خطبة عن (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ )
أكتوبر 29, 2016خطبة عن ( من دلائل القدرة والعظمة )
أكتوبر 30, 2016الخطبة الأولى ( براهين ودلائل القدرة والعظمة)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
في سنن ابي داود : (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أُذِنَ لِى أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ ».
إخوة الإسلام
حديثنا اليوم إن شاء الله تعالى : عن دلائل عظمة الله وقدرته في خلقه ، وثمار الإيمان بها : فمن أعظم ثمار الإيمان بعظمة الكبير المتعال وتعظيمه عز وجل: فرح القلب وسروره وطمأنينته؛ لأنه صرف التعظيم لمن يستحق التعظيم، وتلك هي جنة الدنيا التي من دخلها دخل جنة الآخرة. ومن عظم الله عز وجل وصفه بما يستحق من الأوصاف، وأقر بأفعاله، ونسب النعم إليه دون سواه ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53] ،ومن عظم الله تعالى؛ خضع لهيبته، ورضي بقسمته، ولم يرض بدونه عوضا، ولم ينازع له اختيارا، ولم يرد عليه حقا…وتحمل في طاعته كل مقدور، وبذل في مرضاته كل ميسور. وكلما قوي تعظيم الله تعالى في قلب العبد استصغر العبد نفسه، واستقل عمله؛ لأن الله عز وجل إذا تجلى لشيء خشع له. وإن من عظم الله تعالى عظم شريعته، وأجل أهلها وحملتها والعاملين بها؛ إذ إن إجلالهم من إجلال الله تعالى وتعظيمه. ومن عظم الله تعالى وقف عند حدوده، وامتثل أوامره، واجتنب نواهيه، وعظم شعائره قال تعالى : ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾ [الحج: 30] ، وقال تعالى : ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32]. ومن عظم الله تعالى قدم محبة الله تعالى، ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومحبة ما يحبه الله ورسوله على محبة نفسه وشهواته وأهله وولده وماله وكل محبوب؛ لأن ما قام في قلبه من تعظيم الله تعالى قضى على كل المحبوبات سواه عز وجل، فإذا دعته نفسه الأمارة بالسوء لمعصية الله تعالى من أجل محبوب يحبه، وشيء يطلبه، ردعه تعظيمه لله تعالى عن ذلك. ومن عظم الله تعالى أكثر من ذكره؛ فإن البشر لا يزالون يمدحون من يعظمون، فكيف يزعم زاعم أنه معظم لله تعالى وذكره لا يجري على لسانه إلا لمما. ومن عظم الله تعالى توكل عليه، واعتصم به، ولم يخف عظماء الخلق؛ فما في قلبه من تعظيم الله عز وجل أقوى وأمكن من المخلوقين مهما بلغت قوتهم وكثرتهم. ومن عظم الله تعالى لم يقدم على كلامه أي كلام، بل هو مستديم النظر في كتابه العظيم، تلاوة وحفظا وتدبرا وعملا، يتأمل بقراءته صفات العلي العظيم، ويستخرج حكمه من أحكامه، ورحمته وعدله في أفعاله، فلا يهجر كتاب ربه تبارك وتعالى، ولا يغمض له جفن في يومه وليلته حتى يقرأ ورده، ويرتل جزءه، واضعا نصب عينيه ،قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الحجرات: 1] ، ومهما عمل الخلق من تعظيم لله تعالى، فإنهم عاجزون عن قدر الله تعالى حق قدره، وتعظيمه كما ينبغي له أن يعظم؛ فحقه عز وجل أعظم، وقدره أكبر، ولكن المؤمنين يسعون في ذلك جهدهم، ويبذلون وسعهم؛ والعظيم لا يخيب سعيهم، ولا يضيع عملهم، ويجزيهم على قليل سعيهم أعظم الجزاء، وأجزل المثوبة، وهو الجواد الكريم قال تعالى ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الزمر: 67].
