خطبة عن (أَيَنْقُصُ الدِّينُ وَأَنَا حَيٌّ؟)
ديسمبر 28, 2025الخُطْبَةُ الأُولَى (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) (5): (7) الليل، وقال تعالى: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى) (8) الأعلى. وفي مسند أحمد وغيره: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْراً عَسَلَهُ». قِيلَ وَمَا عَسَلُهُ قَالَ «يَفْتَحُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ عَمَلاً صَالِحاً قَبْلَ مَوْتِهِ ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ»، وفي سنن أبي داود: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ الْجَنَّةَ)، وفي سنن الترمذي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ». فَقِيلَ كَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ الْمَوْتِ».
إخوة الإسلام
حِينَ نَتَأَمَّلُ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) (7) الليل، وقوله تعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} (8) الأعلى، نَجِدُ أَنَّ هَذَا الوَعْدَ لَيْسَ مُجَرَّدَ سُهُولَةٍ فِي الأَمْرِ، بَلْ هُوَ “إِعْدَادٌ إِلَهِيٌّ” لِلنَّفْسِ، لِتَكُونَ صَالِحَةً لِلْخَيْرِ، فاليُسْرَى هُنَا: هِيَ كُلُّ مَا فِيهِ صَلَاحُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَهِيَ الجَنَّةُ فِي الآخِرَةِ، والله سُبْحَانَهُ يُخْبِرُنَا أَنَّ هُنَاكَ مَنْ يَسِيرُ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ بِقُوَّتِهِ وَذَكائِهِ، فَيَتَعَثَّرُ وَيَضِلُّ، وَهُنَاكَ مَنْ يَسِيرُ بِتَيْسِيرِ اللهِ لَهُ، فَتَنْفَتِحُ لَهُ المَغَالِيقُ، وَتَلِينُ لَهُ الصِّعَابُ، فاليُسْرَى أَنْ يَكُونَ مَسْلَكُكَ فِي الحَيَاةِ مَسْلَكَاً سَمْحَاً، لَا عَنَتَ فِيهِ وَلَا شِقَاقَ، لِأَنَّ المَوْلَى هُوَ الَّذِي يَقُودُ خُطَاكَ، وَفي صحيح البخاري: (قَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ قَالَ «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ». ثُمَّ قَرَأَ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) (5): (7) الليل.
فمَقْصَد اليُسْرَى الأَعْظَمَ هُوَ “الخَاتِمَةُ الحَسَنَةُ”، فَمَنْ عَاشَ حَيَاتَهُ مُيَسَّرَاً لِلطَّاعَاتِ، يُيَسِّرُ اللهُ لَهُ عِنْدَ المَوْتِ النُّطْقَ بِالشَّهَادَةِ، وَيُيَسِّرُ لَهُ طَرِيقَاً إِلَى الجَنَّةِ عَرَّفَهَا لَهُ. والله جَلَّ جَلَالُهُ كَرِيمٌ، لَا يَخْذُلُ مَنْ بَذَلَ نَفْسَهُ لَهُ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ»، قَالُوا: وَكَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ؟ قَالَ: «يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ»،
فقِمَّةُ التَّيْسِيرِ لِلْيُسْرَى: أَنْ تُخْتَمَ صَحِيفَتُكَ بِأَجْمَلِ مَا فِيهَا، ومنْ أَعْظَمِ أَلْطَافِ اللهِ بِعَبْدِهِ المُؤْمِنِ أَنْ يَجْعَلَ الخَيْرَ مَسْلَكَاً سَهْلاً عَلَى نَفْسِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَ الطَّاعَةَ حَبِيبَةً إِلَى قَلْبِهِ.
“وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى”: هِيَ بَشَارَةٌ لِكُلِّ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَ الإِيمَانِ، ومَعْنَاهَا أَنْ يُهَيِّئَ اللهُ لَكَ الأَسْبَابَ، وَيُذَلِّلَ لَكَ الصِّعَابَ، حَتَّى تَجِدَ نَفْسَكَ تَنْسَاقُ إِلَى أَعْمَالِ البِرِّ دُونَ عَنَاءٍ كَبِيرٍ، فاليُسْرَى هِيَ الطَّرِيقَةُ السَّمْحَةُ، وَهِيَ الشَّرِيعَةُ المُبَارَكَةُ، وَهِيَ كُلُّ خَصْلَةٍ تُؤَدِّي إِلَى الجَنَّةِ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ إِذَا أَحَبَّ عَبْدَاً، جَعَلَ الخَيْرَ يَجْرِي عَلَى يَدَيْهِ، وَفَتَحَ لَهُ آفَاقَاً مِنَ الطَّاعَةِ.
{وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى}: فلَمْ يَقُلِ اللهُ تعالى “وَنُيَسِّرُ لَكَ الْأُمُورَ” فَحَسْبُ، بَلْ قَالَ “وَنُيَسِّرُكَ أَنْتَ”؛ وَهَذَا مَعْنَاهُ أَنَّ اللهَ يَجْعَلُ نَفْسَكَ وَرُوحَكَ مُهَيَّأَةً لِلْخَيْرِ، مُنْقَادَةً لِلطَّاعَةِ بِسُهُولَةٍ وَمَحَبَّةٍ، فَمَنْ يَسَّرَهُ اللهُ لِلْيُسْرَى، صَارَتِ الصَّلَاةُ قُرَّةَ عَيْنِهِ، وَصَارَ الْإِنْفَاقُ لَذَّتَهُ، وَصَارَ الصَّبْرُ دِيدَنَهُ.
وتَأَمَّل فِي أَحْوَالِ النَّاسِ؛ تَجِدُ مَنْ يُيَسَّرُ لِقِيَامِ اللَّيْلِ، وَكَأَنَّهُ لَذَّةٌ لَا يُطِيقُ فِرَاقَهَا، وَتَجِدُ مَنْ يُيَسَّرُ لِلإِنْفَاقِ، وَكَأَنَّ المَالَ لَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَهُ، وَتَجِدُ مَنْ يُيَسَّرُ لِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَكُلُّ صَعْبٍ فِيهَا يَهُونُ، فهَذَا التَّيْسِيرُ لَيْسَ عَفْوِيَّاً، بَلْ هُوَ مَحْضُ تَوفيقٍ إِلَهِيٍّ لِعَبْدٍ “أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى”، فحِينَ يَرَى اللهُ مِنْكَ صِدْقَ الإِقْبَالِ، يَمُدُّكَ بِجُنْدٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَيَشْرَحُ صَدْرَكَ، وَيُنِيرُ بَصِيرَتَكَ، فَتَرَى سُبُلَ الخَيْرِ الَّتِي غَفَلَ عَنْهَا غَيْرُكَ، وَتَسْلُكُهَا بِهِمَّةٍ لَا تَعْرِفُ الفُتُورَ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ
وكَمْ مِنْ إِنْسَانٍ أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ شَرَّاً، فَهَيَّأَ اللهُ لَهُ عَائِقَاً صَرَفَهُ عَنْهُ؟، وَكَمْ مِنْ إِنْسَانٍ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ عَمَلُ بِرٍّ، فَسَاقَ اللهُ إِلَيْهِ مِسْكِينَاً يَطْرُقُ بَابَهُ، أَوْ مَجْلِسَ عِلْمٍ يَمُرُّ بِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَا لهِدَايَتِهِ؟، فهَذَا هُوَ التَّيْسِيرُ الخَفِيُّ، فالله تعالى يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، فَيَزْرَعُ فِي قَلْبِكَ الرَّغْبَةَ فِي الطَّاعَةِ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ ثَقِيلَةً، وَيُبَغِّضُ إِلَيْكَ المَعْصِيَةَ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُزَيَّنَةً، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (7)، (8) الحجرات. فهَذَا هُوَ عَيْنُ التَّيْسِيرِ لِلْيُسْرَى.
واعلموا أِنَّ السَّعْيَ لِلْيُسْرَى يَبْدَأُ مِنْكَم أَنْتَم، قَالَ تَعَالَى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) (5): (7) الليل؛ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَفَاتِيحَ، إِذَا مَلَكْتَهَا، فُتِحَ لَكَ بَابُ التَّيْسِيرِ: وهي “أَعْطَى”؛ أَيْ بَذَلَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ وَوَقْتَهُ لِلَّهِ، “وَاتَّقَى”؛ أَيْ رَاقَبَ اللهَ فِي سِرِّهِ وَعَلَنِهِ، “وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى”؛ أَيْ أَيْقَنَ بِالخَلَفِ مِنَ اللهِ وَبِالجَنَّةِ، فمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، جَاءَهُ الوَعْدُ الرَّبَّانِيُّ: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}، وهُنَا لَنْ تَجِدَ نَفْسَكَ تُجَاهِدُ لِتُصَلِّيَ، بَلْ سَتَجِدُ نَفْسَكَ تُجَاهِدُ لِتَتْرُكَ الصَّلَاةَ!، وسَتُصْبِحُ العِبَادَةُ لَكَ قُوتَاً، وَسَيُصْبِحُ الذِّكْرُ لَكَ أُنْسَاً، لِأَنَّ اللهَ يَسَّرَ لَكَ سَبِيلَ السَّعَادَةِ.
