خطبة عن (الدُّنْيَا دَارُ بَلاَءٍ وابْتِلَاءٍ)
ديسمبر 30, 2025الخُطْبَةُ الأُولَى (ذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) (45) ق، وَقَالَ تَعَالَى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (29) ص، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء:٩]. وفي سنن الترمذي: (عن عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَلَا إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ»، فَقُلْتُ: مَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «كِتَابُ اللَّهِ، فِيهِ نَبَأُ مَا كَانَ قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ».
إخوة الإسلام
إِنَّنَا الْيَوْمَ نَقِفُ مَعَ أَعْظَمِ وَسِيلَةٍ لِإِصْلَاحِ الْقُلُوبِ، وَأَقْوَى طَرِيقٍ لِهِدَايَةِ النُّفُوسِ، إِنَّهُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ لِيَكُونَ مَنْهَجاً لِلْحَيَاةِ، وَشِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَتَذْكِرَةً لِلْعَالَمِينَ،
نَقِفُ الْيَوْمَ مَعَ الْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ الْجَازِمِ، وَالتَّوْجِيهِ الرَّبَّانِيِّ الْحَكِيمِ، الَّذِي رَسَمَ لَنَا مَعَالِمَ الطَّرِيقِ فِي مَقَامِ الدَّعْوَةِ وَالْبَلَاغِ وَالْإِصْلَاحِ؛ إِنَّهُ قَوْلُهُ جَلَّ فِي عُلَاهُ: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} (45) ق. فَلَيْسَ هُنَاكَ مَوْعِظَةٌ أَبْلَغُ مِنْ مَوْعِظَتِهِ، وَلَا زَاجِرٌ أَقْوَى مِنْ زَوَاجِرِهِ، وَلَا مُبَشِّرٌ أَنْدَى مِنْ تَبْشِيرِهِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
لِمَاذَا التَّذْكِيرُ بِالْقُرْآنِ؟، لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ نَصّاً بَشَرِيّاً، بَلْ هُوَ نُورٌ مِنَ اللَّهِ، يَنْفُذُ إِلَى أَعْمَاقِ الرُّوحِ فَيُجَلِّي ظُلُمَاتِهَا، فالتَّذْكِير بِالْقُرْآنِ يَعْنِي رَبْطَ الْخَلْقِ بِخَالِقِهِمْ، وَرَبْطَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ. وحِينَمَا نُذَكِّرُ بِالْقُرْآنِ، فَنَحْنُ نَسْتَحْضِرُ عَظَمَةَ اللَّهِ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَنَسْتَحْضِرُ مَصِيرَ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَنَسْتَحْضِرُ قَصَصَ السَّابِقِينَ لِنَعْتَبِرَ بِمَآلَاتِهِمْ، فالْقُرْآن يُخَاطِبُ الْفِطْرَةَ السَّوِيَّةَ، وَيُوقِظُ الْعَقْلَ الْغَافِلَ، وَيَهُزُّ الْوِجْدَانَ السَّاكِنَ.
إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ الْيَوْمَ يَبْحَثُونَ عَنِ السَّكِينَةِ فِي غَيْرِ مَظَانِّهَا، وَيَطْلُبُونَ الْعِلَاجَ لِأَمْرَاضِهِمُ النَّفْسِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ بَعِيداً عَنْ مَعِينِ الْوَحْيِ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ التِّرْيَاقُ الْأَوَّلُ، فعِنْدَمَا تَقْرَأُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} الرعد:28، فَأَنْتَ تُذَكِّرُ نَفْسَكَ بِالدَّوَاءِ النَّاجِعِ، وَعِنْدَمَا تَقْرَأُ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} طه:124، فَأَنْتَ تُنْذِرُهَا مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ، فالتَّذْكِيرُ بِالْقُرْآنِ يُعِيدُ تَرْتِيبَ أَوْلَوِيَّاتِ الْمُؤْمِنِ، فَيَجْعَلُ الْآخِرَةَ هَمَّهُ، وَرِضَا اللَّهِ غَايَتَهُ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
ولَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ بِهَذَا الْمَهَمَّةِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، فكَانَ يَخْطُبُ بِالْقُرْآنِ، وَيُعَلِّمُ بِالْقُرْآنِ، وَيُحَاجِجُ بِالْقُرْآنِ، وفي صحيح مسلم: (عَنْ بِنْتٍ لِحَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَتْ مَا حَفِظْتُ (ق) إِلاَّ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ بِهَا كُلَّ جُمُعَةٍ)، فهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَانَ هُوَ الْمَادَّةَ الْأَسَاسِيَّةَ لِلتَّذْكِيرِ، فَآيَاتُ الْقُرْآنِ لَهَا سُلْطَانٌ عَلَى الْقُلُوبِ، لَا يَمْلِكُهُ أَبْلَغُ الْخُطَبَاءِ، فكَمْ مِنْ آيَةٍ غَيَّرَتْ مَسَارَ حَيَاةِ رَجُلٍ؟، وَكَمْ مِنْ سُورَةٍ أَحْيَتْ قَلْباً مَيِّتاً؟!