أمة الإسلام
إن الصدقَ مع الله، والأُنسَ بقُربِه لن يتوطَّدَ ولن يتأكَّدَ إلا باستِشعارِنا لعظمتِه وجلالِه في وِجدانِنا وحواسِّنا وأركانِنا، وخلجَاتنا وجَنانِنا، وأنه الله عالمُ الظواهِر والسرائر، والحسناتِ والجرائر، فننزجِرُ عن الإثمِ والمُخالفَة، ونهجُرُ الأوضارَ والمُجازَفَة. فكم من فِئامٍ من الناس غفَلوا عن صمديَّة الله ومجدِه، واستدبَروا فضلَه ورِفدَه، ورقَّت منهم القِيَمَ والدِّيانَة، فخانُوا الأمانة، وأضاعُوا الواجِبات، وبدَّدوا المسؤوليَّات. وأقوامٌ تعاطَوا المُسكِرات والمُخدِّات، ففتَكُوا بالأنفُس فتْكًا، وهتَكُوا الحُرُمات هَتْكًا، ذاهِلين عن قُدرة الله وعظَمته وبَطشِه، قال تعالى (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) [آل عمران: 28]. لأجل ذلك؛ كانت معرفةُ الله تُورِثُ محبَّتَه ومهابتَه، وخشيتَه ومُراقبَتَه، قال تعالى (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 175]. قال أبو سليمان الدَّارانيُّ – رحمه الله -: “أصلُ كلِّ خيرٍ في الدنيا والآخرة: الخوفُ من الله، وكلُّ قلبٍ ليس فيه خوفٌ من الله فهو قلبٌ خرِبٌ”. وإن معرفة عظمة الله جل وعلا توجب علينا أن نشكره ونذكره ونحمده ونستغفره ونكثر من ذكره وتعظيمه وتسبيحه جل وعلا قياما وقعودا وعلى جنوبنا دائما وأبدا وفي كل وقت نذكر الله جل وعلا ونداوم على ذكره سبحانه لأننا عرفنا عظمته وكبرياءه وجلاله، قال تعالى {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} [الإسراء: من الآية 44]، وقال تعالى {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} [الحشر: من الآية 1]، وقال تعالى {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: من الآية 44]، وقال تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: من الآية 41]، فبنو آدم أولى بذلك أن يكثروا من تسبيح الله وتعظيمه وتنزيهه، لأن ذكر الله تحيا به القلوب، قال تعالى {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، وفي الحديث: عَنْ أَبِى مُوسَى – رضى الله عنه – قَالَ ،قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « مَثَلُ الَّذِى يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِى لاَ يَذْكُرُ مَثَلُ الْحَىِّ وَالْمَيِّتِ » (صحيح البخاري). فإن مقتضى الإيمان والعلم والإدراك لعظمة الله عز وجل هي أن ينقاد العبد لله سبحانه وتعالى، وأن يسلم سمعه وبصره وفؤاده وحواسه وجوارحه لله عز وجل، وأن يتعود الانقياد والإذعان والتسليم والاستجابة والمبادرة السريعة الكاملة لأمر الله سبحانه وتعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) [الأحزاب:36] .. وقال تعالى ( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [النور:51] ،هكذا شأن المؤمن الذي يعلم عظمة ربه. فإن الناس إذا هددوا بعظيم أو وعدوا بعظيم إما أن يستجيبوا وإما أن ينزجروا، إن الحديث عن عظمة الله في علمه تقودك ألا يراك الله على معصية، وإن الحديث عن عظمة الله في سمعه تقودك ألا تنبس ببنت شفة في معصية، وإن الحديث في عظمة الله في حلمه أن تستحي من الله عز وجل وأنت تتبع الذنب الذنب وتخطئ الخطأ الجم، ولا ترعوي ولا تنتبه ولا تلتفت، وواجبك إذا أذنبت أن تبادر منكسراً ذليلاً خائفاً باذلاً للحسنات الماحية للسيئات، وإن علمك بقدرة الله تجعلك ضابطاً متحكماً في قدرتك ألا تبطش بها على أحد وألا يغرك حسبك أو نسبك أو رتبتك أو جاهك أو مكانتك. وإن علمك بعظمة الله سبحانه وتعالى في علمه تدعوك ألا تتساهل بعمل يحصى عليك: قال تعالى ( أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ) [المجادلة:6]
وإن الحديث عن عظمة الله تجعل الفرد يتأدب مع الله سبحانه وتعالى ويعرف قدر الله، ونسأل الله عز وجل أن يرزقنا الأدب معه سبحانه لكي نذكره حق ذكره، ولكي نشكره حق شكره، ولكي نقوم بما يرضيه، وإنا وايم الله لعاجزون ولكن رحمة الله التي سبقت غضبه، ورحمة الله التي وسعت كل شيء هي رجاؤنا وهي أملنا وهي متعلقنا أن تستر خلاتنا وزلاتنا وترفع درجاتنا، وتمحو سيئاتنا، وتضاعف حسناتنا، ذلك ما نرجوه أيها الأحبة.
