خطبة عن (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)
ديسمبر 27, 2025الخُطْبَةُ الأُولَى (أَيَنْقُصُ الدِّينُ وَأَنَا حَيٌّ؟)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:٢٣]. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة:٥٤]. وأخرج البيهقي في (دلائل النبوة): (عن عمر ذُكرَ عندَهُ أبو بَكرٍ فبَكى، وقالَ: وددتُ أنَّ عمَلي كلَّهُ مثلُ عملِهِ يومًا واحدًا من أيَّامِهِ وليلةً واحدةً مِن لياليهِ أم ليلتُهُ فليلةٌ سارَ معَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى الغار فلمَّا انتهَيا إليْهِ قالَ: واللَّهِ لا تدخلُهُ حتَّى أدخلَ قبلَكَ فإن كانَ فيهِ شيءٌ أصابَني دونَكَ فدخلَ فَكسحَهُ ووجدَ في جانبِهِ ثقبًا فشقَّ إزاره وسدَّها بِهِ وبقي منْها اثنان فألقَمهُما رجليْهِ ثمَّ قالَ لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ادخُل فدخلَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ووضعَ رأسه في حِجرِهِ ونامَ فلُدِغَ أبو بَكرٍ في رجلِهِ منَ الجحر ولم يتحرَّك مخافةَ أن ينتبِهَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فسقَطت دموعُهُ على وجْهُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقالَ: مالك يا أبا بَكرٍ؟، قالَ: لُدِغتُ فداكَ أبي وأمِّي، فتفلَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فذَهبَ ما يجدُهُ، ثمَّ انتقضَ عليْهِ وَكانَ سببَ موتِهِ، وأمَّا يومُهُ فلمَّا قُبضَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ارتدَّتِ العربُ وقالوا: لا نؤدِّي زَكاةً. فقالَ: لو مَنعوني عقالًا لجاهدتُهم عليْهِ. فقلتُ: يا خَليفةُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تألَّفِ النَّاسَ وارفُق بِهم. فقالَ لي: أجبَّارٌ في الجاهليَّةِ وخوَّارٌ في الإسلام؟، إنَّهُ قدِ انقطعَ الوحيُ وتمَّ الدِّينُ أينقصُ وأنا حيٌّ ؟) قال ابن حجر العسقلاني: وصله البيهقي.
إخوة الإسلام
إِنَّنَا الْيَوْمَ نَقِفُ مَعَ مَوْقِفٍ مِنْ أَعْظَمِ مَوَاقِفِ الرُّجُولَةِ وَالْإِيمَانِ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِيَّةِ؛ مَوْقِفِ الصِّدِّيقِ أَبِي بَكْرٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، حِينَمَا وَقَفَ كَالطَّوْدِ الشَّامِخِ، أَمَامَ أَعْظَمِ فِتْنَةٍ وَاجَهَتِ الْأُمَّةَ بَعْدَ وَفَاةِ نَبِيِّهَا ﷺ، لَقَدْ كَانَتْ صَيْحَتُهُ: «أَيَنْقُصُ الدِّينُ وَأَنَا حَيٌّ؟» لَيْسَتْ مُجَرَّدَ جُمْلَةٍ حَمَاسِيَّةٍ، بَلْ كَانَتْ إِعْلَاناً عَنْ مَنْهَجِ “الْمَسْؤُولِيَّةِ الْفَرْدِيَّةِ” تِجَاهَ هَذَا الدِّينِ،