وَمِنْ عَجِيبِ التَّيْسِيرِ لِلْيُسْرَى: أَنَّ اللهَ قَدْ يَسُوقُ لَكَ “اليُسْرَ فِي ثَوْبِ العُسْرِ”، فقَدْ يُغْلِقُ اللهُ فِي وَجْهِكَ بَابَ تِجَارَةٍ أَرَدْتَهَا، لِيَفْتَحَ لَكَ بَابَ عِبَادَةٍ غَفَلْتَ عَنْهَا، أَوْ يَبْتَلِيكَ بِمَرَضٍ يُرَقِّقُ قَلْبَكَ، فَيَكُونُ هَذَا المَرَضُ هُوَ “اليُسْرَى” الَّتِي أَوْصَلَتْكَ إِلَى التَّوْبَةِ، وَالبُكَاءِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فالمُؤْمِنَ يَنْظُرُ إِلَى أَقْدَارِ اللهِ بِعَيْنِ الرِّضَا، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ رَبَّهُ لَا يُقَدِّرُ لَهُ إِلَّا مَا فِيهِ خَيْرُهُ، وَإِنْ بَدَا فِي ظَاهِرِهِ أَلَمَاً، فَتَيْسِيرُ اللهِ لَكَ قَدْ يَكُونُ بِأَنْ يَمْنَعَ عَنْكَ مَا يُطْغِيكَ، لِيُعْطِيَكَ مَا يُزَكِّيكَ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ
وتَأَمَّلُوا فِي أَحْوَالِ الصَّالِحِينَ؛ كَيْفَ كَانَ اللهُ يَسُوقُ لَهُمْ سُبُلَ الخَيْرِ سَوْقَاً جَمِيلاً: فيُحْكَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ خَرَجَ لِحَاجَةٍ، فَتَاهَ فِي الطَّرِيقِ، فَوَجَدَ جِنَازَةً لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا إِلَّا نَفَرٌ قَلِيلٌ، فَصَلَّى مَعَهُمْ، وَدَعَا لِلْمَيِّتِ، فَرَأَى فِي مَنَامِهِ أَنَّ اللهَ غَفَرَ لَهُ وَلِلْمَيِّتِ بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ، مَنْ الَّذِي تَيَّهَهُ فِي الطَّرِيقِ؟، وَمَنْ الَّذِي جَاءَ بِهِ إِلَى هَذَا المَوْقِفِ؟، إِنَّهُ الله الَّذِي قَالَ: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى}.
فالله تعالى إِذَا أَرَادَ نَشْرَ فَضِيلَةٍ طُوِيَتْ، أَتَاحَ لَهَا لِسَانَ مُؤْمِنٍ مُيَسَّرٍ، وَإِذَا أَرَادَ قَبُولَ صَدَقَةٍ، بَعَثَ إِلَيْكَ مَنْ هُوَ أَحْوَجُ مَا يَكُونُ إِلَيْهَا.