أيها المسلمون
وإن من أعظم ما يعين العبد على تعظيم ربه: التأمل في شواهد وحدانيته ودلائل ربوبيته، مستخدمًا الفطرة السليمة التي أودعها الله -تعالى- في قلب كل أحد في أن يعبد ربه. قال الهدهد لما رأى قوم بلقيس يعبدون الشمس ويأنفون من عبادة خالقها، قال متفكرًا ومستنكرًا: (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [النمل:25-26]. فبموجب فطرته التي خلقه الله عليها أنكر هذا الطائر على بلقيس وعلى قومها ما هم عليه من السجود لغير الرب -تبارك وتعالى-. فإذا اصطحب العبد الفطرة السليمة، مع ما أفاء الله عليه به من العلم، وبما أنزله الله في كتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وتأمل في شواهد وحدانيته ودلائل ربوبيته -تبارك وتعالى-، قاده ذلك إلى العلم بالله، وإلى تعظيم الله -سبحانه وتعالى-. فالله سبحانه وتعالى الذي خلقنا من العدم، وربانا بالنعم، وهدانا بالإسلام، وذكر -تبارك وتعالى- كثيرًا من أخبار خلقه في طيات كتابه، وأخبر -جل وعلا- أنه حملنا في البر والبحر، ورزقنا من الطيبات، وما كان لنا أن نصل إلى ذلك لولا فضله -سبحانه-.
ثم أخبر أن الناس بأكبادهم الغليظة، وأنفسهم السقيمة، وعطب أرائهم العقيمة، أنهم إذا ركبوا في الفلك وأحاط بهم الموجُ مِن كُلِّ مكانٍ لجؤوا إلى الله وحده، فلما نجاهم إلى البر جعلوا لله شركاء وأندادًا يعبدونهم، قال -تعالى-:
(وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً * أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا) [الإسراء:67-69] وأخبر -سبحانه- أنه يزجي السحاب ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركامًا، أخبر -سبحانه- أنه يمسك السماوات والأرض أن تزولا، وكل ذلك من أجل أن يربطك به، وأن يرسخ في قلبك ووجدانك تعظيمه -سبحانه-. وأخبر -سبحانه- بأنه هو الخالق وكل من سواه مخلوق، قال -سبحانه وتعالى- منكرًا على المشركين: (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [النحل:17]؟! ولما غابت هذه الحقيقة عن كفار قريش، جاء العاص بن وائل السهمي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي يده عظام قد أرمت، ثم نفث فيها في يوم رائح، ثم قال: يا محمد: أتزعم أن ربك يحيي هذه بعدما أرمت؟! أي: بعدما أصبحت عظمًا باليًا؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-، وهو المبلِّغُ عن ربه: “نعم، يميتك الله، ثم يحييك، ثم يبعثك، ثم يدخلك النار”. فأنزل العلي الأعلى قوله: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس:77-79]. فغاية الأمر أن يعلم أن التأمل في شواهد وحدانيته ودلائل ربوبيته يدل على عظمته -سبحانه وتعالى-؛ وبالتالي يستقر في القلوب وفي العقول أن الله -جل وعلا- عظيم القدر، جليل الشأن. ومن الطرائق التي يصل بها المرء إلى أن يعظم ربه -جل وعلا- حق التعظيم: التأمل في سِيَر الصالحين وأخبار السابقين ممَّن ذكر الله -جل