«أَيَنْقُصُ الدِّينُ وَأَنَا حَيٌّ؟»: إِنَّهَا الْكَلِمَةُ الَّتِي حَفِظَ اللَّهُ بِهَا الْإِسْلَامَ، وَأَعَادَ بِهَا هَيْبَةَ الْمُسْلِمِينَ ،وَأَثْبَتَتْ أَنَّ رِجَالَ الْعَقِيدَةِ لَا يَعْرِفُونَ الِانْكِسَارَ مَهْمَا بَلَغَ حَجْمُ التَّحَدِّيَاتِ، وتَأَمَّلُوا الظَّرْفِ الَّذِي قِيلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْكَلِمَةُ: لقد مَاتَ النَّبِيُّ ﷺ، وَارْتَدَّتِ الْعَرَبُ، وَمَنَعَ آخَرُونَ الزَّكَاةَ، وَادَّعَى الْكَذَّابُونَ النُّبُوَّةَ، وَأَحَاطَ الْأَعْدَاءُ بِالْمَدِينَةِ إِحَاطَةَ السِّوَارِ بِالْمِعْصَمِ، حَتَّى قَالَ الصَّحَابَةُ -وَفِيهِمْ عُمَرُ-: “يَا أَبَا بَكْرٍ، تَأَلَّفِ النَّاسَ وَارْفُقْ بِهِمْ”، وَلَكِنَّ الصِّدِّيقَ الَّذِي شَرِبَ حُبَّ الدِّينِ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ، أَبَى أَنْ يَتَنَازَلَ عَنْ شَعِيرَةٍ وَاحِدَةٍ، لَقَدْ أَدْرَكَ أَنَّ الدِّينَ لَيْسَ مِلْكاً لَهُ لِيُسَاوِمَ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ أَمَانَةُ اللَّهِ فِي عُنُقِهِ، فَقَالَ بِقَلْبٍ لَا يَعْرِفُ الْخَوْفَ: “أَيَنْقُصُ الدِّينُ وَأَنَا حَيٌّ؟”، وإِنَّ هَذِهِ الْغَيْرَةَ عَلَى حُرُمَاتِ اللَّهِ، هِيَ الَّتِي نَحْتَاجُهَا الْيَوْمَ، فِي زَمَنٍ كَثُرَ فِيهِ الْمُتَسَاقِطُونَ عَلَى طَرِيقِ التَّنَازُلَاتِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
إِنَّ سُؤَالَ الصِّدِّيقِ: «أَيَنْقُصُ الدِّينُ وَأَنَا حَيٌّ؟»، يَجِبُ أَنْ يَتَرَدَّدَ فِي صَدْرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا، أَيَنْقُصُ الدِّينُ فِي بَيْتِكَ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَأَنْتَ حَيٌّ؟، أَيَنْقُصُ الدِّينُ فِي سُلُوكِ أَبْنَائِكَ بِانْتِشَارِ الْمُنْكَرَاتِ وَأَنْتَ حَيٌّ؟، أَيَنْقُصُ الدِّينُ فِي سُوقِنَا بِالرِّبَا وَالْغِشِّ وَنَحْنُ أَحْيَاءٌ؟،
إِنَّ مَسْؤُولِيَّةَ حِمَايَةِ الدِّينِ لَيْسَتْ مَقْصُورَةً عَلَى الْعُلَمَاءِ وَالْحُكَّامِ، بَلْ هِيَ وَظِيفَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فالصِّدِّيقُ عَلَّمَنَا أَنَّ الْحَيَاةَ لَا قِيمَةَ لَهَا إِذَا ضَاعَ الدِّينُ، أَوْ ثُلِمَتْ أَرْكَانُهُ، وَالْمُسْلِمُونَ يَنْظُرُونَ، وانْتَبِهُوا إِلَى دِقَّةِ فَهْمِ أَبِي بَكْرٍ، لَقَدْ فَرَّقَ الْمُرْتَدُّونَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَقَالُوا: “نُصَلِّي وَلَا نُؤَدِّي الزَّكَاةَ”، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ الصِّدِّيقُ: بِأَنَّ الدِّينَ كُلٌّ لَا يَتَجَزَّأُ. وَهَذَا دَرْسٌ بَلِيغٌ لَنَا؛ فَالْبَعْضُ الْيَوْمَ يُرِيدُ إِسْلَاماً عَلَى الْمَقَاسِ، يَأْخُذُ مِنَ الدِّينِ مَا يُعْجِبُهُ، وَيَتْرُكُ مَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ، يُرِيدُ صَلَاةً بِلَا أَخْلَاقٍ، أَوْ عِبَادَةً بِلَا مُعَامَلَةٍ، أَوْ إِيمَاناً بِلَا حِجَابٍ وَلَا عِفَّةٍ، وَلَكِنَّ مَنْهَجَ الصِّدِّيق “أَيَنْقُصُ الدِّينُ وَأَنَا حَيٌّ” يَقْضِي بِأَنَّ حِمَايَةَ أَصْغَرِ شَعِيرَةٍ هِيَ حِمَايَةٌ لِلدِّينِ كُلِّهِ، فمَنْ هَانَ عَلَيْهِ الِاسْتِخْفَافُ بِالسُّنَنِ، أَوْشَكَ أَنْ يَضِيعَ فِي الْفَرَائِضِ.
