خطبة عن (دلائل عظمة الله وقدرته في خلقه)
أكتوبر 30, 2016خطبة عن ( قصة أصحاب السبت : دروس وعبر)
نوفمبر 1, 2016الخطبة الأولى (حَرْثَ الدُّنْيَا وحَرْثَ الْآخِرَةِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ) (20) الشورى ،وقال تعالى : (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا(20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ) (21) الإسراء ،وروى الترمذي في سننه (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِىَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهَ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ ». وروى الدارمي في سننه (عَنِ الْحَسَنِ قَالَ : مَنْهُومَانِ لاَ يَشْبَعَانِ : مَنْهُومٌ فِي الْعِلْمِ لاَ يَشْبَعُ مِنْهُ ، وَمَنْهُومٌ فِي الدُّنْيَا لاَ يَشْبَعُ مِنْهَا ، فَمَنْ تَكُنِ الآخِرَةُ هَمَّهُ وَبَثَّهُ وَسَدَمَهُ يَكْفِى اللَّهُ ضَيْعَتَهُ وَيَجْعَلُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ ، وَمَنْ تَكُنِ الدُّنْيَا هَمَّهُ وَبَثَّهُ وَسَدَمَهُ يُفْشِى اللَّهُ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وَيَجْعَلُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، ثُمَّ لاَ يُصْبِحُ إِلاَّ فَقِيراً وَلاَ يُمْسِى إِلاَّ فَقِيراً ).
إخوة الإسلام
إن الله تعالى جعل للدنيا حرثًا وزرعًا ، وجعل للآخرة حرثًا وغرسًا ، فمن حرث للدنيا أوتي منها ما كُتب له، ولكنه يخسر الآخرة، ومن حرث للآخرة فاز بالآخرة ولم يفته ما قدر له من الدنيا ، بل تأتيه دنياه وهي راغمة. ومن حسنة حرث الآخرة ، أنه حرث مضاعف مبارك ، ويبقى أثره ونفعه لصاحبه ، لأنه تعامل مع الله تعالى بخلاف حرث الدنيا ، فإنه غير مبارك ولا مضاعف ، ولا يبقى لصاحبه؛ فهو زائل عنه بالموت، والدنيا بأسرها زائلة بالآخرة ، قال تعالى ( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى 16، 17] ، وقال تعالى : ( وَلَلْأَخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلْأُولَىٰ) [الضحى: 4] ، وزيادة حرث الآخرة ومباركته ومضاعفته ثابت بالقرآن الكريم : ففي قوله تعالى :(مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ) (20) الشورى ،وفي آية أخرى: ( وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ) [الإسراء: 19] ،فالمعنى من كان يريد من الناس بأعماله الصالحة ثواب الآخرة ، ورضا الله تعالى ضاعف الله عز وجل له الأجر والثواب والعطاء ،ومن كان يريد بعمله شهوات الدنيا نؤته منها ما قدرناه له من حطامها وزخارفها ،ولكن ما له في الآخرة من نصيب من خيراتها الباقية ونعيمها الدائم ، وهو نفس المعنى الذي يحمله ويؤكده قوله تعالى : (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ) (21) الإسراء
أيها المسلمون
فمريد الدنيا ؛ يوسع له في الدنيا؛ فلا ينبغي له أن يغتر بذ لك لأن الدنيا لا تبقى. قال قتادة : إن الله يعطي على نية الآخرة ما شاء من أمر الدنيا، ولا يعطي على نية الدنيا إلا الدنيا. فمن آثر دنياه على آخرته لم يجعل الله له نصيبا في الآخرة إلا النار، ولم يصب من الدنيا إلا رزقا قد قسمه الله له ، وفي مسند الإمام أحمد (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِى الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ ». ثُمَّ تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ) الانعام 44.