وعلا- أنهم عرفوا قدره وعظَّموه حق التعظيم، قال الله -تبارك وتعالى- عن نموذجٍ من أولئك المعظمين له: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [آل عمران:35]. وأهل الله المحبون له، المعظِّمون له، يتدرجون في حظوظهم، يبدؤون من الحظ المباح، ثم ينتقلون إلى أعلى الفلاح، فهذه امرأة كان همها أن يكون لها ولد، رأت طيرًا يطعم فرخه فحنت إلى الولد فطرة، فسألت ربها أن تحمل، فرزقها الله الولد، فلما اطمأنت على أنها رزقت حملاً دون أن تدري أيكون ذكرًا أم أنثى، بدأت تتخلى عن حظها المباح، وتتدرج إلى أعالي الفلاح، فنذرت ما في بطنها أن يكون لله قائلة: (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) [آل عمران:35]. والمعنى: إن حظي من الولد ومن بهجة النفس والأنس والخدمة والنصرة لا أريده ولا أحتاجه، لكنني أبتغي من هذا الولد أن يكون خادمًا لك في بيتك، فانتقلت من حظ مباح وهو رغبتها في الولد، إلى أن تجعل من ابنها أن يكون خادمًا لله -جل وعلا- في مسجده. فما يريده الوالدان من أبنائهم لا تريده، تريد من ابنها أن يكون خادمًا للرب، وهذا أمر ليس مفروضًا عليها؛ بل قد لا يرقى إليه أحد في زماننا، لكن المقصود التنبيه على أن لله عبادًا فطرهم الله -جل وعلا- على تعظيمه ومحبته، وعلى إيثار ربهم -جل وعلا- على كل أحد، فقال الله عنها، قالت: (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) [آل عمران:35]، أي: خالصًا.
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا إذا بها تصاب بالدهشة، فالمولود أنثى، وهو أمر متوقع؛ لكن كان انصراف ذهنها في الأول إلى أن يكون المولود ذكرًا، فلما كان أنثى، قالت معتذرة إلى ربها: (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى) [آل عمران:36]، فلما فاتها أن يكون ذكرًا، وليس هذا بيدها، لجأت للشيء الذي بيدها وهو التسمية، فسمَّتْهَا: مريم، بمعنى خادمة، فلما فات حظها من كونه ذكرًا، ما أرادت أن يفوت حظها من الاسم. هذا نموذج ذكره الله -جل وعلا- من بيوت صالحات، أصحاب أعمال زاكيات، كيف أن قلوبهم فُطِرَتْ وجُبِلَتْ على تعظيم ربهم -جل وعلا-.
وعلى هذا نقول: إن التأمل في سير الصالحين وأنباء السابقين يعين على أن يعظم العبد ربه –تبارك وتعالى-، ويعرف ما لله -جل وعلا- من كمال الجبروت، وجلال الملكوت، وجميل النعوت. من الطرائق إلى تعظيم الرب -تبارك وتعالى-: التأمل والتدبُر في أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فإن الله يقول: (وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ) [الأعراف:180]. فربنا -تبارك وتعالى- له الاسم الأعظم، والوجه الأكرم، والعطية الجزلى، لا يبلغ مدحته قول قائل، ولا يجزي بآلائه أحد. قال القرشيون لنبينا -صلى الله عليه وسلم-: يا محمد: انسب لنا ربك -تعالى الله عن ذلك-؛ فأنزل الله: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [سورة الإخلاص].
