خطبة عن (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)
ديسمبر 29, 2025الخُطْبَةُ الأُولَى (الدُّنْيَا دَارُ بَلاَءٍ وابْتِلَاءٍ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:٢]. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:٣٥]. وَفي صحيح مسلم: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»، وفيه: (قال صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاَءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتي. ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ. فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ)،
إخوة الإسلام
نَقِفُ الْيَوْمَ – إن شاء الله تعالى- مَعَ حَقِيقَةٍ كُبْرَى مِنْ حَقَائِقِ هَذَا الْوُجُودِ، وَمع قَاعِدَةٍ رَاسِخَةٍ ،لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَغْفَلَ عَنْهَا؛ إِنَّهَا حَقِيقَةُ الدُّنْيَا، فالدنيا لَيْسَتْ دَارَ قَرَارٍ، وَلَا مَوْطِنَ رَاحَةٍ، بَلْ هِيَ (دَارُ بَلاَءٍ وابْتِلَاءٍ)، ومَيْدَانُ امْتِحَانٍ، وَقَاعَةُ اخْتِبَارات، وَقَدْ جَاءَتِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ لِتُصَحِّحَ نَظْرَتَنَا لِلْحَيَاةِ الدنيا؛ فَاللَّهُ لَمْ يَخْلُقْنَا لِنَعِيشَ فِيهَا خَالِدِينَ مُتَنَعِّمِينَ بِلَا كَدَرٍ، بَلْ خَلَقَنَا لِيَمْتَحِنَ صِدْقَ إِيمَانِنَا، وَيُظْهِرَ مَعَادِنَ نُفُوسِنَا، قال تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (2)، (3) العنكبوت،
فَمَنْ فَهِمَ حَقِيقَةَ الدُّنْيَا، هَانَتْ عَلَيْهِ مَصَائِبُهَا، وَمَنْ جَهِلَ طَبِيعَتَهَا، ضَاقَتْ عَلَيْهِ السُّبُلُ، عِنْدَ أَوَّلِ عَقَبَةٍ، وفي سنن الترمذي: (عَنْ سَعْدٍ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً قَالَ «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاَؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاَءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ». وفي صحيح البخاري: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَهْوَ يُوعَكُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا. قَالَ «أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُمْ». قُلْتُ ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ قَالَ «أَجَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا»
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
وتَأَمَّلُوا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:٢]. فالآية تبين أنَّ الِابْتِلَاءَ سُنَّةٌ رَبَّانِيَّةٌ شَامِلَةٌ، لَا يَسْلَم مِنْهَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَلَا عَبْدٌ صَالِحٌ، وَاعلموا أن الِابْتِلَاء فِي الدُّنْيَا لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى الْفَقْرِ، وَالْمَرَضِ، وَالْخَوْفِ، بَلْ إِنَّ الْعَطَاءَ ابْتِلَاءٌ، وَالصِّحَّةَ ابْتِلَاءٌ، وَالْغِنَى ابْتِلَاءٌ، قال تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (35) الأنبياء، فالِابْتِلَاء يَكُونُ “بِالْخَيْرِ” كَمَا يَكُونُ “بِالشَّرِّ”، وَقَدْ يَكُونُ الِابْتِلَاءُ بِالْخَيْرِ أَصْعَبَ وَأَشَدَّ؛ لِأَنَّ الشَّرَّ يَدْفَعُكَ لِلِانْكِسَارِ وَالدُّعَاءِ، أَمَّا الْخَيْرُ فَقَدْ يُطْغِيكَ وَيُنْسِيكَ، فكَمْ مِنْ إِنْسَانٍ صَبَرَ عِنْدَ الْفَقْرِ، فَلَمَّا آتَاهُ الله الْمَال فَشَلَ فِي الِاخْتِبَارِ، وَنَسِيَ حَقَّ اللَّهِ تعالى!، وَكَمْ مِنْ إِنْسَانٍ تَبَتَّلَ فِي الْمَرَضِ، فَلَمَّا جَاءَتْهُ الصِّحَّةُ، طَاشَتْ بِهِ السُّبُلُ!، لِذَا فقد كَانَ السَّلَفُ الصالح يَقُولُونَ: “بُلِينَا بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا، وَبُلِينَا بِالسَّرَّاءِ فَلَمْ نَصْبِرْ”، فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ فِتْنَةِ السَّرَّاءِ، وَلْنَعْلَمْ أَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ بَيْنَ أَيْدِينَا هِيَ مَسْؤُولِيَّةٌ، سَنُسْأَلُ عَنْهَا غَدًا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تعالى.