«أَيَنْقُصُ الدِّينُ وَأَنَا حَيٌّ؟» فإِنَّ الثَّبَاتَ الَّذِي أَبْدَاهُ الصِّدِّيقُ كَانَ نَابِعاً مِنْ يَقِينٍ مُطْلَقٍ بِأَنَّ اللَّهَ نَاصِرٌ دِينَهُ، فَعِنْدَمَا قَالَ لَهُ النَّاسُ: “كَيْفَ تُنْفِذُ جَيْشَ أُسَامَةَ وَالْعَرَبُ حَوْلَنَا قَدِ ارْتَدَّتْ؟”، قَالَ: “وَاللَّهِ لَوْ خَطِفَتْنِي السِّبَاعُ لَأُنْفِذَنَّ جَيْشَ أُسَامَةَ كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ”، هَذِهِ هِيَ الْعَظَمَةُ؛ أَنْ تَمْتَثِلَ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَإِنْ بَدَا الْوَاقِعُ مُسْتَحِيلاً، فمَنْهَج الصِّدِّيقِ يُعَلِّمُنَا أَنَّنَا لَا نُدَافِعُ عَنِ الدِّينِ بِكَثْرَتِنَا، بَلْ بِنُورِ الْحَقِّ الَّذِي مَعَنَا، قال تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (139) آل عمران
فلِنَنْظُرْ فِي مِرْآةِ أَبِي بَكْرٍ ونقول لأنفسنا: مَاذَا قَدَّمْنَا لِدِينِنَا حِينَ يُنْتَقَصُ مِنْ أَطْرَافِهِ؟، وحِينَ تُهَانُ الْمُقَدَّسَاتُ، وَتُنْتَهَكُ الْحُرُمَاتُ، وَيُشَكَّكُ فِي الثَّوَابِتِ؛ فهَلْ نَتَحَرَّكُ بِغَيْرَةِ الصِّدِّيقِ؟، أَمْ نَقُولُ: “نَحْنُ ضُعَفَاءُ لَا طَاقَةَ لَنَا”؟، فالصِّدِّيقُ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ طَائِرَاتٍ وَلَا دَبَّابَاتٍ، ولَكِنَّهُ كَانَ يَمْلِكُ قَلْباً لَوْ وُضِعَ فِيهِ إِيمَانُ الْأُمَّةِ لَرَجَحَ بِهِ، فإِنَّ الْقُوَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ تَبْدَأُ مِنْ دَاخِلِكَ، حِينَمَا تَقُولُ لِنَفْسِكَ وَلِلْعَالَمِ: “أَيَنْقُصُ الدِّينُ وَأَنَا حَيٌّ؟”، فهَذِهِ الْكَلِمَةُ هِيَ الَّتِي تَبْنِي السُّدُودَ الْمَنِيعَةَ أَمَامَ أَمْوَاجِ التَّغْرِيبِ وَالِانْحِلَالِ.
«أَيَنْقُصُ الدِّينُ وَأَنَا حَيٌّ؟» إنَّ مَنْهَجَ أَبِي بَكْرٍ لَيْسَ مَحْصُوراً فِي سَاحَاتِ الْقِتَالِ، بَلْ هُوَ مَنْهَجٌ فِي التَّرْبِيَةِ وَالْبِنَاءِ، فعِنْدَمَا تَغْرِسُ فِي ابْنِكَ حُبَّ اللَّهِ، وَتَعْظِيمَ حُدُودِهِ، فَأَنْتَ تَقُولُ: “أَيَنْقُصُ الدِّينُ وَأَنَا حَيٌّ؟”. وعِنْدَمَا تَقِفُ أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ فِي مَدْرَسَتِكَ، لِتَبْنِيَ عُقُولاً مُؤْمِنَةً، تَعْتَزُّ بِهُوِيَّتِهَا، فَأَنْتَ تَقُولُ: “أَيَنْقُصُ الدِّينُ وَأَنَا حَيٌّ؟”. وعِنْدَمَا تَحْرِصِينَ أَيَّتُهَا الْأُمُّ عَلَى حِجَابِ بَنَاتِكِ، وَطَهَارَةِ بَيْتِكِ، مِمَّا يُغْضِبُ اللَّهَ، فَأَنْتِ تَقُولِينَ: “أَيَنْقُصُ الدِّينُ وَأَنَا حَيٌّ؟”.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
إِنَّ التَّحَدِّيَ الَّذِي نُواجِهُهُ الْيَوْمَ هُوَ “نَقْصُ الدِّينِ فِي النُّفُوسِ”، فَقَدْ صَارَ الْمُسْلِمُ يَسْتَهِينُ بِمُشَاهَدَةِ الْحَرَامِ، وَيَسْتَهِينُ بِتَضْيِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَيَسْتَهِينُ بِمُخَالَطَةِ مَنْ يَسْتَهْزِئُ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَالصِّدِّيقُ يُنَادِينَا مِنْ خَلْفِ السُّتُورِ: «أَيَنْقُصُ الدِّينُ وَأَنَا حَيٌّ؟»، فأَيْنَ غَيْرَتُكُمْ؟”.