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( براهين ودلائل القدرة والعظمة)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومن الطرائق التي يصل بها المؤمن إلى تعظيم الله: أن يعلم الضعف في العباد؛ فإن رؤيتك للنقص في الخلق تسوقك لأن ترى الكمال في الخالق. فقد شج رأس نبيكم -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد، وسال الدم على وجهه حتى يرى الناس وجه نبيهم -صلوات الله وسلامه عليه- وهو يعتريه ما يعتري وجوه المخلوقين، فيقع في القلوب والعقول أن الوجه الذي لا يحول ولا يزول هو وجه الله الحي القيوم. ويرى الإنسان النقص حتى في الملائكة، يقول الله -جل وعلا- عنهم بلسان مقالهم: (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات:164]، ويقول جبريل: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) [مريم:64]، فنحن وإن كنا ملائكة كرامًا، وخلقًا عظامًا، لنا ما لنا من المنزلة والقوة فإن لنا مقامًا لا نتعداه ولا نتجاوزه ، ولا نملك لأنفسنا حولاً ولا طولاً ولا قوة حتى في تنزلنا من السماء إلى الأرض، وهي بالنسبة لهم أمر هين كطرائقنا المعتادة التي نسير عليها، إلا أنه لا يمكن أن يقع إلا بأمر من الله وإذن منه. والمقصود: إن رؤية النقص في الخلق يدل العبد على كمال خالقه -تبارك وتعالى-. يفتن المسلمون بنبيهم -صلى الله عليه وسلم-، ينصر بالرعب مسيرة شهر، يصيب الوجل والخوف أعداءه، ومع ذلك يأتيه الموت وهو على فراشه -صلوات الله وسلامه عليه-، ويرى السواك فلا يقدر أن يتكلم، وهو إمام الكلام، وإمام البيان، وإمام الفصاحة، لا يقدر أن يقول: أعطوني السواك، يرينا الله الضعف في نبيه حتى نرى كمال القوة في ربنا -جل وعلا-. فإذا كان هذا حال سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- فكيف يكون حالُ مَن دونه؟! ولهذا قال الله: (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:74]. مما يزيد المؤمن تعظيمًا لربه رؤيته لأفضال ربه على خلقه، ذلك الفضل الخاص، لأن التفضل أنواع، هناك الفضل العام على سائر العباد والمخلوقين، وهناك الفضل الخاص الذي تفضل به على بعض خلقه، كيف أن الله –جل وعلا- اصطفاهم واجتباهم وأيدهم بالخوارق والمعجزات، وما كان لهم أبدًا أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه من العطاء، ولا أن ينالوا هذه المنح الربانية والمنح الإلهية إلا بفضل الله -جل وعلا-. واختلف الناس في المسيح عيسى ابن مريم، شرقوا فيه وغربوا، قالت فيه اليهود ما قالت، وزعمت النصارى فيه ما زعمت، قال الله عنه: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) [الزخرف:59]. فما المسيح إلا عبدٌ؛ لكنه قيد بأن الله –جل وعلا- أنعم عليه، فنعمة الله عليه هي التي جعلته آية للناس، محتفى به في الأرض والسماوات العلى. ويرى العبد ما أفاء الله على خليله إبراهيم، وكيف أن إبراهيم كان عبدًا مجتبى، وحبيبًا مصطفى، ونبيًّا مرتضى، أثنى الله عليه حتى على ألسنة أعدائه وخصومه، وقبل أن تبحر في معرفة فضل إبراهيم وعلو منزلته اعلم أولاً أن الله -جل وعلا- هو الذي تفضل عليه، ونظير ذلك أن تنظر فيمن آتاهم الله القدرة في مال أو جاه أو ملك أو قوة، فتعلم أن ربك هو الذي تفضّل عليهم، وأنه هو القوي ذو الملك والملكوت، والعزة والجبروت. وقال الله –جل وعلا- على لسان نبيه سليمان: (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) [النمل:39-40]، وهذا هو شأن العارفين العالمين المقربين، يرون فضل ربهم في كل أمر وفي كل حين. وإذا كانت لمخلوق قدرة في أن يأتي بعرش بلقيس من أرض اليمن إلى أرض فلسطين في أقل من طرفة عَين؛ فكيف بقدرة الله -جل جلاله-؟! هذا مما يقود العبد ويسوقه ويشوقه لمعرفة بعض العلم عن ربه -تبارك وتعالى-. ومن الطرائق التي يعلم بها العبد عظمة ربه: أن يتأمل في كلامه -جل وعلا-: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [الإسراء:88]؛ فالقرآن تحدى الله به بلاغة البلغاء، وفصاحة الفصحاء. قالوا: إن أبا العلاء المعري الأديب اللغوي المعروف كان آية في الفهم والذكاء والحفظ، فقد كان يحفظ أشعار العرب، وكثيرًا من مفردات لغتها وأيامها وتاريخها، فبدا له لما وصل إلى هذه المرحلة أن ينازع القرآن، وأن ينشئ قرآنًا يكتبه يضاهي به كلام الله، فكتب أبياتًا ختمها بقوله: إن الموت لا يبطئ والخلد في الدنيا لا يجوز. ثم تذكر عظمة الله، فتلا قول الله -جل وعلا-: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود:103-105]، فجثا على ركبتيه، وبكى بكاءً طويلاً، ثم رفع بصره وقال: “سبحان من هذا كلامه! سبحان من تكلم بهذا في القدم!”. اعترف بالعجز التام أمام كلام ربنا -تبارك وتعالى-. وأصدق منه خبرًا قول الله: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) [الإسراء:88].
