خطبة عن (نِعْمَةُ الهِدَايَةِ وَصَلَاحِ البَالِ)
ديسمبر 25, 2025الخُطْبَةُ الأُولَى (مَرْحَلَةُ التَّمْيِيزِ قَبْلَ التَّمْكِينِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:١٧٩]. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:٥٥]. (وَعَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا لَهُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ فَقَالَ: «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ… وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» [رواه البخاري].
إخوة الإسلام
لقاؤنا الْيَوْمَ: مَعَ سُنَّةٍ رَبَّانِيَّةٍ لَا تَتَبَدَّلُ ولا تتحولُ، إِنَّهَا سُنَّةُ “التَّمْيِيزِ قَبْلَ التَّمْكِينِ”، فَكُلُّ مَنْ يَنْظُرُ فِي وَاقِعِ أُمَّتِنَا الْيَوْمَ، وَيَرَى اشْتِدَادَ الْكُرُوبِ، وَتَزَاحُمَ الْخُطُوبِ، وَاضْطِرَابَ الْمَوَاقِفِ، قَدْ يَظُنُّ أَنَّ النَّصْرَ بَعِيدٌ، وَلَكِنَّ الْبَصِيرَ بِكَلَامِ رَبِّهِ، يَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الشَّدَائِدَ مَا هِيَ إِلَّا “مِصْفَاةٌ” رَبَّانِيَّةٌ، لِتَمْيِيزِ الصُّفُوفِ، فَلَا تَمْكِينَ لِلْقُلُوبِ الَّتِي لَمْ تُخْتَبَرْ، وَلَا نَصْرَ لِلْجَمَاعَاتِ الَّتِي لَمْ تُنَقَّ، فالله عَزَّ وَجَلَّ لَا يُعْطِي نَصْرَهُ لِغُثَاءٍ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، بَلْ يُعْطِيهِ لِلْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، الَّذِينَ ثَبَتُوا حِينَ زَلَّتِ الْأَقْدَامُ.
وتَأَمَّلُوا فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} [آل عمران:١٧٩].. فهَذَا نَفْيٌ قَاطِعٌ، أَنْ يَبْقَى حَالُ الْأُمَّةِ رَكُوداً بِلَا تَمْحِيصٍ، فَالتَّمْيِيزُ مَقْصَدٌ إِلَهِيٌّ: {حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:١٧٩].. فالشَّدَائِدُ الَّتِي نَمُرُّ بِهَا الْيَوْمَ، فِي أَرْزَاقِنَا، وَفِي أَمْنِنَا، وَفِي تَسَلُّطِ أَعْدَائِنَا، هِيَ الَّتِي تُخْرِجُ مَكْنُونَ النُّفُوسِ، وهُنَا يَظْهَرُ الْمُؤْمِنُ الصَّابِرُ، مِنَ الْمُنَافِقِ الشَّاكِّ، وَيَظْهَرُ الْمُتَوَكِّلُ مِنَ الْمُتَوَاكِلِ، وَيَظْهَرُ مَنْ يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا، مِمَّنْ يَشْتَرِي الْآخِرَةَ بِكُلِّ مَا يَمْلِكُ، وفي صحيح مسلم: (يقول صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاَءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي. ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ. فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِى يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ)،
فَلَا تَكْرَهُوا مَا يَحْدُثُ للأمة اليوم من فتن وتمحيص، فَرُبَّمَا يكون هُوَ الْبَوَّابَةَ الْوَحِيدَةَ لِصَلَاحِ الصَّفِّ، وَتَهْيِئَتِهِ لِلْمَرْحَلَةِ الْقَادِمَةِ، فنحن في (مَرْحَلَةُ التَّمْيِيزِ والتمحيص، التي تسبق التَّمْكِينِ)، فالشدائدُ والمحنُ ما هي إلا “منخلٌ” رباني، تُخرجُ منه الأوهام، ويَسقطُ منه المنافقون، والمترددون، ولا يَبقى في القاعِ إلا الرواسي من الرجالِ والنساء، الذين ثَبَتوا حينَ زلَّتِ الأقدام.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
إِنَّ مَرْحَلَةَ التَّمْيِيزِ هِيَ مَرْحَلَةُ “كَوْنِيَّةٌ”، سَبَقَتْ كُلَّ تَمْكِينٍ فِي التَّارِيخِ، فانْظُرُوا إِلَى جَيْشِ طَالُوتَ، لَمْ يَمْضِ بِهِمْ طَالُوتُ لِمُقَابَلَةِ جَالُوتَ، إِلَّا بَعْدَ اخْتِبَارِ “النَّهْرِ”، فَمَنْ شَرِبَ فَقَدْ سَقَطَ فِي الِاخْتِبَارِ، وَمَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَقَدْ نَجَحَ، فصُفِّيَ الْجَيْشُ، حَتَّى بَقِيَتِ الْقِلَّةُ الْمُؤْمِنَةُ، قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} البقرة: (249).