إِنَّ الدِّينَ لَا يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ أَعْدَائِهِ فَقَطْ، بَلْ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ أَبْنَائِهِ الْمُفَرِّطِينَ، فَكُنْ أَنْتَ الثَّغْرَ الَّذِي لَا يُؤْتَى الْإِسْلَامُ مِنْ قِبَلِهِ، واجْعَلْ حَيَاتَكَ حِصْناً لِدِينِكَ، وَلَا تَرْضَ بِالدَّنِيَّةِ فِيهِ أَبَداً.
لَقَدْ مَاتَ أَبُو بَكْرٍ، وَبَقِيَتْ كَلِمَتُهُ «أَيَنْقُصُ الدِّينُ وَأَنَا حَيٌّ؟» بَقِيَتْ نُوراً يَسِيرُ خَلْفَهُ كُلُّ مُخْلِصٍ، فنحن الْيَوْمَ فِي أَمَسِّ الْحَاجَةِ إِلَى “أَبِي بَكْرٍ” فِي كُلِّ حَيٍّ، وَفِي كُلِّ مَسْجِدٍ، وَفِي كُلِّ بَيْتٍ، فإِذَا رَأَى رَجُلٌ منا خَلَلاً فِي الدِّينِ فَرِعَ لِتَصْحِيحِهِ، وَإِذَا رَأَى غَفْلَةً قَامَ لِتَنْبِيهِهَا، فلَا نَنْتَظِرُ مَنْ يُنْقِذُنَا، بَلْ لِيُنْقِذْ كُلٌّ مِنَّا نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ سَيَسْأَلُنَا عَنْ هَذَا الدِّينِ، الَّذِي وَصَلَ إِلَيْنَا بَعْرَقِ وَدِمَاءِ الصَّحَابَةِ: مَاذَا صَنَعْتُمْ فِيهِ؟ وَكَيْفَ حَافَظْتُمْ عَلَيْهِ؟
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.
الخُطْبَةُ الثانية (أَيَنْقُصُ الدِّينُ وَأَنَا حَيٌّ؟)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
«أَيُنْقَصُ الدِّينُ وَأَنَا حَيٌّ؟!». إنَّهَا كَلِمَةٌ تَعْنِي: أَنَّ وُجُودَ الإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ لَا مَعْنَى لَهُ إِذَا ضَاعَ الدِّينُ، أَوْ أُنْقِصَ مِنْهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ وَهُوَ يَنْظُرُ، وهِيَ صَيْحَةٌ فِي وَجْهِ كُلِّ مُسْلِمٍ يَقُولُ: “مَاذَا أَصْنَعُ وَأَنَا وَاحِدٌ؟!”. فأَبُو بَكْرٍ عَلَّمَنَا: أَنَّ الأُمَّةَ قَدْ تَقُومُ عَلَى عَاتِقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، إِذَا صَدَقَ، وعَلَّمَنَا: أن الدِّينُ أَمَانَةٌ فِي عُنُقِكَ أَنْتَ، فِي عُنُقِكَ أَيُّهَا الأَبُ فِي بَيْتِكَ، وَأَنْتَ أَيُّهَا المَسْؤُولُ فِي مَكَانِكَ، وَأَنْتَ أَيُّهَا الشَّابُ بَيْنَ زُمَلَائِكَ، فلَا تَنْتَظِرْ حَتَّى يَتَحَرَّكَ الجَمِيعُ؛ بَلْ قُلْ لِنَفْسِكَ: “لَنْ يُؤْتَى الإِسْلَامُ مِنْ قِبَلِي”، وقل: “أَيُنْقَصُ الدِّينُ وَأَنَا حَيٌّ؟!”؛ أَيُنْتَهَكُ الحِجَابُ وَأَنَا حَيٌّ؟، أَتُضَيَّعُ الصَّلَاةُ فِي بَيْتِي وَأَنَا حَيٌّ؟، أَيَنْتَشِرُ الرِّبَا وَالغِشُّ فِي سُوقِي وَأَنَا حَيٌّ؟،
