خطبة عن ( عظمة الله وقدرته في خلقه )
أكتوبر 30, 2016خطبة عن ( حَرْثَ الدُّنْيَا وحَرْثَ الْآخِرَةِ)
أكتوبر 31, 2016الخطبة الأولى ( من دلائل عظمة الله وقدرته في خلقه )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (67) الزمر،وقال تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (164) البقرة، وقال تعالى : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (24) الروم ، وفي معجم الطبراني :(عن بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم تفكروا في آلآء الله ، ولاتتفكروا في الله )
إخوة الإسلام
في عصرٍ طوَّقَت الإنسانَ فيه فتنُ الماديَّات والنظريَّات، واختلَجَتْه فيه عِلَلُ الأفكار والشُّبُهات، تتبدَّى قضيَّةٌ بلْجاءُ كفَلَق الصباح، تبعثُ في النفوس النورَ والانشِراحَ، قضيَّةٌ ربَّانيَّةٌ بديعة، لشَدَّ ما هي عظيمةٌ رفيعةٌ. تلكم – هي عظمةُ الله وآياتُه، وقدرتُه وصفاتُه، التي نرشُفُ منها حلاوةَ الإيمان، وبردَ الاطمِئنان، وبها تُدرِكُ أرواحُنا مثوبَةَ الرحمن: جناتٍ وأنهارًا، وفي الدنيا وأًنسًا به واستِبشارًا، قال تعالى:(مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) [نوح: 13، 14]. قال فيها ابن عباس – رضي الله عنهما -: “ما لكم لا ترَونَ عظمةَ الله – سبحانه ،وقال سعيدُ بن جُبيرٍ – رحمه الله -: “ما لكم لا تُعظِّمون اللهَ حقَّ تعظيمه”. هكذا أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نتفكر في آلائه وقدرته وعظمته ، لنزداد إيمانا ويقينا، وخشية وحبا وقربا ، ونسارع إلى الخيرات نتعبد بها لله رب الأرض والسموات ،فمن تفكر في عظمة الله ، ازدادت خشيته من الله . فها هم رسل الله عليهم السلام لما علموا عظمة العظيم؛ نصبوا في عبادته ودعوا أقوامهم إلى خشيته، وخوفوهم من نقمته، فأولهم نوح عليه السلام قال لقومه :﴿ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا* وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴾ [نوح: 13، 14] :أي: ما لكم لا ترون لله تعالى عظمة. وهذا خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم خاطبه ربه عز وجل فقال: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) الواقعة (74) ،وفي مسند أحمد وغيره (عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ يَقُولُ َمَّا نَزَلَتْ : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ ».فَلَمَّا نَزَلَتْ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) قَالَ « اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ ». وكان عليه الصلاة والسلام يكثر من تعظيم ربه عز وجل وتسبيحه في ركوعه وسجوده، وفي كل أحيانه ، ففي الصحيحين (عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ « سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي » يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ)
فالله سبحانه وتعالى عظيم شأنه ، رفيع قدره ، أوجَد العبادَ من العدَم وأمدَّهم بالنعم، وكشفَ عنهم الكروب والخُطوب،
والفِطَرُ السليمةُ تحبُّ من أنعمَ وأحسنَ إليها، وحاجةُ النفوس إلى معرفة ربها أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب والنَّفَس، ولا سعادة في الدنيا والآخرة إلا بمعرفة الله ومحبته وعبادته، وأعرفُ الناس به أشدُّهم له تعظيمًا وإيمانًا، وعبوديةُ القلب أعظمُ من عبودية الجوارح وأكثرُ وأدوَم، فهي واجبةٌ في كل وقت، وأعمالُ الجوارح لإصلاح القلب وتعظيم الله. قال ابن القيم – رحمه الله -: “والله يُنزِل العبدَ من نفسه حيثُ يُنزِلُه العبدُ من نفسه، وإذا عرفَ المخلوقُ ربَّه اطمأنَّت إليه نفسُه وسكنَ إليه قلبُه، ومن كان بالله وصفاته أعلمَ كان توكُّله أصحَّ وأقوى، وكان منه أخوَف”.