وَهَكَذَا فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ، لَمَّا بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، وَظَنَّ النَّاسُ بِاللَّهِ الظُّنُونَا؛ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ، وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً، لِمَاذَا؟ لِيَنْكَشِفَ الْمُنَافِقُونَ، الَّذِينَ اندسوا بين المؤمنين، قَال تعالى: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا) (12): (15) الأحزاب،
وَيَثْبُتَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ قَال الله فيهم: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} الاحزاب: (22). فَلَا تَمْكِينَ بَعْدَ الْأَحْزَابِ إِلَّا بِهَذَا التَّمْيِيزِ الدَّقِيقِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
نَحْنُ الْيَوْمَ فِي مَخَاضٍ عَسِيرٍ، وَلَكِنَّهُ مَخَاضُ الْعِزَّةِ، فاللهُ تعالى يَخْتَبِرُ تَوْحِيدَنَا: أَيْنَ تَتَّجِهُ قُلُوبُكُمْ حِينَ تَضِيقُ السُّبُلُ؟، هَلْ تَتَّجِهُ لِلشَّرْقِ أَوْ لِلْغَرْبِ؟، أَمْ لِلْوَاحِدِ الدَّيَّانِ؟، ويَخْتَبِرُ الله ثَبَاتَنَا عَلَى الْقِيَمِ: هَلْ نَتَنَازَلُ عَنْ مَبَادِئِنَا، مِنْ أَجْلِ لُقْمَةِ عَيْشٍ؟، أَمْ نَصْبِرُ كَمَا صَبَرَ صَحَابَةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي الشِّعْبِ؟،
فانْتَبِهُوا، فَإِنَّ التَّمْكِينَ قَادِمٌ لَا مَحَالَةَ، فَهَذَا وَعْدُ اللهِ، وَلَكِنَّ السُّؤَالَ الْكَبِيرَ: مَنْ سَيَكُونُ مَوْجُوداً فِي سَاعَةِ التَّمْكِينِ؟، وهَلْ نَحْنُ مِمَّنْ سَيَصْمُدُ فِي مَرْحَلَةِ التَّمْيِيزِ؟، أَمْ أَنَّنَا سَنَسْقُطُ فِي أَوَّلِ مَحَطَّةٍ مِنَ الِابْتِلَاءِ؟.
والله عَزَّ وَجَلَّ حِينَمَا يُؤَخِّرُ التَّمْكِينَ، فَذَلِكَ لِتَتَحَقَّقَ فِينَا صِفَاتُ الِاسْتِحْقَاقِ، فالتَّمْكِينُ أَمَانَةٌ ثَقِيلَةٌ، وَلَا يُعْطِيهِ اللهُ لِلْمُتَرَدِّدِينَ أَوِ الْأَدْعِيَاءِ، والتَّمْكِينُ يَحْتَاجُ إِلَى جِيلٍ يَعْرِفُ مَعْنَى الْعُبُودِيَّةِ الْخَالِصَةِ، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} النور:55.
فَإِذَا رَأَيْتَ الْبَلَاءَ يَعُمُّ، وَالْغُرْبَةَ تَشْتَدُّ، فَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ يُرِيدُ أَنْ يُصَفِّيَ هَذَا الْجِيلَ، وَأَنْ يُخْرِجَ مِنْهُ الزَّبَدَ، وَيُبْقِيَ مَا يَنْفَعُ النَّاسَ، فمَرْحَلَةُ التَّمْيِيزِ هِيَ مَرْحَلَةُ الْأَمَلِ لَا الْيَأْسِ، فَالْفَجْرُ لَا يَنْبَثِقُ إِلَّا بَعْدَ أَشَدِّ سَاعَاتِ اللَّيْلِ ظُلْمَةً، وَالنَّصْرُ لَا يَنْزِلُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَبْلُغَ الْقُلُوبُ ذِرْوَةَ الِاضْطِرَارِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
إِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْنَا فِي مَرْحَلَةِ التَّمْيِيزِ هَذِهِ هُوَ “الثَّبَاتُ” وَ”تَجْدِيدُ النِّيَّةِ”، فلَا تَنْشَغِلُوا بِمَتَى سَيَنْزِلُ النَّصْرُ، بَلِ انْشَغِلُوا بِهَلْ نَحْنُ عَلَى الْحَقِّ؟، وَهَلْ نَحْنُ ثَابِتُونَ عَلَيْهِ؟، فالله عَزَّ وَجَلَّ لَا يَسْأَلُكَ عَنِ النَّتَائِجِ، ولَكِنَّهُ يَسْأَلُكَ عَنِ الْمَوَاقِفِ، فكُنْ فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ كَالشَّجَرَةِ رَاسِخَةِ الْجُذُورِ، لَا تُحَرِّكُهَا رِيَاحُ الشُّبُهَاتِ، وَلَا تَعْصِفُ بِهَا رِيَاحُ الشَّهَوَاتِ، فالتَّمْيِيزُ يَقْتَضِي مِنْكَ أَنْ تَنْحَازَ لِدِينِكَ، وَلِأُمَّتِكَ، بِيَقِينٍ لَا يَتَزَعْزَعُ.