وإنَّ الغَيْرَةَ عَلَى حُرُمَاتِ اللهِ، هِيَ بَقِيَّةُ الإِيمَانِ فِي القَلْبِ، ولَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يَرَوْنَ أَنَّ أَيَّ نَقْصٍ فِي الدِّينِ، هُوَ جُرْحٌ غَائِرٌ فِي أَجْسَادِهِمْ. فأَبُو بَكْرٍ لَمْ يَقْبَلْ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ،وَقَالَ كَلِمَتَهُ الشَّهِيرَةَ: «وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ». واعلموا أنَّ الدِّينَ لَيْسَ ثَوْبَاً نَلْبَسُهُ حِينَ نَشَاءُ، وَنَخْلَعُهُ حِينَ نَشَاءُ، بَلْ هُوَ الرُّوحُ؛ فَإِذَا نَقَصَ الدِّينُ نَقَصَتِ الحَيَاةُ، ولَوْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا اسْتَشْعَرَ مَقُولَةَ الصِّدِّيقِ، لَتَغَيَّرَ حَالُ أُمَّتِنَا، فحِينَ تَرَى المُنْكَرَ فِي مَجْلِسِكَ وَتَسْكُتُ، فَأَنْتَ تَقْبَلُ نَقْصَ الدِّينِ، وحِينَ تَرَى أَوْلَادَكَ يَجْهَلُونَ أَبْسَطَ قَوَاعِدِ دِينِهِمْ، وَتَنْشَغِلُ بِمُسْتَقْبَلِهِمُ المَادِّيِّ فَقَطْ، فَأَنْتَ تَقْبَلُ نَقْصَ الدِّينِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
إن الِاسْتِعْدَاد لِلذَّوْدِ عَنِ الدِّينِ لَا يَكُونُ بِالشِّعَارَاتِ، بَلْ أَنْ تَمْلأَ الثَّغْرَ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ، فالمُعَلِّمُ فِي مَدْرَسَتِهِ: يَقُولُ لَنْ يَنْقُصَ الدِّينُ وَأَنَا حَيٌّ، فَيَزْرَعُ القِيَمَ فِي طُلَّابِهِ، والتَّاجِرُ فِي دُكَّانِهِ: يَقُولُ لَنْ يُنْقَصَ الدِّينُ وَأَنَا حَيٌّ، فَيَلْتَزِمُ الصِّدْقَ وَالأَمَانَةَ، والأُمُّ فِي مِحْرَابِ بَيْتِهَا: تَقُولُ لَنْ يُنْقَصَ الدِّينُ وَأَنَا حَيَّةٌ، فَتُخَرِّجُ جِيلاً يَعْرِفُ اللهَ.
ولِنَنْقُلْ هَذِهِ الكَلِمَةَ إِلَى مِحْرَابِ وَاقِعِنَا، فالدِّينُ لَيْسَ جُدْرَانَ المَسَاجِدِ فَقَطْ، الدِّينُ هُوَ “أَخْلَاقٌ، وَمُعَامَلَاتٌ، وَقِيَمٌ”، فعِنْدَمَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِالغِيبَةِ فِي مَجْلِسِكَ، فَقَدْ نُقِصَ الدِّينُ.. فَهَلْ قُلْتَ: “لَا، وَأَنَا حَيٌّ”؟ وعِنْدَمَا تَرَى الغِشَّ فِي التِّجَارَةِ فُشِيَ، فَقَدْ نُقِصَ الدِّينُ.. فَهَلْ كُنْتَ أَنْتَ الحَاجِزَ؟ وعِنْدَمَا تَرَى التَّهَاوُنَ بِالحِجَابِ، أَوِ التَّفْرِيطَ فِي الصَّلَوَاتِ، فَهَذَا نَقْصٌ فِي الدِّينِ. إنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَنْتَظِرْ (مُؤَسَّسَةً) لِتَحْمِيَ الدِّينَ، بَلْ رَأَى نَفْسَهُ هُوَ المَسْؤُولَ الأَوَّلَ، فكُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ يَا عِبَادَ اللهِ هُوَ (أَبُو بَكْرٍ) فِي مَكَانِهِ، فأَنْتِ أَيَّتُهَا الأُمُّ، إِذَا ضَاعَتِ الصَّلَاةُ فِي بَيْتِكِ، فَقَدْ نُقِصَ الدِّينُ فِي (دَوْلَتِكِ الصَّغِيرَةِ)، فَأَيْنَ غَيْرَتُكِ؟.