والتَّذْكِيرُ بِالْقُرْآنِ يَقْتَضِي مِنَّا أَنْ نَتَدَبَّرَ مَعَانِيَهُ، لَا أَنْ نَهُذَّهُ هَذَّ الشِّعْرِ، فالْغَرَض مِنَ التَّذْكِيرِ هُوَ الِانْتِفَاعُ وَالْعَمَلُ، فَإِذَا ذُكِّرْتَ بِآيَاتِ الرِّبَا فَاتْرُكْهُ، وَإِذَا ذُكِّرْتَ بِآيَاتِ الصَّبْرِ فَاصْطَبِرْ، وَإِذَا ذُكِّرْتَ بِآيَاتِ الْجَنَّةِ فَاشْتَقْ وَاعْمَلْ، فالْمُؤْمِن الْحَقَّ هُوَ الَّذِي إِذَا ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ خَرَّ سَاجِداً وَمُسْتَجِيباً، هَذَا هُوَ التَّذْكِيرُ الَّذِي يَبْنِي الْأُمَمَ وَيُقِيمُ الْحَضَارَاتِ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ.
وبَعْض النَّاسِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ التَّذْكِيرَ يَكُونُ بِكَثْرَةِ الْكَلَامِ، أَوْ بِتَزْوِيقِ الْعِبَارَاتِ، أَوْ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى الْقَصَصِ الْوَاهِيَةِ، وَالْمَنَامَاتِ المفرحة، وَلَكِنَّ الْمَنْهَجَ الْقُرْآنِيَّ يُعَلِّمُنَا أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ “الْقُرْآنُ”، لذلك فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُذَكِّرُ النَّاسَ بِالْقُرْآنِ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ؛ فِي حِلِّهِ وَتَرْحَالِهِ، وفِي سِلْمِهِ وَحَرْبِهِ، وَكَانَ يَعْلَمُ يقينا أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ لَهَا وَقْعٌ أَثْقَلُ مِنَ الْجِبَالِ، أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} الحشر:21، فَإِذَا كَانَ الْجَبَلُ الْأَصَمُّ يَتَصَدَّعُ، فَكَيْفَ بِهَذَا الْقَلْبِ الْبَشَرِيِّ الرَّقِيقِ إِذَا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ التَّدَبُّرِ؟
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
واعلموا أنَّ التَّذْكِيرَ بِالْقُرْآنِ يَشْمَلُ جَوَانِبَ الْحَيَاةِ كُلَّهَا: فَنُذَكِّرُ بِالْقُرْآنِ فِي مَقَامِ التَّوْحِيدِ، لِنَمْلَأَ الْقُلُوبَ تَعْظِيماً لِلَّهِ وَتَوَكُّلاً عَلَيْهِ، وَنُذَكِّرُ بِالْقُرْآنِ فِي مَقَامِ الْأَخْلَاقِ، لِنَبْنِيَ أُمَّةً تَتَمَسَّكُ بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَالْعَدْلِ، وَنُذَكِّرُ بِالْقُرْآنِ فِي مَقَامِ الْفِتَنِ، لِنَجِدَ الْمَخْرَجَ وَالنُّورَ وَالثَّبَاتَ، وحِينَمَا تَضِيقُ بِكَ السُّبُلُ فذَكِّرْ نَفْسَكَ بِقَوْلِهِ تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} الزمر:36. وَحِينَمَا تَتَكَالَبُ عَلَيْكَ الْهُمُومُ، فذَكِّرْ نَفْسَكَ بِقَوْلِهِ تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} الشرح (5)، (6). فهَذَا هُوَ التَّذْكِيرُ الَّذِي يَمْنَحُكَ الْقُوَّةَ لِمُوَاجَهَةِ أَعْبَاءِ الْحَيَاةِ بِرُوحٍ مُؤْمِنَةٍ صَابِرَةٍ.
وإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ جِنَايَاتِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ، أَنْ يَهْجُرَ هَذَا التَّذْكِيرَ بالقرآن، وَالْهَجْرُ أَنْوَاعٌ: هَجْرُ التِّلَاوَةِ، وَهَجْرُ السَّمَاعِ، وَلَكِنَّ أَخْطَرَهَا هُوَ هَجْرُ “التَّدَبُّرِ وَالتَّذَكُّرِ، والتَّذْكِير بالقرآن”.
إِنَّ هذا الْقُرْآنَ لَمْ يُنْزَلْ لِيُوضَعَ عَلَى الرُّفُوفِ، أَوْ لِيُتْلَى فِي الْمَآتِمِ فَحَسْبُ، بَلْ أُنْزِلَ لِيَكُونَ حَيّاً فِي ضَمَائِرِنَا، مَوْجُوداً فِي تَعَامُلَاتِنَا، فَإِذَا ذُكِّرَ التَّاجِرُ بِآيَاتِ الْوَيْلِ لِلْمُطَفِّفِينَ، وَذُكِّرَ الْمُوَظَّفُ بِآيَاتِ الْأَمَانَةِ، وَذُكِّرَ الْحَاكِمُ بِآيَاتِ الْعَدْلِ؛ اسْتَقَامَتِ الْأَحْوَالُ وَصَلُحَ الْبَالُ، فالْمُجْتَمَع الَّذِي يَجْعَلُ الْقُرْآنَ مُذَكِّراً لَهُ، هُوَ الْمُجْتَمَعُ الَّذِي يَنْعَمُ بِالْأَمْنِ وَالرَّخَاءِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
والتَّذْكِيرُ بِالْقُرْآنِ مَسْؤُولِيَّةٌ مُلْقَاةٌ عَلَى عَاتِقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا، بِمِقْدَارِ مَا يَعْلَمُ، فَالْمُثَقَّفُ فِي طَرِيقِهِ، وَالْمُعَلِّمُ فِي مَدْرَسَتِهِ، وَالْأَبُ فِي مَنْزِلِهِ؛ كُلُّهُمْ مَعْنِيُّونَ بِقَوْلِهِ: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ}، ولَيْسَ بِالشَّرْطِ أَنْ تَكُونَ عَالِماً مُتَبَحِّراً لِتُذَكِّرَ، بَلْ يَكْفِي أَنْ تَنْقُلَ آيَةً وَاحِدَةً بِيَقِينٍ وَإِخْلَاصٍ، ففي صحيح البخاري: (أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «بَلِّغُوا عَنِّى وَلَوْ آيَةً)، فَلَعَلَّ اللَّهَ يَهْدِي بِهَا قَلْباً كَانَ مَيِّتاً فَأَحْيَاهُ، ففي صحيح البخاري: (أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: (فَوَاللَّهِ لأَنْ يُهْدَي بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ»، فلنَجْعَلْ مَجَالِسَنَا عَامِرَةً بِهَذَا التَّذْكِيرِ، بَدَلاً مِنْ مَجَالِسِ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَاللَّغْوِ الَّذِي لَا طَائِلَ مِنْهُ.