أيها المسلمون
ومن امارات وعلامات تعظيم العبد لربه : فإن أعظم تلك الأمارات توحيد الله؛ فإن من وحّد الله فقد عرف قدره، فتوحيد الله -جل وعلا- الحسنة التي ليس بعدها حسنة، كما أن الشرك السيئة التي ليس بعدها سيئة، ولا مصلحة بعد التوحيد، ولا مفسدة بعد الشرك، فما عرف عظمة الله من حلف بغير الله، وما عرف عظمة الله من ذبح لغير الله، ومن أتى السحرة والعرَّافين والكهان، وما عرف عظمة الهر من تعلق بالأبراج، وما عرف عظمة الله من استغاث بالأحجار والأشجار والقبور وغير ذلك. ثم تأتي بعد ذلك أمور في سلوك المرء وفي الحياة تدل على تعظيمه لربه -تبارك وتعالى-، ومنها على سبيل الإجمال والطريقة السردية لا الطريقة التفصيلية: الوجل، الوجل عند ذكر الرب -تبارك وتعالى-؛ فإن وجل القلوب عند ذكر علام الغيوب من دلائل معرفة العبد بعظيم قدر ربه. ومن الدلائل كذلك حب المجالس التي يذكر فيها الله ويثنى عليه فيها بما هو أهله، فمن وجد في نفسه حبًّا وشوقًا لتلك المجالس فهو -إن شاء الله- من المعظمين لله. ومن دلائل تعظيم العبد لربه امتثاله لأوامر ربه والوقوف عند حدوده -سبحانه جل وعلا-، فمثلاً: ربك العظيم يريد أن يراك في صلاة الفجر في جماعة، فإذا تخلفت عن ذلك فأنت غير معظم لربك، فو الله الذي لا رب سواه، غير معظِّمٍ لربه عبد دعاه مولاه لصلاة الفجر فآثر النوم وفضّل الوسادة على لذة المناجاة والعبادة.
وغير معظِّم لربه من أصر على التعامل بالربا مع علمه بأن ربه حرمه وذكر أن صاحبه محاربٌ له: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة:278-279]. وغير معظِّم لربه من يحلف بالله كاذبًا، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال، قال -صلى الله عليه وسلم-: “إن الله -عز وجل- أذن لي أن أحدث عن ديك قد مرقت رجلاه الأرض ورأسه مثنية تحت العرش وهو يقول: سبحانك ما أعظمك ربنا! فيُرَدّ عليه: ما يعلم ذلك من حلف بي كاذبًا”. والحديث صححه الألباني. وغير معظِّم لربه من عقَّ والديه وغفل عنهما وعن خدمتهما؛ لأن من تعظيم الله تعظيم ما عظم -سبحانه-، والله عظّم شأن الوالدين، ورفع قدرهما، فما أبعد من يقدّم زوجته على أمه، وصديقه على والده، ما أبعده عن تعظيم الله -تعالى-! وغير معظِّمة لربها أمّة ترى الظلم ولا تغيره ولا تستنكره ولا تقف في وجه الظالم، قال -صلى الله عليه وسلم-: “إذا هابت أمتي أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تودّع منهم”، يعني انتهوا. وأمتنا اليوم ترى ظالم الشام وفرعونها يتجبر على العباد، ويواصل القتل والسفك والذبح، ولا تتخذ الإجراءات لردعه، في صورة غامضة تحيلك على ألوان من الحيرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله
الدعاء