إِنَّ مَأْسَاةَ الأُمَّةِ اليَوْمَ أَنَّنَا نَنْتَظِرُ (المُخَلِّصَ) الَّذِي سَيَأْتِي لِيُصْلِحَ كُلَّ شَيْءٍ، وَنَسِينَا أَنَّ الإِصْلَاحَ يَبْدَأُ بِمَقُولَةِ: «أَيُنْقَصُ الدِّينُ وَأَنَا حَيٌّ؟!». فهَلْ تَعْلَمُونَ مَاذَا سَيَحْدُثُ لَوْ أَنَّ كُلَّ مُوَظَّفٍ قَالَ: “لَنْ يَدْخُلَ الرِّبَا أَوْ الرِّشْوَةُ مَكْتَبِي وَأَنَا حَيٌّ”؟، وهَلْ تَعْلَمُونَ مَاذَا سَيَحْدُثُ لَوْ أَنَّ كُلَّ شَابٍّ قَالَ: “لَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ غَافِلَةٍ عَلَى مَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ وَأَنَا حَيٌّ”؟، سَيَسْتَقِيمُ حَالُ الأُمَّةِ فِي لَحْظَةٍ!، فإنَّ رُوحَ الصِّدِّيقِ لَيْسَتْ سَرْدَاً لِلتَّارِيخِ، بَلْ هِيَ طَاقَةٌ تَمْلأُ القَلْبَ بِالعِزَّةِ، ونَحْنُ لَا نَحْتَاجُ إِلَى كَثْرَةِ كَلَامٍ، بَلْ نَحْتَاجُ إِلَى “رِجَالٍ تَتَّقِي اللهَ فِي ثُغُورِهَا”، فاحْمِ ثَغْرَكَ، فَلَا يُؤْتَيَنَّ الإِسْلَامُ مِنْ قِبَلِكَ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ
إنَّ الدِّينَ مَنْصُورٌ بِإِذْنِ اللهِ، وَاللهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْنَا، وَلَكِنَّنَا نَحْنُ الَّذِينَ نَحْتَاجُ لِشَرَفِ الخِدْمَةِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الصِّدِّيقِينَ غَدَاً، فَلْيَحْمِلْ هَمَّ الدِّينِ اليَوْمَ، فاِجْعَلُوا هَذِهِ الكَلِمَةَ نَصْبَ أَعْيُنِكُمْ فِي كُلِّ مَوْقِفٍ: «أَيُنْقَصُ الدِّينُ وَأَنَا حَيٌّ؟!». وَاعْلَمُوا أَنَّ الإِيمَانَ لَيْسَ بَعْضَ كَلِمَاتٍ نَقُولُهَا، بَلْ هُوَ غَيْرَةٌ تَحْرِقُ الصَّدْرَ، وَعَمَلٌ يُصَدِّقُ اليَقِينَ، فَجَدِّدُوا الْعَهْدَ مَعَ رَبِّكُمْ، ولَا تَسْمَحُوا لِلْغَفْلَةِ أَنْ تَنْقُصَ مِنْ دِينِكُمْ شَيْئاً وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، وكُونُوا أُمَنَاءَ عَلَى هَذَا النُّورِ، وَانْقُلُوهُ إِلَى الْأَجْيَالِ كَمَا وَصَلَ إِلَيْنَا، وَكُونُوا حُرَّاسَاً لِهَذَا الدِّينِ، وتذكروا دائما: «أَيُنْقَصُ الدِّينُ وَأَنَا حَيٌّ؟!».
الدعاء