وَاللَّهُ تعالى يَبْتَلِي بَعْضَنَا بِبَعْضٍ؛ قال تعالى: (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) (4) محمد، فيَبْتَلِي الله المؤمنين بالكافرين، والْغَنِيَّ بِالْفَقِيرِ، وَيَبْتَلِي الْقَوِيَّ بِالضَّعِيفِ، وَيَبْتَلِي صَاحِبَ الْجَاهِ بِالْمَحْرُومِ، فَكُلُّ مَشْهَدٍ تَرَاهُ فِي حَيَاتِكَ فهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ “وَرَقَةُ امْتِحَانٍ” بَيْنَ يَدَيْكَ، لِيَنْظُرَ اللَّهُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، قال تعالى: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (129) الأعراف
وإِنَّ أَوَّلَ أَسْبَابِ الشَّقَاءِ فِي الدُّنْيَا هُوَ “خَطَأُ التَّصَوُّرِ”: أَنْ يَنْشُدَ الإِنْسَانُ الرَّاحَةَ التَّامَّةَ، فِي دَارٍ لَمْ تُوضَعْ لِلرَّاحَةِ، قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ- حِينَ سُئِلَ: مَتَى يَجِدُ العَبْدُ طَعْمَ الرَّاحَةِ؟، فقَالَ: “عِنْدَ أَوَّلِ قَدَمٍ يَضَعُهَا فِي الجَنَّةِ”، إِذَنْ، هُنَا مَيْدَانُ العَمَلِ، وَهُنَا مَوْضِعُ الِامْتِحَانِ.
وتَأَمَّلُوا قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} (4) البلد. فأنت تُكَابِدُ النَّوْمَ لِتُصَلِّيَ، وتُكَابِدُ العَمَلَ لِتَرْزُقَ، وتُكَابِدُ المَرَضَ لِتَصِحَّ، وتُكَابِدُ الأَبْنَاءَ لِتُرَبِّيَ،
فالدُّنْيَا جُبِلَتْ عَلَى كَدَرٍ، وَأَنْتَ تُرِيدُهَا صَفْوَاً مِنَ الأَقْذَارِ وَالأَكْدَارِ؟،
مُكَلِّفُ الأَيَّامِ ضِدَّ طِبَاعِهَا، مُتَطَلِّبٌ فِي المَاءِ جَذْوَةَ نَارِ!
فَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ لِهَذِهِ الدُّنْيَا أَنْ تَكُونَ طَبِيعَتُهَا “الْكَبَدَ” وَالْمَشَقَّةَ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَطْلُبَ الصَّفْوَ فِيهَا، بَلْ يَطْلُبُ الثَّبَاتَ وَالسَّكِينَةَ، وَالرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ تعالى، واعلموا أن الِابْتِلَاء هُوَ الَّذِي يَصْقُلُ النُّفُوسَ، وَيُجْلِي الْقُلُوبَ، وَيَجْعَلُ الْعَبْدَ دَائِمَ الِافْتِقَارِ إِلَى خَالِقِهِ وَمَوْلَاهُ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
وهُنَاك مَفْهُوم مَغْلُوط عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ، فيَظُنُّونَ أَنَّ الِابْتِلَاءَ عَلَامَةُ غَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، وَالْحَقُّ أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ بَلَاءً هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، فالِابْتِلَاءُ لِلْمُؤْمِنِ هُوَ تَمْحِيصٌ وَرَفْعُ دَرَجَاتٍ، وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ، ومن حكمة الابتلاء في الدنيا: لِتَشْتَاقَ النُّفُوسُ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ؛ حَيْثُ لَا هَمَّ وَلَا حَزَنَ، وَلَا وَصَبَ وَلَا نَصَبَ، فلَوْ صَفَتِ الدُّنْيَا لِأَحَدٍ، لَمَا اشْتَاقَ لِلْجَنَّةِ، فَاللَّهُ يُكَدِّرُ عَلَيْنَا مَعِيشَتَنَا، لِنَعْلَمَ أَنَّنَا عَابِرُو سَبِيلٍ، وَأَنَّ مَوْطِنَنَا الْأَصْلِيَّ هُوَ جَنَّاتُ النَّعِيمِ، والِابْتِلَاءُ هُوَ الْمُحَرِّكُ لِلْعَمَلِ، وَالدَّافِعُ لِلتَّقْوَى، فَلَا تَتَبَرَّمْ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ، بَلْ قُلْ: “قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ”، وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَيْرَ كُلَّ الْخَيْرِ فِيمَا اخْتَارَهُ اللَّهُ لَكَ، وَإِنْ غَابَتْ عَنْ عَيْنِكَ الْحِكْمَةُ فِي بَدَايَةِ الْأَمْرِ.