وأكملُ الناس عبوديةً: المُعظِّمُ لله المُتعبِّدُ له بجميع أسمائه وصفاته، والله – سبحانه – له من الأسماء أحسنُها، وأسماؤه مدحٌ وتمجيد، وله من الصفات أكملُها وأعلاها، وصفاتُه صفاتُ كمال. وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ « سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ » رواه النسائي وغيره . فله سبحانه وتعالى الكمالُ المُطلقُ في كل شيء؛ لذا كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: « لاَ أُحْصِى ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ ». رواه مسلم. وجميعُ من في السماوات ومن في الأرض يُنزِّهون الله عن كل عيبٍ ونقصٍ، قال – سبحانه -: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (1) الحشر وكلُّهم يسجُد له؛ قال – عز وجل (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (83) آل عمران ، وله – عز وجل – الخلقُ والأمرُ وحده، وأتقنَ ما صنَعَ ، وأبدَعَ ما خلق، وقدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، والحكمُ حكمُه ولا يشرَكه في ذلك أحد، لا رادَّ لقضائه، ولا مُعقِّب لحكمه، حيٌّ لا يموت، جميعُ الخلق تحت قهره وقبضته، يُميتُهم ويُحييهم، ويُضحِكُهم ويُبكِيهم، ويُغنيهم ويُفقِرُهم، ويُصوِّرُهم في الأرحام كيف يشاء، سبحانه، قال تعالى ( مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ) [هود: 56]، يُدبِّرُها كيف شاء، وقلوبُ العباد بين أُصبعَيْه يُقلِّبُها كيف شاء، ونواصيهم بيده، وأزِمَّةُ الأمور معقودةٌ بقضائه وقدَره، لا يُنازِعُه مُنازِع، ولا يغلِبُه غالب. ففي سنن الترمذي بسند صحيح (وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ » ،فسبحانه سبحانه ، لا رادَّ لعذابه إن نزل، ولا رافع له إن حلَّ سواه، يخلق ما يشاء ويختار ، ويفعل ما يُريد، لا يُسأل عما يفعل ،والخلقُ يُسألون، قائمٌ بنفسه، مُستغنٍ عن خلقه، ومُهيمنٌ عليهم جميعًا، مفاتيحُ الغيب عنده لا يعلمُها إلا هو، وأخفَى علمَها حتى عن الملائكة، هو ملكٌ عظيم يُدبِّر أمرَ عباده، يأمرُ وينهَى، ويُعطِي ويمنع، ويخفِضُ ويرفع،أوامرُه مُتعاقبةٌ على تعاقُب الأوقات، نافذةٌ بحسب إرادته ومشيئته، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن، قال تعالى ( يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) [الرحمن: 29]. هو سبحانه عظيم رحيم كريم عليم حكيم ، يُفرِّج كربًا، ويجبِر كسيرًا، ويُغنِي فقيرًا، ويُجيبَ دعوةً، قال عن نفسه: قال تعالى (وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ) [المؤمنون: 17]. علمُه وسِعَ كل شيء، يعلمُ ما كان وما يكون وما لم يكن، لا تتحرَّك ذرَّةٌ فما فوقها إلا بإذنه، ولا تسقط ورقةٌ إلا بعلمه، لا تخفى عنده خافية، استوى عنده السرُّ والعلانية، قال – سبحانه -:( سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ) [الرعد: 10]. يسمعُ أصواتَ المخلوقين وهو على عرشه، روى أحمد وغيره (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِى وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- تُكَلِّمُهُ وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ مَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) إِلَى آخِرِ الآيَةِ [المجادلة: 1]. وأفعالُ العباد في ظُلمة الليل البَهيم لا تخفى عليه، قال – جل شأنه -: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) [الشعراء: 218، 219]،