واعلموا أنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَيَّدَ الِانْتِفَاعَ بِهَذَا التَّذْكِيرِ بِقَيْدٍ عِظِيمٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}. وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ الْقُرْآنَ كَالْمَطَرِ، لَا تَنْتَفِعُ بِهِ إِلَّا الْأَرْضُ الطَّيِّبَةُ، فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ مُغْلَقاً بِالشَّهَوَاتِ، أَوْ مُتَكَبِّراً عَنِ الْخُضُوعِ لِلْحَقِّ، فَلَنْ يَزِيدَهُ التَّذْكِيرُ إِلَّا نُفُوراً، وَأَمَّا الْقَلْبُ الَّذِي يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ، وَيَخَافُ مَقَامَهُ، فَإِنَّهُ يَهْتَزُّ وَيَرْبُو وَيَخْضَرُّ لِكُلِّ آيَةٍ تُتْلَى عَلَيْهِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.
الخُطْبَةُ الثانية (ذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
إِنَّ التَّذْكِيرَ بِالْقُرْآنِ هُوَ أَعْظَمُ حِمَايَةٍ لِأَجْيَالِنَا الصَّاعِدَةِ، فنَحْنُ نَعِيشُ فِي زَمَنٍ كَثُرَتْ فِيهِ الشُّبُهَاتُ، وَتَزَيَّنَتْ فِيهِ الشَّهَوَاتُ، وَصَارَ الْإِنْسَانُ عُرْضَةً لِلتَّيَّارَاتِ الْجَارِفَةِ، مِمَّا يُبَثُّ عَبْرَ الشَّاشَاتِ وَالْهَوَاتِفِ، فَمَا هُوَ الْعَاصِمُ؟، إِنَّهُ التَّذْكِيرُ بِالْقُرْآنِ، فلنُحَبِّبْ إِلَى أَبْنَائِنَا لُغَةَ الْقُرْآنِ، وَمَعَانِيَ الْقُرْآنِ، وَقَصَصَ الْقُرْآنِ، لِنَجْعَلْ مَرْجِعِيَّتَهُمْ هِيَ هَذَا الْكِتَابُ، فَإِنَّ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ فلَنْ يَضِلَّ أَبَداً.
والتَّذْكِير بِالْقُرْآنِ لَا يَنْحَصِرُ فِي أَرْوِقَةِ الْمَسَاجِدِ أَوْ مَنَابِرِ الْجُمُعَةِ فَحَسْبُ، بَلْ هُوَ وَظِيفَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ فِي كُلِّ بَيْتٍ وَمَجْلِسٍ. إِنَّ الْآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتِ مَأْمُورُونَ بِتَذْكِيرِ أَبْنَائِهِمْ بِكَلَامِ اللَّهِ، لِيَنْشَأَ الصِّغَارُ وَقَدْ خَالَطَتْ بَشَاشَةُ الْقُرْآنِ قُلُوبَهُمْ، فعِنْدَمَا نُذَكِّرُ بِالْقُرْآنِ فِي بُيُوتِنَا، فَنَحْنُ نَطْرُدُ الشَّيَاطِينَ وَنَجْلِبُ الرَّحَمَاتِ.
وتَأَمَّلُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ هَذَا الْكِتَابِ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (29) ص. فَالتَّذَكُّرُ هُوَ الثَّمَرَةُ الْعُظْمَى لِلتَّدَبُّرِ، وَأُولُو الْأَلْبَابِ هُمْ أَصْحَابُ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمْ يَأْتِ لِمُجَرَّدِ التَّلَحُّنِ، بَلْ لِلتَّغْيِيرِ وَالْبِنَاءِ.
فالتَّذْكِير بِالْقُرْآنِ يُعِيدُ فِينَا رُوحَ الْأَمَلِ، وَيُزِيلُ عَنَّا رُوحَ الْيَأْسِ، ويُذَكِّرُنَا بِأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ ،وَأَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ، وَأَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.
وتَأَمَّلُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}. فهَذِهِ الْآيَةُ تُبَيِّنُ أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالتَّذْكِيرِ مَرْهُونٌ بِخَشْيَةِ اللَّهِ، فَالْقَلْبُ الْقَاسِي كَالْحَجَرِ لَا يَنْفُذُ إِلَيْهِ الْمَاءُ، وَالْقَلْبُ الْخَائِفُ الْوَجِلُ هُوَ الَّذِي يَرْتَوِي بِمَاءِ الْوَحْيِ، لِذَا، فَقَبْلَ أَنْ تَقْرَأَ أَوْ تَسْمَعَ التَّذْكِيرَ، هَيِّئْ قَلْبَكَ لِلِاسْتِقْبَالِ، واجْعَلْ نَفْسَكَ كَالْأَرْضِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي تَنْتَظِرُ الْغَيْثَ لِتُنْبِتَ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
فمَا أَحْوَجَنَا الْيَوْمَ، وَنَحْنُ نَعِيشُ فِي عَصْرِ الضَّجِيجِ وَالْمُلْهِيَاتِ، أَنْ نَعُودَ إِلَى صَمْتِ التَّدَبُّرِ وَنُورِ التَّذْكِيرِ، فالْقُرْآنَ يَعْرِضُ عَلَيْنَا حَقَائِقَ الْوُجُودِ بِأَبْسَطِ وَأَعْمَقِ مَعْنًى، ويُذَكِّرُنَا بِأَنَّ الدُّنْيَا مَتَاعُ الْغُرُورِ، وَأَنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، ويُذَكِّرُنَا بِحُقُوقِ الْفُقَرَاءِ، وَبِعَدَالَةِ الْقَضَاءِ، وَبِوَفَاءِ الْعُهُودِ، فالتَّذْكِيرَ بِالْقُرْآنِ هُوَ حَبْلُ النَّجَاةِ الَّذِي يَعْصِمُنَا مِنَ الِانْجِرَافِ خَلْفَ الشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ.
فَلْنُجَدِّدْ عَهْدَنَا مَعَ الْقُرْآنِ، تِلَاوَةً وَسَمَاعاً وَتَذْكِيراً، ولِيَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا نَصِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فصلت:33. وَأَحْسَنُ الدَّعْوَةِ مَا كَانَ بِالْقُرْآنِ وَلِلْقُرْآنِ، فالْقُرْآنَ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، فَلْنَجْعَلْهُ شَفِيعاً لَنَا يَوْمَ نَلْقَى اللَّهَ، بِالتِزَامِنَا بِمَا فِيهِ مِنْ هُدًى وَنُورٍ، ولْنَعْزِمْ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْقُرْآنِ مَسَاحَةٌ أَكْبَرُ فِي حَيَاتِنَا، ولَا يَكُنْ حَظُّنَا مِنْهُ مَجَرَّدَ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، بَلْ لِيَكُنْ مَنْهَجاً نُذَكِّرُ بِهِ أَنْفُسَنَا عِنْدَ كُلِّ خَطْوَةٍ، فإِذَا هَمَمْتَ بِمَعْصِيَةٍ، فذَكِّرْ نَفْسَكَ بِمُقَامِكَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، وَإِذَا تَكَاسَلْتَ عَنْ طَاعَةٍ، فذَكِّرْ نَفْسَكَ بِنَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَإِذَا رَأَيْتَ بَلَاءً، فذَكِّرْ نَفْسَكَ بِقَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَصَبْرِهِمْ، فَبِالْقُرْآنِ نَحْيَا، وَبِالْقُرْآنِ نَرْتَقِي، وَبِالْقُرْآنِ نَنْجُو يَوْمَ الْعَرْضِ عَلَى اللَّهِ.
فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ، وَاجْعَلُوا الْقُرْآنَ لَكُمْ إِمَاماً وَمُذَكِّراً، وَاعْمَلُوا بِمَا فِيهِ، تَنَالُوا السَّعَادَةَ فِي الدَّارَيْنِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَمَا حَلَّ بِقَوْمٍ فَتَمَسَّكُوا بِهِ، إِلَّا أَعَزَّهُمُ اللَّهُ، وَمَا تَرَكَهُ قَوْمٌ إِلَّا أَذَلَّهُمُ اللَّهُ.
الدعاء