أيها المسلمون
ومن فوائد إرادة حرث الآخرة : أن الله تعالى يوفّق صاحبه للازدياد منه، والتلذذ به فكلما عمل عملاً صالحًا قاده إلى غيره ، وهذا معنى من معاني الزيادة في قوله سبحانه : (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) [الشورى: 20] ،أي : نفتح له أبوابًا أخرى من الخير وندله على أعمال صالحة ما كان يعملها ونعينه على عملها ، ولا يوفَّق لذلك إلا أصحاب الإرادة الجازمة ، أما من يتمنى ولا يعمل فهو غير مريد حقيقة ،وتأملوا معي التعبير القرآني (بالحرث ) لأن الحارث يتعب في حرثه وزرعه وغرسه لما يرجو من غلته وثمرته ، ولما كان حرث الأرض أصلاً من أصول المكاسب استعير لكل متكسب ، ومنه قول ابن عمر -رضي الله عنهما-: ” أحرث لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا ” ،وسمي الإنسان حارثًا لعمله وكسبه وورد في الحديث الذي رواه أحمد وغيره : (عَنْ أَبِى وَهْبٍ الْجُشَمِيِّ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الأَنْبِيَاءِ وَأَحَبُّ الأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ وَأَقْبَحُهَا حَرْبٌ وَمُرَّةُ ) فحارث وهمام يعبران عن حقيقة الإنسان ، والحارث بقدر صواب حرثه في أرضه، وزرعه في وقته وجده في عمله، تؤتيه الأرض أكلها ،وقد يجتهد ويتعب في حرثه وزرعه ولا تنتج أرضه وذلك كمن زرع الزرع في غير أوانه، أو بذر البذر في غير مكانه ، وهذا كمن دان بغير الإسلام، أو خالف السنة في عمله ، فكم يتعب أحبار اليهود ورهبان النصارى وسدنة المعابد الوثنية ، ويوقفون حياتهم كلها على معبوداتهم ، وينقطعون لها في معابدهم ، ولكن ليس لهم من عبادتهم نصيب لأنها عبودية صرفت لغير من يستحقها ، وذلك كمن حرث في غير أرض الزرع ، فليس له من حرثه زرع ولا ثمر مهما تعب ، قال الله تعالى فيهم : ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (104) الكهف
فأخبر الله تعالى أن لهم سعيًا وعملاً وحرثًا وزرعًا، ولكنه لا ينفعهم ، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعًا ، قال تعالى: ( وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍۚ ) [المجادلة: 18] ،وفي آية أخرى :(وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) [الفرقان: 23] ، وجاء وصفهم أيضا في قوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ) الغاشية ،فإنهم لما تركوا في الدنيا الخشوع لله- تعالى- والعمل لصالح، وآثروا متع الدنيا على ثواب الآخرة.. كان جزاؤهم يوم القيامة، الإذلال، والعمل الشاق المهين الذي لا تعقبه راحة. فلا ينفع عمل إلا بتحقيق الإيمان والعمل الصالح ،وبتحقيق الشهادتين : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وذلك بالإيمان والإخلاص في العمل واتباع السنة ،وإلا كان عملاً في غير محله، فلا ينفع صاحبه مهما اجتهد فيه كما لا ينفع الحارث زرعه مهما اجتهد إن وضعه في غير أرضه أو زرعه في غير وقته. وأيضا من أراد حرث الدنيا فإن الله تعالى لا يعطيه منها إلا ما قُدِّر له : (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ) [الشورى: 20] ،فأخبر سبحانه أنه مبخوس الحظ في الآخرة، ليس له فيها أي نصيب. فالإنسان إذا أراد الدنيا، وأصرّ عليها، ولم يعبأ بِغَيرها، وجعلها مُنتهى آمالِهِ ومحطّ رِحالِهِ، وكلّ طاقاته، وإمكاناته وقدراته، صرفها في الدنيا ، بعدها سيفاجئ أنَّه لا بدّ من مرض مُفْسِد، وهرم مُفنِّد، ومن موت مُجهِز، ومن فقْرٍ مُنْسي، ومن غِنًى مُطْغي، ومن دجَّال يُدجِّل، فهذه الساعة لا بدّ آتِيَة، فالذي أراد الدنيا لا بدّ من أن يُحْرمَها شاء أم أبى، أعْجبَهُ أم لم يُعْجِبْهُ، فهذا خِيار، ومن هنا قيل: من آثر دنياه على آخرته خسِرهما معًا، ومن آثر آخرتَهُ على دُنياه ربِحَهُما معًا. فالذي ينصرف إلى الدنيا، وهو غافل ساهٍ لا بدّ من صَحْوةٍ يوقِظُه بها الله، أما إذا انْصرف إلى الله ،فهو أكْرمُ على الله من أن يشْغلهُ بما سِواه، فإن أردت الدنيا وأصْررْت عليها أعطاك الله بعضها وأشقاك بِبَعضها الآخر، وليس لم في الآخرة من خلاق، أما إن أردْت الآخرة أعْطاك الآخرة، والدنيا، وكنتَ أسْعد الناس، فالله يُخيِّرنا بين أن نأخذ الدنيا فنأخذ بعضها ونشق بالبعض الآخر، وبين أن نختار الآخرة فنأخذهما معًا، ونكون أسْعد الناس، وطاعة الله هي سبب السعادة، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (71)﴾ [ الأحزاب ] ، وقال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (132)﴾ [ آل عمران ]