ويرى وهو فوق سماواته دبيبَ النملة السوداء، على الصخرة الصمَّاء، في الليلة الظلماء. خزائنُه ملأى في السماوات والأرض، ويَداه مبسوطتان بالسخاء، سحَّاءُ الليل والنهار يُنفِقُ كيف يشاء، كثيرُ العطاء واسعُ الجُود، يُعطِي قبل السؤال وبعده، وينزل إلى السماء الدنيا كل ليلةٍ في الثُّلث الأخير من الليل ويقول: «من يسألني فأُعطيَه»، ومن لم يسأله يغضَب عليه. وأبوابُ عطائه فتحَها لخلقه فسخَّر بحارًا وأجرى أنهارًا وأدرَّ أرزاقًا، ساق للخلق أرزاقهم؛ فرزَقَ النملة في قرار الأرض، والطيرَ في الهواء، والحيتان في الماء، ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) [هود: 6]، ورزقُه وسِع الجميع؛ فساق إلى الجنين رزقَه وهو في رحِمِ أمه، وإلى الجلْد القوي في مُلكه، كريمٌ يحبُّ العطاء والكرم، إذا سُئِل أعطى، وإذا رُفِعت إلى غيره حاجة لا يرضى، وكل خيرٍ فهو منه، (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ) النحل: 53. سبحانه فهو العظيم الكريم، رِزقه لا ينفَد، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-« إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِي أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ ». وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يَمِينُ اللَّهِ مَلأَى لاَ يَغِيضُهَا سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُذْ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِى يَمِينِهِ ». قَالَ « وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الأُخْرَى الْقَبْضُ يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ ».رواه مسلم. ولو سأله العبادُ جميعًا فأعطاهم ما سألوه ، لم ينقص ذلك من مُلكه شيئًا، قال النبي – صلى الله عليه وسلم – كما في الحديث القدسي : « يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ »؛ رواه مسلم. فهو العظيم الكريم ، الثوابُ على العمل يُضاعِفُه، والحسنةُ عنده بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضِعفٍ إلى أضعافٍ كثيرة، والقليلُ من زمن الطاعة يُكثِّره؛
فليلةُ القدر خيرٌ من ألف شهر، وصيامُ ثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ كصيام الدهر، وإذا أنفق العبدُ مالاً ابتغاءَ وجهه ردَّه له أضعافًا مُضاعفة. ويزيدُ في السخاء فوق المُنَي، فأعطى أهل الجنة فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أُذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وإذا ترك العبدُ شيئًا من أجله عوَّضه خيرًا منه. وهو عظيم غنيٌّ عن جميع خلقه، وكل شيءٍ مُفتقِرٌ إليه، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) [فاطر: 15]، فلا يبلغُ العبادُ نفعَه فينفعوه، ولا ضُرَّه فيضرُّوه، هو عليٌّ كبير، الكرسيُّ موضع قدمَيْه – سبحانه -، وقد وسِعَ الكرسيُّ السماوات والأرض، والسماوات السبع في الكرسي كدراهم سبعةٍ أُلقِيَت في تُرسٍ، والكرسيُّ في العرش كحلقةٍ من حديدٍ أُلقِيت بين ظهرَيْ فلاةٍ من الأرض، وعرشُه أعظم مخلوقاته، وتحت العرش بحرٌ ويحملُ العرشَ ملائكةٌ ما بين شحمة أُذن أحدهم إلى عاتقه مسيرةُ سبعمائة عامٍ. وربُّنا مُستوٍ على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته، وهو مُستغنٍ عن العرش وما دونه، مُحيطٌ بكل شيء، ولا يُحيطُ به شيءٌ، ويُدرِكُ الأبصارَ والأبصارُ لا تُدرِكُه، وقدرتُه شملَت جميع مخلوقاته، وهي ضعيفةٌ عنده وإن كبُرت في أعين المخلوقين؛ فالسماوات يطويها – سبحانه – يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى ، ففي صحيح مسلم « يَطْوِى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ السَّمَوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ ثُمَّ يَطْوِى الأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ ». وفي الصحيحين (أن عَلْقَمَةَ يَقُولُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ ، وَالأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ ، وَالشَّجَرَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ ، وَالْخَلاَئِقَ عَلَى إِصْبَعٍ ، ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْمَلِكُ . فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ثُمَّ قَرَأَ ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ )، وإذا تكلَّم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة وصعِق أهلُ السماء، وأول من يفيقُ جبريل، والسماوات تخشاه، قال – عز وجل -: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ ) [الشورى: 5]. قال الضحاك – رحمه الله -: “أي: تكاد السماوات يتشقَّقن فرَقًا من عظمة الله”؛ أي: خوفًا منه. وهو عظيم قيُّومٌ لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، كما في صحيح مسلم « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَنَامُ وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجَابُهُ النُّورُ – وَفِى رِوَايَةِ أَبِى بَكْرٍ النَّارُ – لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ » ،الأمرُ يُدبِّره من السماء إلى الأرض ثم يعرُجُ إليه، قال تعالى (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [لقمان: 27] ،هو سبحانه قويٌّ لا يُعجِزُه شيء، إذا أراد شيئًا قال له: كن، فيكون، وأمرُه كلمحِ البصر بل هو أقرب، وله جنودٌ لا يعلمها أحدٌ سواه، قلَبَ قُرى قوم لوطٍ وجعل عاليَها سافلَها، ولما امتنع بنو إسرائيل عن قبول ما في التوراة رفع جبلاً فوق رؤوسهم كأنه ظُلَّةٌ وظنُّوا أنه واقعٌ بهم، وتجلَّى – سبحانه – لجبلٍ فجعله دكًّا، ولما رأى موسى ذلك خرَّ صعِقًا. هو سبحانه عظيم قدير ، الأرضُ إذا انقضى الدهرُ يرُجُّها رجًّا، ويدُكُّها دكًّا، وينسِفُ الجبالَ نسفًا، وبنفخةٍ واحدةٍ في الصور ينفُخ فيه إسرافيل يفزعُ الخلق، وبنفخةٍ أخرى يُصعَقون، وبثالثةٍ يقومون للحشر. وإذا نزل – سبحانه – لفصل القضاء تشقَّقَت السماءُ لنزوله تعظيمًا له وخشية، والله – سبحانه – فوق ما يصِفُه الواصِفون ويمدحُه المادِحون، لا نِدَّ له ولا نظير، ولا شبيهَ له ولا مثيل، عرفَ الرسلُ ربَّهم فأكثَروا له التذلُّل والتعبُّد والخضوع، فكان داود – عليه السلام – يصوم يومًا ويُفطِر يومًا، ونبيُّنا محمد – صلى الله عليه وسلم – يقوم الليل حتى تتفطَّر قدماه، وإبراهيمُ أوَّاهٌ لربه مُنيب، ومن سلك غيرَ نهج الأنبياء فقد ضلَّ سواء السبيل.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( من دلائل عظمة الله وقدرته في خلقه )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
إن إبداع هذا الكون وتناسقه قد أوجدته يدٌ حكيمة، أحكمت صُنعه بحيث يجري وفق نظام دقيق للغاية، فشكَّلت من ذلك الإحكام لوحات رائعة تحمل في طياتها أجمل صور الإبداع وألوانه، ممَّا يهدي المتأمِّل فيها إلى قدرة الله، فتتفجَّر ينابيع التسبيح والإقرار بتلك العظمة والقدرة من قلبه على لسانه. ـ لقد كرَّم الله تعالى الإنسان بالعقل، وهيّأ له السُّبل كي يبحث في هذا الكون بالنظر والتأمُّل والتفكُّر. ـ كلُّ ما في هذا الكون يجذب النفوس للإيمان، حتَّى إذا جاءها نداء الأنبياء، محرِّكـاً كوامن عقولها وقلوبها، استجابت لما يُحييها ويُسعِدها، قال تعالى: {يا أيُّها الَّذين آمنوا استَجيبُوا لله وللرَّسول إذا دعاكم لما يُحْيِيكُمْ..} (8 الأنفال آية 24). ولو عمدنا إلى إحصاء ما خلقه الله تعالى من نجوم وكواكب ومجرَّات وعوالم لما استطعنا إليه سبيلا، ولو أردنا معرفة ما يحتويه من الكائنات؛ لاستغرق ذلك آلاف السِّنين وملأ ملايين المجلَّدات دون أن نبلغ غايتنا. ولذلك يُنَحِّي سبحانه وتعالى كلَّ عظيم من مخلوقاته جانباً، ويختار الذُّبابة الضئيلة الحجم والمكانة، ويطرح علينا سؤالاً منطقياً مُعجزاً: هل يستطيع من ألَّهناهم وقدَّسناهم من دون الله ـ مجتمعين متكاتفين ـ أن يخلقوا واحدة مثلها؟ ، قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (74) الحج ، والجواب: إنهم أضعف وأقلُّ شأناً من أن يخلقوا ذبابة واحدة وهم الأحياء العقلاء! فكيف بالأصنام الحجريَّة الصمَّاء الَّتي كان الوثنيون يعبدونها؟. لقد أراد الله بهذا المثل أن يثبت عجز تلك الأرباب المُدَّعاة، والَّتي كان الناس يتَّخذونها آلهة من دون الله، في صورة مثال معروض للأسماع والأبصار. فخلْقُ الذباب من قِبل أيٍّ من المخلوقات مستحيل، مثله مثل خلق الجمل والفيل، ولكنَّ أسلوب التحدِّي القرآني المعجز يختار الذباب الصغير الضئيل الشأن ويبيِّن العجز عن خلقه؛ ليلقي في النفس مشاعر الضعف أكثر ممَّا يلقيه العجز عن خلق الجمل والفيل، وبهذا يضعنا تعالى في مواجهة عجزنا أمام قدرته العظيمة، دون أن يُخلَّ بالمعنى، وهذا من بديع إعجاز القرآن الكريم. ومن عظمته في خلقه أنه هدى المخلوقات إلى ما يصلح شأنها ، قال تعالى : (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (50) طه ،نعم هدى الطفل يوم أن وضعته أمه لا يعرف شيئاً ولا يبصر شيئاً، فهداه إلى ثدي أمه ليجد فيه اللبن، وهدى النملة لتخزن قوتها استعداداً لفصل دون فصل، ولشتاء دون صيف، وهدى النحلة أن تطير آلاف الأميال لتأخذ الرحيق وترجع مرة ثانية إلى خليتها، وهدى الحمام يوم ينقل الرسائل من مكان إلى مكان ومن بلد إلى بلد، لا يضيع ولا يضل ولا يزيغ. فهو عظيم قدير ، واقرأ قدرته وعظمته في الشمس الساطعة , وفي النجوم الزاهية , عظمة تلمحها في خمائل النبات , وجداول الماء ، بل وفي حقول الزرع وسنابل الحَب والبذور , وفي الورقة واليرقة، وفي الحشرة والشجرة .. هو العظيم ، كسا العظام لحماً واللحم جلداً وألبس البهائم صوفاً ووبراً , والثمرة غطاءً وقشراً .. سبحانه من عظمته وبالغ معجزته , أن خلق الماء حياة للمخلوقات ، وأهلك به قوم نوح – عليه الصلاة والسلام – , وأوجد النار منفعةً ، وأحرق بها أعداءَه , وكوّن البحر رزقاً وأغرق فيه فرعون وجنده , وأرسل الرياح لواقح ودمر بها عاداً .
أيها المسلمون
إن عظمة الله لا يعلمها إلا الله جل وعلا، ولكن الله جل وعلا بين لنا ما يدل على عظمته بقدر ما تتسع له عقولنا ، وإلا فإن عظمة الله تعالى لا يحيط بها ولا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، وقد عرفنا الله سبحانه وتعالى بعظمته في قرآنه الكريم ، من أجل أن نجله ونعظمه، ونعبده حق عبادته. فإذا قيل لك بما عرفت ربك فقل بآياته ومخلوقاته ، قال تعالى
:{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [فصلت: من الآية37]، ومن مخلوقاته السماوات السبع والأرضين السبع وما فيهن. ومن مخلوقاته ما ذرأه في هذا الكون من البحار والجبال والبراري والأشجار والأنهار وغير ذلك مما لا تحيط به العقول، ولا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. فإذا تأملت في هذا الكون وتدبرته ،عرفت عظمة خالقه وحكمته وقدرته ورحمته ،قال تعالى :{قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]، أولم يتفكروا فيما خلق الله في السماوات والأرض، فالله جل وعلا أمرنا أن نتفكر وننظر فيما خلق، وأولي الألباب يتفكرون في خلق السماوات والأرض ويقولون: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: من الآية 191]. فعلى العاقل أن يتفكر في خلق السماوات والأرض والبر والبحر بل ويتفكر في خلقه هو قال تعالى {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، وكذلك يتفكر في آيات الله المقروءة في القرآن الكريم ليعرف بذلك عظمة الله سبحانه وتعالى ،لذي تكلم سبحانه بهذا القرآن وأنزله ، وجعله كتابا مشتملا على مصالح العباد، ماضيا وحاضرا ، ومستقبلا، قال تعالى {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام: من الآية38]، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي وحي من الله، قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى .إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 ، 4]، وقال سبحانه : {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [ص: 29]. ونستكمل الحديث عن دلائل عظمة الله وقدرته في لقاء آخر إن شاء الله
الدعاء