ولَوْلَا الِابْتِلَاءُ لَأَصَابَ الإِنْسَانَ دَاءُ الكِبْرِ وَالفِرْعَوْنِيَّةِ، فالِابْتِلَاءُ “مِحْجَمَةٌ” تُخْرِجُ الدَّمَ الفَاسِدَ مِنَ القَلْبِ، والِابْتِلَاءُ يُوقِظُ الغَافِلَ: فبَعْضُ النَّاسِ لَا يَعْرِفُ بَابَ السَّمَاءِ، إِلَّا إِذَا ضَاقَتْ بِهِ الأَرْضُ، فَكَأَنَّ البَلَاءَ (رِسَالَةُ حُبٍّ) تَقُولُ لَكَ: “ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ”، والِابْتِلَاءُ تَمْحِيصٌ لِلصَّفِّ: ففِي الرَّخَاءِ، كُلُّ النَّاسِ يَدَّعُونَ الإِيمَانَ، ولَكِنْ عِنْدَ الشِّدَّةِ يَتَبَيَّنُ المَعْدِنُ، قَالَ تَعَالَى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}(2) العنكبوت، والِابْتِلَاءُ رَفْعُ دَرَجَاتٍ: فإِنَّ العَبْدَ لَتَكُونُ لَهُ المَنْزِلَةُ عِنْدَ اللهِ، لَا يَبْلُغُهَا بِصَلَاتِهِ وَلَا صِيَامِهِ، فَمَا يَزَالُ اللهُ يَبْتَلِيهِ بِمَا يَكْرَهُ، حَتَّى يَبْلُغَهَا.
والسؤال: إذَا كَانَتِ الدُّنْيَا دَارَ ابْتِلَاءٍ، فَكَيْفَ السَّبِيلُ لِلنَّجَاحِ فِي هَذَا الِاخْتِبَارِ؟، والجواب: النَّجَاحُ يَبْدَأُ بِـ “الرِّضَا”: أَنْ تَرْضَى عَنِ اللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ، والرِّضَا هُوَ سُكُونُ الْقَلْبِ تَحْتَ مَجَارِي الْأَقْدَارِ، وَيَلِي الرِّضَا “الصَّبْرُ”: الصَّبْرُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَالصَّبْرُ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَالصَّبْرُ عَلَى أَقْدَارِهِ الْمُؤْلِمَةِ، وَالْمُؤْمِنُ الْفَطِنُ هُوَ الَّذِي يَسْتَعِينُ بِالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ، لِيَقْوَى ظَهْرُهُ عَلَى حَمْلِ تَبَعَاتِ الِابْتِلَاءَ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} البقرة:153.
ونَتَعَامَلُ مَعَ هَذِهِ الدَّارِ بإِحْسَان الظَّنِّ بِاللهِ: فاعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَمْ يَبْتَلِكَ لِيُهْلِكَكَ، بَلْ لِيُقَرِّبَكَ، وإِذَا مَنَعَكَ فَقَدْ أَعْطَاكَ، لِأَنَّهُ مَنَعَكَ لِحِكْمَةٍ وَخَبَأَ لَكَ الأَجْرَ، ومن وسائل النجاح: الصَّبْرُ الجَمِيلُ: وهُوَ الصَّبْرُ الَّذِي لَا شَكْوَى فِيهِ لِلْمَخْلُوقِ، فاشْكُ بَثَّكَ وَحُزْنَكَ إِلَى اللهِ، فَالشَّكْوَى لِلَّهِ عِبَادَةٌ، وَالشَّكْوَى لِلنَّاسِ مَذَلَّةٌ، وتَذَكُّرُ دَارِ البَقَاءِ: فمَنْ عَرَفَ أَنَّ الحَيَاةَ مَحْضُ “دَقَائِقَ”، فِي عُمْرِ الخُلُودِ، هَانَ عَلَيْهِ كُلُّ مُرٍّ، وأنَّ غَمْسَةً وَاحِدَةً فِي الجَنَّةِ، تُنْسِي صَاحِبَ البَلَاءِ كُلَّ بَلَائِهِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
فلِنَجْعَلْ مِنْ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ مَنْهَجًا لِلثَّبَاتِ، فلَا تَغُرَّنَّكُمُ الدُّنْيَا إِذَا أَقْبَلَتْ، وَلَا تُحْزِنَنَّكُمْ إِذَا أَدْبَرَتْ، فكُونُوا فِيهَا كَعَابِرِي سَبِيلٍ، ووَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى أَنَّ كُلَّ حَالٍ فِيهَا إِلَى زَوَالٍ، ومَنْ نَجَحَ فِي اخْتِبَارِ الدُّنْيَا، فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْآخِرَةِ بِالسَّلَامِ، وَمَنْ خَسِرَ نَفْسَهُ فِي زِحَامِ الِابْتِلَاءِ، كَانَتِ النَّدَامَةُ حَلِيفَهُ، فلِنُجَدِّدِ الْعَهْدَ مَعَ اللَّهِ عَلَى الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، وَلْنَسْأَلِ اللَّهَ دَائِمًا الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ، فَإِنَّنَا لَا نَتَمَنَّى لِقَاءَ الْبَلَاءِ، وَلَكِنْ إِذَا نَزَلَ ثَبَتْنَا وَرَضِينَا.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.