فالتَّيْسِير نُورٌ يَقْذِفُهُ اللهُ فِي البَصِيرَةِ، فَيَجْعَلُكَ تَعْرِفُ مَوَاضِعَ رِضَا اللهِ، فَتَقْصِدُهَا، بَيْنَمَا غَيْرُكَ يَتَخَبَّطُ فِي الظُّلُمَاتِ، فَاسْأَلُوا اللهَ دَائِمَاً أَنْ لَا يَكِلَكُمْ إِلَى أَنْفُسِكُمْ، فَنُفُوسُنَا تَمِيلُ لِلْهَوَى، وَللعُسْرَى، وَرَبُّنَا يَدْعُونَا لِلْهُدَى وَاليُسْرَى، فكُونُوا عَلَى ثِقَةٍ بأَنَّ مَنْ صَدَقَ مَعَ اللهِ فِي طَلَبِ التَّيْسِيرِ، فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَجُعِلَتْ لَهُ الأَرْضُ ذَلُولاً لِيَصِلَ إِلَى رِضْوَانِ اللهِ وَجَنَّتِهِ. وَمِنْ عَظِيمِ فَضْلِ اللهِ: أَنَّهُ يُيَسِّرُ لِلْمُؤْمِنِ “خَبِيئَةَ عَمَلٍ صَالِحٍ”، فَتَجِدُ العَبْدَ يُوَفَّقُ لِقَضَاءِ حَاجَةِ مِسْكِينٍ، فِي وَقْتٍ لَا يَرَاهُ فِيهِ أَحَدٌ، أَوْ يُلْهَمُ كَلِمَةَ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ، أَوْ يُيَسَّرُ لَهُ ذِكْرٌ مَخْصُوصٌ، يَكُونُ سَبَبَاً فِي رَفْعِ دَرَجَاتِهِ، فهَذِهِ المِنَحَ الرَّبَّانِيَّةَ هِيَ رَسَائِلُ حُبٍّ مِنَ الخَالِقِ لِعَبْدِهِ، يَقُولُ لَهُ فِيهَا: “أَنَا مَعَكَ، أَنَا أَقُودُ خُطَاكَ إِلَى الجَنَّةِ”، فَالطَّرِيقُ إِلَى اللهِ لَيْسَ بِكَثْرَةِ العَمَلِ وَحْدَهُ، بَلْ بِيُسْرِ التَّوْفِيقِ الَّذِي يُصَاحِبُ العَمَلَ. ومَنْ وُفِّقَ لِلْيُسْرَى صَارَتْ حَيَاتُهُ كُلُّهَا بَرَكَةً، فتَيْسِيرٌ فِي الرِّزْقِ، فَلَا يَطْلُبُهُ مِنْ حَرَامٍ، وَتَيْسِيرٌ فِي الوَقْتِ، فَلَا يَضِيعُ فِي آثَامٍ، وَتَيْسِيرٌ فِي العِبَادَةِ، فَلَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ صِيَامٌ وَلَا قِيَامٌ، وهَذَا النَّعِيمُ المُعَجَّلُ هُوَ ثَمَرَةُ الِاسْتِسْلَامِ للهِ، فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ يُيَسِّرَكَ اللهُ لِلْيُسْرَى، فَقَدِّمْ لِلَّهِ مِمَّا تُحِبُّ، وَاتَّقِهِ فِي السِّرِّ وَالعَلَنِ، وَثِقْ بِوَعْدِهِ الحَقِّ، فَلَنْ يُسْلِمَكَ اللهُ لِنَفْسِكَ، بَلْ سَيَتَوَلَّى أَمْرَكَ، وَيَسُوقُ لَكَ سُبُلَ الرَّشَادِ سَوْقَاً.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ
الخُطْبَةُ الثانية (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
واعلموا أنَّ نِهَايَةَ طَرِيقِ اليُسْرَى هُوَ “تَيْسِيرُ الدُّخُولِ إِلَى الجَنَّةِ”، فقد قَالَ تَعَالَى: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} (6) محمد، فهُنَا يَصِلُ التَّيْسِيرُ إِلَى مَحَطَّتِهِ الأَخِيرَةِ، حَيْثُ لَا تَعَبَ وَلَا نَصَبَ، وَلَكِنَّ الطَّرِيقَ يَبْدَأُ مِنْ هُنَا؛ مِنْ طَهَارَةِ النِّيَّةِ، وَمِنْ إِتْبَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَمَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي اللهِ، هَدَاهُ اللهُ سُبُلَهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} العنكبوت (69)، فَالصَّبْرُ فِي البِدَايَةِ، يُورِثُ التَّيْسِيرَ فِي النِّهَايَةِ.
واعلم أخي المسلم أنَّ مِمَّا يَقْطَعُ عَنْكَ تَيْسِيرَ اللهِ: هُوَ “الغُرُورُ بِالعَمَلِ”، أَوْ “الِاتِّكَالُ عَلَى النَّفْسِ”، فحِينَ تَقُولُ: “أَنَا فَعَلْتُ، وَأَنَا تَصَدَّقْتُ”، فَإِنَّ اللهَ يَكِلُكَ إِلَى نَفْسِكَ، وَمَنْ وُكِلَ إِلَى نَفْسِهِ ضَاعَ، لذا كان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم كما في سنن أبي داود: «اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ»، وفي مسند أحمد: (فَإِنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تُقَرِّبْنِي مِنَ الشَّرِّ وَتُبَاعِدْنِي مِنَ الْخَيْرِ وَإِنِّي لاَ أَثِقُ إِلاَّ بِرَحْمَتِكَ فَاجْعَلْ لِي عِنْدَكَ عَهْداً تُوَفِّينِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تَخْلِفُ الْمِيعَادَ).
