُّ لَهُ قَرَارٌ. وَثَالِثُهَا: “اللَّهَجُ بِذِكْرِ اللهِ”؛ قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} الرعد: (28). فهَذِهِ المَعَانِيَ هِيَ الَّتِي تَجْعَلُ العَبْدَ يَعِيشُ حَيَاةً طَيِّبَةً، وَيُوَاجِهُ تَحَدِّيَاتِ العَصْرِ وَفِتَنَهُ بِقَلْبٍ ثَابِتٍ وَرُوحٍ مُطْمَئِنَّةٍ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ
ومِمَّا يُفْسِدُ البَالَ وَيُعَكِّرُ صَفْوَ الهِدَايَةِ: الانْغِمَاسُ فِي الشَّهَوَاتِ، وَتَعَلُّقُ القَلْبِ بِغَيْرِ اللهِ، وَكَثْرَةُ مَظَالِمِ العِبَادِ. فَكَيْفَ يَهْدَأُ بَالُ مَنْ يَأْكُلُ الحَرَامَ؟ وَكَيْفَ يَسْكُنُ قَلْبُ مَنْ يَمْكُرُ بِالنَّاسِ؟ إِنَّ الذُّنُوبَ لَهَا نُكَتٌ سَوْدَاءُ فِي القَلْبِ، تُورِثُ وَحْشَةً بَيْنَ العَبْدِ وَرَبِّهِ، وَبَيْنَ العَبْدِ وَنَفْسِهِ، لِذَلِكَ كَانَ الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ هُمَا المِصْفَاةُ الَّتِي تُعِيدُ لِلْبَالِ صَلَاحَهُ، وَلِلرُّوحِ نَقَاءَهَا.
وتَأَمَّلُوا فِي أَحْوَالِ الصَّالِحِينَ؛ كَيْفَ كَانُوا يَعِيشُونَ فِي ضِيقٍ مِنَ العَيْشِ، وَلَكِنَّهُمْ فِي سَعَةٍ مِنَ الصَّدْرِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ. كَانَ أَحَدُهُمْ يَقُولُ: “لَوْ عَلِمَ المُلُوكُ وَأَبْنَاءُ المُلُوكِ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ السَّرُورِ وَالنَّعِيمِ لَجَالَدُونَا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ”، فهَذَا هُوَ النَّعِيمُ المُعَجَّلُ، نَعِيمُ الهِدَايَةِ وَصَلَاحِ البَالِ، الَّذِي يَجْعَلُ العَبْدَ رَاضِيَاً مَرْضِيَّاً. فَاحْرِصُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- عَلَى صِيَانَةِ هَذِهِ النِّعْمَةِ. فجَدِّدُوا إِيمَانَكُمْ، وَأَصْلِحُوا أَعْمَالَكُمْ، وَتَضَرَّعُوا إِلَى مَوْلَاكُمْ أَنْ يُثَبِّتَ قُلُوبَكُمْ عَلَى طَاعَتِهِ، فَمَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ، أَصْلَحَ اللهُ لَهُ حَيَاتَهُ وَآخِرَتَهُ، وَرَزَقَهُ بَالاً طَيِّبَاً، وَحَيَاةً سَعِيدَةً.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ
ونحن اليوم فِي زَمَنٍ كَثُرَتْ فِيهِ الأَمْرَاضُ النَّفْسِيَّةُ، وَزَادَ فِيهِ القَلَقُ وَالتَّوَتُّرُ، رَغْمَ تَقَدُّمِ وَسَائِلِ الرَّفَاهِيَةِ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ هُوَ البُعْدُ عَنْ مَنْهَجِ “الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ”، لَقَدْ ظَنَّ النَّاسُ أَنَّ رَاحَةَ البَالِ فِي جَمْعِ الحُطَامِ، فَوَجَدُوا التَّعَبَ وَالنَّصَبَ، ولَكِنَّ القُرْآنَ يُنَادِينَا: أَنْ أَصْلِحُوا مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ، يُصْلِحِ اللهُ لَكُمْ بَالَكُمْ، آَمِنُوا بِالحَقِّ، وَتَمَسَّكُوا بِالسُّنَّةِ، وَاعْمَلُوا الصَّالِحَاتِ، تَجِدُوا النُّورَ فِي قُلُوبِكُمْ، وَالبَرَكَةَ فِي أَيَّامِكُمْ، وَالسَّكِينَةَ فِي بُيُوتِكُمْ.
وتَأَمَّلُوا فِي رَبْطِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَبَيْنَ صَلَاحِ الْبَالِ: فَقَدْ جَعَلَ اللهُ الْهِدَايَةَ هِيَ الْمِفْتَاحَ الْأَوَّلَ، فَالْهِدَايَةُ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، فَيُبْصِرُ بِهِ طَرِيقَ الْحَقِّ، وَيُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الْغَيِّ وَالرَّشَادِ، وَحِينَمَا يَهْتَدِي الْقَلْبُ، يَسْكُنُ إِلَى مَعْرِفَةِ اللهِ، وَيَطْمَئِنُّ إِلَى قَدَرِهِ، فَيَرْتَحِلُ عَنْهُ الْقَلَقُ، وَيَزُولُ عَنْهُ التَّخَبُّطُ، فأَعْظَمَ نِعْمَةٍ يَمُنُّ اللهُ بِهَا عَلَى عَبْدِهِ لَيْسَتِ الْمَالَ وَلَا الْجَاهَ، بَلْ أَنْ يَهْدِيَهُ لِلْإِيمَانِ، ثُمَّ يَمُنَّ عَلَيْهِ بِـ “بَالٍ صَالِحٍ” مُسْتَقِرٍ.
هناك مِنَ النَّاسِ الْيَوْمَ من يَمْلِكُونَ الْقُصُورَ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ صَلَاحَ الْبَالِ، يَسْكُنُونَ فِي أَفْخَمِ الْفَنَادِقِ وَلَا يَعْرِفُونَ لِلنَّوْمِ طَعْماً، لِأَنَّ هُنَاكَ حَرْباً بَيْنَ جَوَانِحِهِمْ، أَمَّا الْمُؤْمِنُ الْمُهْتَدِي، فَقَدْ جَمَعَ اللهُ عَلَيْهِ قَلْبَهُ، فصَلَاحُ الْبَالِ يَعْنِي انْشِرَاحَ الصَّدْرِ، وَقِلَّةَ الْهَمِّ، وَالرِّضَا بِالْمَقْسُومِ، وهَذَا الصَّلَاحُ لَا يُشْتَرَى بِالْمَالِ، وَلَا يُنَالُ بِالْمَنَاصِبِ، بَلْ هُوَ “مِنْحَةٌ رَبَّانِيَّةٌ” لِمَنْ أَقْبَلَ عَلَى اللهِ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ.
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَتَعَرَّفُوا إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكُمْ فِي الشِّدَّةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ نِعْمَةَ الهِدَايَةِ تَاجٌ عَلَى رُؤُوسِ المُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ صَلَاحَ البَالِ هُوَ العَيْشُ الهَنِيءُ، الَّذِي لَا يَعْدِلُهُ شَيْءٌ.
الدعاء
