خطبة عن (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)
نوفمبر 27, 2016خطبة عن حديث (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ)
نوفمبر 27, 2016الخطبة الأولى (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ) (وأسبَابُ التوفيقِ إلى حُسنِ الخاتمة)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى البخاري في صحيحه : ( عَنْ سَهْلٍ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ غَنَاءً عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا مَعَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَنَظَرَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ « مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا » . فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ ، وَهْوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ، حَتَّى جُرِحَ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ ، فَجَعَلَ ذُبَابَةَ سَيْفِهِ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – مُسْرِعًا فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ . فَقَالَ « وَمَا ذَاكَ » . قَالَ قُلْتَ لِفُلاَنٍ « مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَيْهِ » . وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِنَا غَنَاءً عَنِ الْمُسْلِمِينَ ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لاَ يَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ فَلَمَّا جُرِحَ اسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَقَتَلَ نَفْسَهُ . فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – عِنْدَ ذَلِكَ « إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ » ،
إخوة الإسلام
ونستكمل الحديث اليوم إن شاء الله عن قوله صلى الله عليه وسلم : (وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ » فأيها الحبيب: كم مر عليك في هذه الدنيا من غصص؟ وكم رأيت من أتعاب؟ وكم دارت عليك الدنيا وتقلبت من بلايا ورزايا؟ فلو جمعت ما جمع لك من عظيم البلاء إلى آخر لحظة, لا يعدل غصة, أعني سكرة من سكرات الموت, والله الذي لا إله غيره, إن سكرات الموت, لا يشبهها شيء من أمر الدنيا, وكيف؟ ويقول ربنا تبارك وتعالى: {كَلَّا}. لا شبيه, ولا نظير, ولا مثل, لهذه اللحظات, وهذه الساعات. {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِي } .[القيامة/26]. وصلت الروح إلى الترقوة, وأنت تنظر إلى بدنك وقد مات, فلا حراك, وبقي لحظة على أن تخرج هذه الروح, وأنت تنظر وتعاين نفسك, وأنت تسلب منك الحياة.
{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ }.[القيامة/27/26]. أين الأطبة؟ أين من يرقي؟ أين من يطبب؟ أين من ينظر في حال مريضه؟ لا أحد, لأن سكرت الموت قد جاءت, ولا محيد عنها. {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ }. [القيامة/28/27]. والظن هنا بمعنى اليقين. {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ }. [القيامة/29/28].
قال العلماء: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} أي الشدة بالشدة, وقال آخرون: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} أي أنه حال خروج الروح, تعصبت القدم على القدم, من شدة وأهوال خروج الروح. {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ}. أي ضمت, وسيق العبد إلى قبره. قال ابن الجوزي: يا لها من ساعة, لا تشبهها ساعة, مهما تخيل العبد من أهوال, فسكرات الموت أشد, ومهما تخيل من صعاب, فسكرات الموت أشد, صعاب اجتمعت في هذه اللحظات, يا لها من ساعة, لا تشبهها ساعة,
يندم فيها أهل التقى, من قام الليل, وصام النهار, ومن صافَّ قدمه بين يدي الملك, وتلذذ بمناجاة الملك, حينما تأتي هذه اللحظات, يندم أن لم يكن قد استزاد, يندم أن لم يكن قد استكثر, يندم فيها أهل التقى, فكيف بأهل الإضاعة؟! كيف بالمفرط؟! كيف بالمقصر؟! كيف بأصحاب الذنوب والخطايا؟! كيف بأصحاب الكبائر؟! كيف بمن عاش عيشة البهيمة, ما عرف الله, وما قدره, وما عظمه؟! وما فكر لحظة أنه ما خلق إلا له, أن يكون عبداً لله عز وجل, تجتمع فيها شدة الموت, مع حسرة الفوت, شدة الموت من أهوال وكرب, وأعظم من هذا حسرة أنه خارج من الدنيا, وأنه مات مفرطاً, ومات مقصراً, وأن الأيام قد ولت, وأن العمر قد أدبر, وما بقي إلا لحظة, والروح هنا, وصلت إلى التراق.