أَمَّا حِينَ تَقُولُ: “يَا رَبِّ، لَا حَوْلَ لِي وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ، يَسِّرْ لِي صَالِحَ الأَعْمَالِ”، فَإِنَّ المَلَكَ يُنَادِي: “هُدِيتَ وَكُفِيتَ وَوُقِيتَ”، ففي سنن أبي داود: (أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ». قَالَ «يُقَالُ حِينَئِذٍ هُدِيتَ وَكُفِيتَ وَوُقِيتَ فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ»،
وَحَذَار أخي المسلم مِنْ “التَيْسِيرِ للعُسْرَى” -وَالعِيَاذُ بِاللهِ- الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ فِي قَوْلِهِ: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} الليل:10، فالعُسْرَى هِيَ طَرِيقُ الشَّرِّ وَالمَعْصِيَةِ، وَهَذَا يَكُونُ جَزَاءً لِمَنْ “بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى”، فَمَنْ أَعْرَضَ عَنِ اللهِ، جَعَلَ اللهُ الشَّرَّ سَهْلاً عَلَيْهِ، وَالمَعْصِيَةَ قَرِيبَةً مِنْهُ، وَالطَّاعَةَ ثَقِيلَةً عَلَى صَدْرِهِ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ
في صحيح البخاري: قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا»، فتَذَكَّرُوا أَنَّ الحَيَاةَ سَاعَةٌ، فَاجْعَلُوهَا لله طَاعَةً، وَانْطَلِقُوا مِنْ هَذِهِ الجُمُعَةِ بِهِمَّةٍ عَالِيَةٍ، وَنِيَّةٍ صَادِقَةٍ، أَنْ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِ “اليُسْرَى”، وأَعْطُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ، وَاتَّقُوا اللهَ فِي حُدُودِهِ، وَصَدِّقُوا بِوَعْدِهِ الحَقِّ، عِنْدَهَا سَتَرَوْنَ عَجَائِبَ لُطْفِ اللهِ، فِي تَيْسِيرِ حَيَاتِكُمْ، {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} فالله عَزَّ وَجَلَّ، الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَيَعْلَمُ ضَعْفَهُ، لَمْ يُرِدْ لَهُ الْعَنَتَ وَلَا الشَّقَاءَ، بَلْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ طَرِيقُهُ نَحْوَ مَرْضَاتِهِ طَرِيقاً مَيْسُوراً،
وانْتَبِهُوا، فَإِنَّ الْيُسْرَ الَّذِي نَتَحَدَّثُ عَنْهُ لَيْسَ مَعْنَاهُ الْقُعُودَ وَالْكَسَلَ، بَلْ هُوَ يُسْرُ “الِانْطِلَاقِ” نَحْوَ الْغَايَاتِ الْعُظْمَى، فقد كَانَ النَّبِيُّ ﷺ وهُوَ أَكْمَلَ الْبَشَرِ تَيْسِيراً لِلْيُسْرَى، فَكَانَ رَحِيماً بِأُمَّتِهِ، مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْماً، وَلَقَدْ عَلَّمَنَا أَنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ، فَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّةَ الْمُصْطَفَى ﷺ، وَجَدَ حَلَاوَةَ التَّيْسِيرِ فِي عِبَادَتِهِ؛ فَلَا تَشْدِيدَ يُنَفِّرُ، وَلَا تَمْيِيعَ يُضَيِّعُ، بَلْ وَسَطِيَّةٌ تَجْلِبُ السَّكِينَةَ وَتُدِيمُ الْعَمَلَ.
ومن المؤسف أِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ الْيَوْمَ يُعَسِّرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، بِتَعَلُّقِهِمْ بِالدُّنْيَا، وَتَرْكِهِمْ لِمَنْهَجِ اللهِ، فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وَبَخِلَ بِمَا آتَاهُ، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَإِنَّ الْوَعِيدَ يَأْتِي صَرِيحاً: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}. وَالْعُسْرَى هِيَ طَرِيقُ الشَّقَاءِ وَالضَّلَالِ، وَتَعَسُّرِ الْأُمُورِ، فقَدْ يَمْلِكُ الْمَالَ، وَلَكِنَّهُ يَعِيشُ فِي نَكَدٍ، وَقَدْ يَمْلِكُ الْجَاهَ، وَلَكِنَّهُ لَا يَجِدُ رَاحَةَ الْبَالِ، فإِنَّ حَقِيقَةَ التَّيْسِيرِ هِيَ صِلَةٌ بِاللهِ، فَإِذَا رَضِيَ اللهُ عَنْكَ، جَعَلَ الْعَسِيرَ يَسِيراً، وَإِذَا غَضِبَ، صَارَ كُلُّ شَيْءٍ ضِدَّكَ.
وكَيْفَ نَطْلُبُ الْيُسْرَ فِي حَيَاتِنَا؟: إِنَّهُ بِالدُّعَاءِ، وَبِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فكَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ: «اللَّهُمَّ لَا سَهْلَ إِلَّا مَا جَعَلْتَهُ سَهْلاً، وَأَنْتَ تَجْعَلُ الْحَزْنَ إِذَا شِئْتَ سَهْلاً». فَمَنْ وَثِقَ بِاللهِ، كَفَاهُ اللهُ، وَمَنْ طَلَبَ الْيُسْرَ مِنْ مَنَابِعِهِ الصَّافِيَةِ، سَاقَ اللهُ إِلَيْهِ الْخَيْرَ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ.
{وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى}: ومِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ هَذَا التَّيْسِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ نَفْسُهُ “يُسْراً” عَلَى مَنْ حَوْلَهُ، ففي مسند أحمد: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ». فَالَّذِي يَسَّرَهُ اللهُ لِلْيُسْرَى تَجِدُهُ سَمْحاً إِذَا بَاعَ، سَمْحاً إِذَا اشْتَرَى، سَمْحاً إِذَا اقْتَضَى، لَا يُعَقِّدُ الْأُمُورَ، وَلَا يَتَتَبَّعُ الْعَثَرَاتِ، بَلْ يَنْشُرُ رُوحَ التَّفَاؤُلِ وَالْيُسْرِ حَيْثُمَا حَلَّ.
إِنَّ الْعَالَمَ الْيَوْمَ يَمُورُ بِالْمَشَقَّاتِ وَالْأَزَمَاتِ، وَالنَّاسُ فِي مَسْغَبَةٍ وَتَعَبٍ، وَالْمُخْرَجُ هُوَ الْعَوْدَةُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ، فلِنُيَسِّر عَلَى الْفُقَرَاءِ، لِيُيَسِّرَ اللهُ عَلَيْنَا، ولِنُيَسِّرْ عَلَى الْمَدِينِينَ، لِيُيَسِّرَ اللهُ عَلَيْنَا كَرْبَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ولِنُيَسِّرْ عَلَى مَنْ نَعُولُ، فَلَا نُكَلِّفَهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
وتَذَكَّرُوا أَنَّ كُلَّ طَاعَةٍ تَقُومُونَ بِهَا هِيَ مَحْضُ تَيْسِيرٍ مِنَ اللهِ، فَلَا تَعْجَبُوا بِأَعْمَالِكُمْ، بَلِ اشْكُرُوا اللهَ أَنْ يَسَّرَكُمْ لِهَذِهِ الصَّلَاةِ، وَيَسَّرَكُمْ لِهَذَا الذِّكْرِ، فإِنَّ الْحِرْمَانَ الْحَقِيقِيَّ أَنْ يُخَلِّيَ اللهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ نَفْسِكَ، فَتَتَعَسَّرَ عَلَيْكَ أَبْوَابُ الْبِرِّ.
وَاعْلَمُوا أَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، وَأَنَّ بَعْدَ الضِّيقِ فَرَجاً، وَأَنَّ مَنْ جَعَلَ التَّقْوَى زَادَهُ، وَالصِّدْقَ مَطِيَّتَهُ، وَالْعَطَاءَ دَيْدَنَهُ، فَلَنْ يَخْذُلَهُ اللهُ أَبَداً، وسَيَفْتَحُ لَهُ مَغَالِيقَ الْأُمُورِ، وَيَهْدِيهِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، وَيَجْعَلُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجاً، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ.
الدعاء