الخُطْبَةُ الثانية (الدُّنْيَا دَارُ بَلاَءٍ وابْتِلَاءٍ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} البقرة:155. فصور الابتلاءِ في الدنيا لا تَنتهي، وهي تَطرقُ بابَ كلِّ واحدٍ منا بصورةٍ مختلفة، فمنها: الخوف: فمَن منا لم يَذق طعمَ القلقِ على الرزقِ أو المستقبل؟، ومنها: الجوع ونقص الأموال: أي ضيقُ المعيشة، وتراكمُ الديون، وخسارةُ التجارة. ومنها: نقص الأنفس: وهذا أشدُّها، بموتِ قريبٍ، أو فَقْدِ حبيب، أو مرضٍ يُقعدُ الجسد.
والسؤال: لماذا كلُّ هذا يا رب؟، والجوابُ: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} الأنفال:37. فالابتلاءُ هو “الغربال” الذي يُصفي الناس، والمؤمنُ عند البلاءِ كالقِطعةِ من الذهب، كلَّما وُضِعتْ في النارِ ازدادَتْ نقاءً وصفاءً، وأما الغافلُ فيَسخطُ ويَغضب، فيخسرُ الدنيا والآخرة.
واعلموا أنَّ الِابْتِلَاءَ لَهُ “نِهَايَةٌ”، فمَهْمَا طَالَ اللَّيْلُ فَلَا بُدَّ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَمَهْمَا اشْتَدَّ الضِّيقُ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، فاللَّهُ لَا يَبْتَلِيكَ لِيُهْلِكَكَ، بَلْ يَبْتَلِيكَ لِيَمْحَصَكَ، وَيُهَذِّبَكَ، فَإِذَا نَزَلَ بِكَ الْبَلَاءُ، فَلَا تَنْظُرْ إِلَى مَرَارَةِ الْجُرْعَةِ، بَلْ انْظُرْ إِلَى حَلَاوَةِ الْأَجْرِ، وَتَذَكَّرْ قَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ كما في صحيح البخاري: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ، وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ». فَأَيُّ كَرَمٍ بَعْدَ هَذَا الْكَرَمِ؟، أَنْ يَتَحَوَّلَ الابتلاء إِلَى حَسَنَاتٍ تَمْحُو ذُنُوبَكَ.
ومَن كانَ منكم اليومَ يمرُّ بابتلاءٍ، فليأخذْ هذه “الوصفاتِ النبوية” وهي: اليقينُ بالفرَج: فاعلمْ أنَّ الابتلاءَ سحابةُ صيفٍ ستنقشع، قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} الشرح (5)، (6). وانظر إلى مَن هو أسفلَ منك: فإذا ابتُليتَ في مالِك، فانظرْ لِمَن فقدَ صحتَه ، وإذا ابتُليتَ في صحتك، فانظرْ لِمَن فَقَدَ دِينَه، واكثر من قول: (إنا لله وإنا إليه راجعون): فهي كلمةُ الاسترجاعِ، التي بَشَّرَ اللهُ قائلِيها بالصلاةِ والرحمةِ والاهتداء.
فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الدُّنْيَا سَاعَةٌ فَاجْعَلُوهَا طَاعَةً، ولَا تَجْعَلُوا الْبَلَاءَ يَصْرِفُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، بَلِ اجْعَلُوهُ سُلَّمًا لِلْقُرْبِ مِنْهُ، ونَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنَا الصَّبْرَ عِنْدَ الْبَلَاءِ، وَالشُّكْرَ عِنْدَ الرَّخَاءِ، وَأَنْ يَجْعَلَ مَآلَنَا إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ، حَيْثُ لَا نَصَبَ فِيهَا وَلَا تَعَبَ.
الدعاء