وإنَّ الله جل في علاه أذن لعباده المتقين بعبادته بأنواع من القربات والطاعات: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الحج 77 ، فالمؤمنون يتسابقون لطاعة الله تعالى بأنواع القربات، يرجون رحمته ويخشون عذابه، كلٌ منهم يأخذ على ما يسَّره الله تعالى له من الأعمال الصالحة، يُسابق بما يستطيع وذاك امتثالٌ لأمر الله تعالى: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} آل عمران 133،
وهو في هذا السير وفي ذلك السباق وفي تلك المسارعة، لا يخفى عليه ولا يغيبُ عنه أنَّ الفضل بيد الله تعالى، يهبه من يشاء، وأنَّ العطاء من الله جلَّ في علاه، هو الذي ييسِّر لك العمل الصالح، فلو لم ييسِّر الله تعالى العمل الصالح للعبد ، فمهما كان من جهد وطاقة، لا يدرك بها ما أمر الله تعالى ولا ما نهى. ولذلك يجب على المؤمن في سيره إلى الله تعالى، وفي مسارعته ومسابقته، أن يستصحب هذا الأمر، وأن يشهد منَّة الله تعالى عليه، بأن وفَّقه إلى الطاعة والإحسان، وأنه لولا الله وتوفيقه وتيسيره وإعانته لما كان منه عمل صالح. والله لولا الله ما اهتدينا *** ولا تصدَّقنا ولا صلَّينا ، فهو الذي يمُنُّ على عبده بالإيمان والطاعة، واليقين والرسوخ في الهدى والمسابقة إلى الخير، قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} الحجرات 17 . إنَّها قضية تخفى ويغفل عنها كثير من العاقلين، حيث إنهم يجتهدون في الطاعة والإحسان، ويتقرَّبون بألوان القربات والصالحات، ثم يدُبُّ إلى قلوبهم شيءٌ من الغفلة عن مِنَّة الله عليهم، فيرون لأنفسهم على الله فضلاً، ويُدِلُّون بأعمالهم على الله، والله هو المنعم المتفضِّل المستوجب للثناء والحمد في كل حال وفي كل مقام، فلولا الله ما كانت صلاة، ولولا تيسيره ما كان صوم، ولولا إعانته ما كانت زكاة، ولولا توفيقه ما كان حج، ولولا ما كان من عون الرب للعبد لما كان منه شيء، { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} الفاتحة: 5 . فعبادته جلَّ وعلا لا تكون إلا بإعانته، فإذا وُفِّقْتَ إلى شيءٍ من الخير، فإياك أن تغترَّ، إنما هو فضلُ الله حباك به وخصَّك به فإياك أن تُعجَب به، أو أن ترى لنفسك على ربك حقاً وتُدلَّ بذلك، فإنَّ الله تعالى يوجب للعبد العطاء الجزيل بنفس كسيرة وقلب ذليل وروح متضرعة لله تعالى ترى الفضل له في كل شيء، ترى الإحسان منه في كلِّ عمل ظاهر أو باطن. فإذا رأى العبد لنفسه على ربه فضلاً، فأدلَّ بعمله وأُعجِب به، يُحجب عن العبد التوفيق، ويُحال بينه وبين القبول، فكم من عامل يذهب عملُه هباءً منثوراً، ولا يجد منه خيراً في الدنيا ولا يدرك به أجراً في الآخرة، إنما يتعب نفسه، ويشقي روحه فيما لا فائدة وراءه، وذلك إذا كانت طاعته من صلاته أو صدقته أو صومه أو حجه أو سائر ما يتقرب به إلى ربه، إذا كان من نفس مليئة بالعُجب والكبر، والإدلال على الله تعالى بالعمل. ونبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم نموذج فريد، أسوة حسنة، قدوة للعاملين، كان من أعظم الناس عبودية لله تعالى في الظاهر والباطن، في السراء والضراء، في المنشط والمكره، في رمضان وفي غيره، ومع هذا كلِّه لم يكن يرى لنفسه على ربه حقاً يستوجب به فضلاً لولا رحمة الله، ففي الصحيح من حديث عائشة وأبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «واعلموا أن أحداً منكم لن يدخل الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله برحمته» رواه البخاري . وهكذا يكون السائر إلى الله تعالى ذليلاً خاضعاً، لا يرى لعمله ولا من عمله شيء، إنما فضل الله تعالى سابق ولاحق، فضله سابق أن يسَّر العبد إلى الصالحات، وفضله لاحق أن يتقبل من العبد ما كان من صالح العمل، فأين تذهب؟ ففضل الله قد سبق عملك، وفضل الله قد لحق عملك، فلولا الله فضل الله ما كان منك شيء.