واعْلَمُوا أَنَّ النَّجَاحَ فِي مَرْحَلَةِ التَّمْيِيزِ يَتَطَلَّبُ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ: أَوَّلُهَا الصَّبْرُ؛ فَإِنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ. وَثَانِيهَا الْيَقِينُ؛ بِأَنَّ مَا وَعَدَ اللهُ بِهِ حَقٌّ، وَإِنْ بَدَا الْوَاقِعُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَثَالِثُهَا التَّقْوَى؛ بِمُزَاحَمَةِ الْمَعَاصِي بِالطَّاعَاتِ، فَالْمَعْصِيَةُ فِي زَمَنِ التَّمْيِيزِ هِيَ ثُقْبٌ فِي سَفِينَةِ النَّجَاةِ، ولِنُطَهِّرْ صُفُوفَنَا مِنْ دَاخِلِنَا، وَلْنُصْلِحْ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَالِقِنَا؛ لِيَعْجَلَ اللهُ لَنَا بِالْفَرَجِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.
الخُطْبَةُ الثانية (مَرْحَلَةُ التَّمْيِيزِ قَبْلَ التَّمْكِينِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وانظروا إلى جيلِ الصحابةِ (رضي اللهُ عنهم)؛ فقد مكثوا في مكةَ ثلاثةَ عشرَ عاماً في “مرحلةِ التمييز”، وفيها جوعٌ، وتشريدٌ، وتعذيبٌ، واضطهاد، فلم يَكن هناكَ تمكينٌ، بل كانت هناكَ “تصفيةٌ للقلوب”، فمَن الذي يَثبتُ مع النبيِّ ﷺ وهو يُحاصَرُ في الشِّعب؟، ومَن الذي يهاجرُ ويتركُ أرضه وبيته ومالَه وأهله؟، فحينَ انتهتْ مرحلةُ التمييزِ، وصَفَا الصفُّ، جاءَ تمكينُ المدينة، ثم فَتْحُ مكة، ثم حكمُ العالَم.
فما نراهُ اليومَ من تكالبِ الأمم، وضيقِ العيش، وظهورِ الفتن، ليسَ نهايةَ الطريق، بل هو “فرزٌ” كبير، يَميزُ اللهُ الصادقَ في دعوتِه من الكاذب، والمتمسكَ بمبادئِه من المتنازلِ عنها. فإنَّ الزبدَ سيذهبُ جفاءً، وما ينفعُ الناسَ سيمكثُ في الأرض، فكونوا من الذين اصطفاهم اللهُ للثباتِ في هذا الزمان.
وانْتَبِهُوا إلى كيد الشيطان، فَإن الشَّيْطَان فِي مَرْحَلَةِ التَّمْيِيزِ: يَبُثُّ سُمُومَ الْقُنُوطِ، فيَقُولُ لَكَ مثلا: “أَيْنَ نَصْرُ اللهِ؟، ويقول: لَقَدْ تَمَكَّنَ الظُّلْمُ!”، وَلَكِنَّ اللهَ يَقُولُ: {حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} البقرة:214.
فلَحْظَة الِاسْتِيْئَاسِ هِيَ اللَّحْظَةُ الَّتِي يَأْتِي فِيهَا التَّمْكِينُ، فَكُونُوا مِنَ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ الْمُسْتَقْبَلَ بِيَقِينِهِمْ، وَلَا تَكُونُوا مِمَّنْ سَقَطُوا فِي الْفِتْنَةِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا سُنَنَ اللهِ فِي خَلْقِهِ.
أيها المسلمون
إنَّ اليأسَ ليسَ من أخلاقِ المؤمنين، فإذا رأيتمُ الغبارَ يشتدُّ، فاعلموا أنَّ القافلةَ تقتربُ من غايتِها، وإذا رأيتمُ التمييزَ يطالُ كلَّ شيء، فاستبشروا بأنَّ “التمكين” قد أزِفتْ ساعتُه. المهمُّ هو: أينَ أنتَ في هذا الصف؟، هل أنتَ مع الطيبِ الثابت، أم مع الخبيثِ المتذبذب؟ فَكُونُوا فِي زَمَنِ التَّمْيِيزِ مِنَ “الطَّيِّبِينَ”، الَّذِينَ اسْتَقَرَّ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ، واعْلَمُوا أَنَّ الدُّنْيَا إِلَى زَوَالٍ، وَأَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ.
الدعاء