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية : (حَرْثَ الدُّنْيَا وحَرْثَ الْآخِرَةِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وجاء في قول الله تعالى : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ) [الإسراء: 18] ،وفي آية أخرى : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [هود : 15، 16] ،قال قتادة -رحمه الله تعالى-: ” من يؤثر دنياه على آخرته لم يجعل الله تعالى له نصيبًا في الآخرة إلا النار ، ولم يزدد بذلك من الدنيا شيئًا إلا رزقًا قد فرغ منه وقسم له ” ،وجاء في الحديث عن النبي -صلَّ الله عليه وسلم- أنه قال :
” من كانت الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ الله غِنَاهُ في قَلْبِهِ، وَجَمَعَ له شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كانت الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ الله فَقْرَهُ بين عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عليه شَمْلَهُ ولم يَأْتِهِ من الدُّنْيَا إلا ما قُدِّرَ له ” رواه الترمذي وابن ماجه. ومن تأمل الآية القرآنية التي فيها ذكر حرث الدنيا ولآخرة ، وجد أن حرث الآخرة رُجِّح على حرث الدنيا بأنواع من الترجيح ومنها :
قدم الله تعالى ذكر مريد حرث الآخرة على مريد حرث الدنيا مع أنها قبلها في الحياة والزمن ، وما ذاك إلا لشرف وحقارة الدنيا. وفي قوله تعالى (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) الشورى،
فقد حرم اللّه طالب الدنيا نعيم الآخرة ، فقد خسر الصفقة الرابحة ، وفاز بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة،
لأن أهل الدنيا وطلابها وعشاقها لا يتبعون ما شرع اللّه لهم من الدين القويم، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس، وروى الإمام أحمد في مسنده : (عَنْ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
« بَشِّرْ هَذِهِ الأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ وَالدِّينِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الأَرْضِ ». وَهُوَ يَشُكُّ فِي السَّادِسَةِ قَالَ « فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الآخِرَةِ نَصِيبٌ ». وقد ثبت في صحيح مسلم (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَىِّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدِفَ أَبَا بَنِى كَعْبٍ هَؤُلاَءِ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ » .وما ذلك إلا لأنه أول من سيّب السوائب، وهو الذي حمل قريشاً على عبادة الأصنام
أيها المسلمون
وفي قوله تعالى :(مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ) (20) الشورى ،فالآية دالَّة على أن منافع الآخرة والدنيا ليست حاضرة بل لا بد في البابين من الحرث والحرث لا يتأتى إلا بتحمل المشاقّ في البذر والسقي والتعاهد والحصد والتنقية فلما سمى الله تعالى كلا القسمين حرثًا علمنا أن كل واحد منهما لا يحصل إلا بتحمل المتاعب والمشاق ثم بيّن تعالى أن مصير حرث الآخرة إلى الزيادة والكمال وأن مصير حرث الدنيا إلى النقص والخسران. فلنعمل -عباد الله- في حرث الآخرة حتى يكون لنا فيها نصيب ولنحذر من إرادة حرث الدنيا فنحرم الثواب ولن ننال منها إلا ما قدّر لنا ، قال تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (8) [الزلزلة ، فيا ابن آدم تذكر أن الدنيا دار ممر وليست دار مستقر ، بل هي دار عمل وتعب وكد ونصب ، وتزود من الأعمال الصالحات ، واعلم بأن هذه الدنيا كعابر سبيل استظل بظل شجر ثم ارتحل وتركها خلفه ،فقد روى الترمذي بسند صحيح (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً . فَقَالَ « مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا » ، فاتقوا الله ربكم، واحرثوا لآخرتكم وما تجدونه بعد موتكم ، فقد روى الإمام أحمد وغيره ( عَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى »
الدعاء