أيها الموحد
فاحرص على أن تختم أمورك دوماً بخير فها هو ربك وخالقك قد قدم لك تدريبا عمليا على ذلك فسن لك إن تختم صلاتك بالاستغفار ، وأن تختم طعامك بالحمد، وأن تختم شهر رمضان بالزكاة والتكبير. فاتقوا الله أيها المؤمنون، اتقوا الله تعالى وابذلوا كل ما تستطيعون من أنفسكم في طاعة الله جلَّ وعلا، واعلموا أن كل طاعة يتقرب بها العبد في سرٍّ أو علن، في غيب أو شهادة، في ظاهر أو باطن، فإنَّ الله لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى، قال تعالى :{ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} آل عمران 195 ، وينبغي للمؤمن أن يفتش عن قلبه، وأن ينظر فيه، وأن يعلم أن الحسنة والسيئة لا يجزى بها الإنسان على ظاهر العمل، بل لابد من النظر إلى ما في القلب، فإن القلوب هي مناط العطاء والإثابة، ففي صحيح مسلم « إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ».
وهذا يدل على خطورة الأمر، وأنَّ المؤمن مطلوب منه أن يصحح قلبه، وإذا صحَّ القلب وسلم، فلا يمكن أن يكون إلا صلاحٌ في القول والعمل.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ) وأسبَابُ التوفيقِ إلى حُسنِ الخاتمة)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وأسبَابُ التوفيقِ إلى حُسنِ الخاتمة كثيرة ومنها : النيَّةُ الصالحة والإخلاصُ لله والمتابعةُ لسنَّة رسولِ الله ؛ لأنَّ النيةَ والإخلاصَ شرطُ الأعمال المقبولة. ومن أسبابِ الخاتمةِ الحسَنَة: المحافظةُ على الصَّلوات جماعةً؛ ففي الحديث: « مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ ». رواه البخاريّ ومسلم من حديث أبي موسى. والبرْدان: الفجرُ والعصرُ، وصلاتُه لغيرهما من بابِ أَوْلى. ومِن أسباب التوفيقِ لحُسنِ الخاتمةِ: الإيمانُ والإصلاح، قال الله تعالى: ( فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) [الأنعام: 48]. ومن أسبابِ توفيقِ الله لحُسنِ الخاتمة: تقوَى الله في السرِّ والعلَن، بامتِثال أمرِه واجتنابِ نهيِه والدوام على ذلك، قال الله تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص: 83]. ومِن أسبابِ التَّوفيقِ لحُسن الخاتمة: اجتِنابُ الكبائر وعَظائِم الذنوبِ، قال الله تعالى:( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ) [النساء: 31]. ومِن أسبابِ التَّوفيق لحُسنِ الخاتمة: لزومُ هديِ النبيِّ واتّباعُ طريق المهاجرين والأنصارِ والتابِعين رضيَ الله عنهم، قال الله تعالى:( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا )[الأحزاب: 21]، وقالَ تعالى:( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ) [التوبة: 100]. ومن أسبابِ التوفيق لحُسنِ الخاتمة: البُعدُ عن ظلمِ النّاسِ، وعدمُ البغيِ والعُدوانِ عَليهم في نَفسٍ أو مالٍ أو عِرض، قال صلى الله عليه وسلم : « الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ » رواه البخاري ،وعن ابنِ عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ » رواه البخاريّ، وفي الحديث: « مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ ».سنن الترمذي ،ومِن أسباب التوفيق لحُسن الخاتمة: الإحسانُ إلى الخلق، قال الله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) [البقرة: 274]. وصفةُ السَّخاءِ وسماحةُ النّفس مع الإسلامِ سَببٌ للتوفيق لحُسنِ الخاتمة، قال : ((صنائعُ المعروف تقِي مصارِعَ السّوء)) رواه الطبراني. ومن أسبابِ حُسنِ الخاتمة: العافِيةُ من البِدَع؛ فإنَّ ضررَها كبير، وفسادَها خَطير، والبدَعُ هي التي تُفسِدُ القلوبَ، وتهدِمُ الدين، وتنقُض الإسلامَ عروةً عُروة، قال الله تعالى: ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) [النساء: 69]. وهؤلاء المُنعَمُ عليهم مُبرَّؤون من البِدَع كلِّها. ومن أسبابِ حُسن الخاتمة: الدعاءُ بذلك للنَّفس، قال الله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) [غافر: 60]، وفي الحديثِ: ((لا يُنجِي حذَرٌ من قدَر، والدعاءُ ينفعُ مما نزَل ومما لم ينزِل)) رواه الطبراني.
ودعاءُ المسلم لأخيهِ المسلِم بحُسنِ الخاتمة مُستَجاب، وفي الحديثِ: « دَعْوَةُ الْمَرْءِ مُسْتَجَابَةٌ لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ يُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِهِ كُلَّمَا دَعَا لَهُ بِخَيْرٍ قَالَ آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلِهِ ». سسن ابن ماجة فاسعَوا -رحمكم الله- إلى تحصيل أسبابِ حُسن الخاتمة؛ ليُوفِّقكم الله إلى ذلك، واحذَروا أسبابَ سوء الخاتمة؛ فإنَّ الخاتمةَ السيِّئة هي المُصيبة العُظمى والداهيةُ الكبرى، والكسرُ الذي لا ينجبِر، والخُسران المُبين والعياذ بالله، فقد كان السلَف الصالح يخافونَ من سوءِ الخاتمة أشدَّ الخوف. قال البخاريّ في “صحيحه”: وَقَالَ ابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ أَدْرَكْتُ ثَلاَثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ .
وأسبابُ سوء الخاتمة كثيرة؛ منها: تركُ الفرائض، وارتكاب المُحرَّمات، وتركُ الجُمَع والجماعات؛ فإنَّ الذنوب ربما غلبَت على الإنسان واستولَت على قلبه بحبِّها، فيأتي الموتُ وهو مُصِرٌّ على المعصية، فيستولي عليه الشيطان عندَ الموت وهو في حالة ضعفٍ ودهشةٍ وحيرة، فينطِقُ بما ألِفَه وغلَبَ على حالِه، فيُختَم له بسوء الخاتمة. ومِن أسباب سوءِ الخاتمة: البدَع التي لم يَشرَعها الرسول ؛ فالبدعة شُؤمٌ وشرٌّ على صاحِبِها، وهي أعظَم من الكبائر، وفي الحديث الذي رواه مسلم « تَرِدُ عَلَىَّ أُمَّتِى الْحَوْضَ وَأَنَا أَذُودُ النَّاسَ عَنْهُ كَمَا يَذُودُ الرَّجُلُ إِبِلَ الرَّجُلِ عَنْ إِبِلِهِ ». قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتَعْرِفُنَا قَالَ « نَعَمْ لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لأَحَدٍ غَيْرِكُمْ تَرِدُونَ عَلَىَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ وَلَيُصَدَّنَّ عَنِّى طَائِفَةٌ مِنْكُمْ فَلاَ يَصِلُونَ فَأَقُولُ يَا رَبِّ هَؤُلاَءِ مِنْ أَصْحَابِي فَيُجِيبُنِي مَلَكٌ فَيَقُولُ وَهَلْ تَدْرِى مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ ». ومِن أسبابِ سوءِ الخاتمة: ظلمُ الناس والعدوانُ عليهم في الدمِ أو المالِ أو العِرض أو الأرضِ، وظلمُ النفس بنوعٍ من أنواع الشرك بالله تبارك وتعالى، قال الله عز وجل: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) [الأنعام: 21]. ومن أسبابِ سوء الخاتمة: الزهدُ في بذلِ المعروف، وعدم نفعِ المسلمين، والزهدُ في الدعاء، فلم يطلبِ الخيرَ، قال الله تعالى: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة: 67]، وقالَ تَعالى: (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ) [الأحزاب: 19]. ومِن أسبابِ سوءِ الخاتمة: الرُّكونُ إلى الدّنيا وشَهواتها وزُخرُفها، وعدَمُ المُبالاة بالآخِرة، وتقديمُ محبَّة الدنيا على محبَّة الآخِرَة، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يونس: 7، 8]. ومِن أسبابِ سوءِ الخاتمةِ: أمراضُ القلوب؛ منَ الكبر، والحسد، والحِقد، والغِلّ، والعُجب، واحتقارِ الناس، والغَدر، والخيانَة، والمكر، والخِداع، والغِشّ، وبُغضِ ما يُحبُّ اللهُ، وحبِّ ما يُبغِضُ اللهُ، قال الله تعالى: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ )الشعراء: 87 89 ومِن أسبابِ سوءِ الخاتمة: عُقوقُ الوالدَين وقطيعةُ الأرحام، قال الله تعالى: ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ) [محمد: 22، 23]. ومن أسبابِ سوءِ الخاتمة: الوصيَّة الظالمة المخالِفَة للشَّرع الحنيف، قال الله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) [البقرة: 281].
أيها المسلمون
ومن أهم الدروس والفوائد والعبر التي نستلهمها من ذلك : – أَنَّ الْأَعْمَالَ حَسَنَهَا وَسَيِّئَهَا أَمَارَاتٌ وَلَيْسَتْ بِمُوجِبَاتٍ وَأَنَّ مَصِيرَ الْأُمُورِ فِي الْعَاقِبَةِ إِلَى مَا سَبَقَ بِهِ الْقَضَاءُ وَجَرَى بِهِ الْقَدَرُ فِي الِابْتِدَاءِ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ. – وَفِيهِا : أَنَّ السَّعِيدَ قَدْ يَشْقَى وَأَنَّ الشَّقِيَّ قَدْ يَسْعَدُ لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَأَمَّا مَا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَتَغَيَّرُ. – وَفِيهِا : أن الِاعْتِبَار بالخاتمة. قَالَ ابن أَبِي جَمْرَةَ: هَذِهِ الَّتِي قَطَعَتْ أَعْنَاقَ الرِّجَالِ مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْحَالِ لِأَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ بِمَاذَا يُخْتَمُ لَهُمْ. – وَفِيهِا : أَنَّ عُمُومَ مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً” النحل 97 الْآيَةَ. مَخْصُوصٌ بِمَنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ مَنْ عَمِلَ السَّعَادَةَ وَخُتِمَ لَهُ بِالشَّقَاءِ فَهُوَ فِي طُولِ عُمُرِهِ عِنْدَ اللَّهِ شَقِيٌّ وَبِالْعَكْسِ وَمَا وَرَدَ مِمَّا يُخَالِفُهُ يَؤُولُ إِلَى أَنْ يَؤُولَ إِلَى هَذَا. – وَفِيهِا : أَنَّ فِي تَقْدِيرِ الْأَعْمَالِ مَا هُوَ سَابِقٌ وَلَاحِقٌ فَالسَّابِقُ مَا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَاللَّاحِقُ مَا يُقَدَّرُ عَلَى الْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ. – وَفِيهِا : الْحَثُّ عَلَى الِاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ وَقَدْ عَمِلَ بِهِ جَمْعٌ جَمٌّ مِنَ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْخَلَفِ – وَفِيها : أَنَّ الْأَقْدَارَ غَالِبَةٌ وَالْعَاقِبَةُ غَائِبَةٌ فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَغْتَرَّ بِظَاهِرِ الْحَالِ وَمِنْ ثَمَّ شُرِعَ الدُّعَاءُ بِالثَّبَاتِ عَلَى الدِّينِ وَبِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ. قَالَ ابن بَطَّالٍ: فِي تَغْيِيبِ خَاتِمَةِ الْعَمَلِ عَنِ الْعَبْدِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَتَدْبِيرٌ لَطِيفٌ لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ وَكَانَ نَاجِيًا أُعْجِبَ وَكَسِلَ وَإِنْ كَانَ هَالِكًا ازْدَادَ عُتُوًّا فَحُجِبَ عَنْهُ ذَلِكَ لِيَكُونَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ. فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ قَدْ سَبَقَ الْكِتَابُ بِهِمَا، وَأَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ بِحَسَبِ الْأَعْمَالِ، وَأَنَّ كُلًّا مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ لِلسَّعَادَةِ أَوِ الشَّقَاوَةِ. وأنَّ خَاتِمَةَ السُّوءِ تَكُونُ بِسَبَبِ دَسِيسَةٍ بَاطِنَةٍ لِلْعَبْدِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا النَّاسُ، إِمَّا مِنْ جِهَةِ عَمَلٍ سَيِّئٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَتِلْكَ الْخَصْلَةُ الْخَفِيَّةُ تُوجِبُ سُوءَ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ .
الدعاء