خطبة عن حديث (وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ)
ديسمبر 25, 2016خطبة عن ( جيل النصر والتمكين )
ديسمبر 26, 2016الخطبة الأولى (وقفات مع حديث : خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما : (عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – كَانَ يَحْتَجِرُ حَصِيرًا بِاللَّيْلِ فَيُصَلِّى ، وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ فَيَجْلِسُ عَلَيْهِ ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَثُوبُونَ إِلَى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَيُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ حَتَّى كَثُرُوا فَأَقْبَلَ فَقَالَ « يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا ، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ » ،وفي الصحيحين : (قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَخْبَرَتْهُ أَنَّ الْحَوْلاَءَ بِنْتَ تُوَيْتِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى مَرَّتْ بِهَا وَعِنْدَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ هَذِهِ الْحَوْلاَءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ وَزَعَمُوا أَنَّهَا لاَ تَنَامُ اللَّيْلَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ تَنَامُ اللَّيْلَ خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فَوَ اللَّهِ لاَ يَسْأَمُ اللَّهُ حَتَّى تَسْأَمُوا ».
إخوة الإسلام
لقد قسّم الله بين خلقه مواهبَهم وملكاتِهم ، كما قسَم أرزاقَهم وطبائعهم وأخلاقهم، وفاوت بين عقولِهم وفهومِهم ، كما فاوتَ بين ألسنتِهم وألوانهم ،قال تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ) الروم 22
كما قسم الله سبحانه حظوظَ عباده في دنياهم ، وفاوت بينهم في الاجتهاداتِ فيها، فمِنهم من كتبه مصلِّيًا قانتًا، ومنهم من كتبه متصدِّقًا محسنًا، ومنهم من كتبه صائمًا، ومنهم من كتبه مجاهدًا. فالله سبحانه وتعالى يفتحُ لعباده المؤمنين من أبوابِ الطاعات المطلوبات ،من نوافلِ العباداتِ ،وفروض الكفايات ،ما يتنافسُ فيه المتنافسون ،ويتمايَز به المتسابقون ، فمن كان حظُّه في طاعةٍ أكثرَ كانت منزلته في الجنّة ودرَجَته ، ففي الصحيحين :(عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِىَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ ، هَذَا خَيْرٌ . فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ » . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ – رضى الله عنه – بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا قَالَ « نَعَمْ . وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ »
أيها المسلمون
إن طُرق الخير كثيرة، وأبواب العملِ الصالحِ مشرَعَة ، وأعمالَ البرّ قد لا تُفتح كلُّها للإنسان الواحدِ في الغالب، فإن فتِح له في شيء منها ،لم يكن له في غيرها، وفي مسند أحمد (عن بَهْز قُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا دِينُنَا قَالَ « هَذَا دِينُكُمْ وَأَيْنَمَا تُحْسِنْ يَكْفِكَ ». وقد يُفتَح لقليلٍ من الناس أبوابٌ متعدِّدة، ، وقد كان أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين من شِدّة حُبِّهم للخير وحرصهم على العمل الصالح يسألون رسولَ الله : أيّ الأعمال أفضَل؟ ويسألونه : أيُّ الأعمال أحبُّ إلى الله ؟ لأنّهم يعلمون أنّ الإنسانَ ليس في وُسْعِه ولا في طاقَته أن يأتيَ بجميع الأعمال ، وقد كان جوابُ رسول الله متعدِّدًا في أوقاتٍ مختلفة وفي أحوال مختَلفة أيضًا ، لاختلافِ أحوال السائلين واختلافِ أوقاتهم ، فهو صلى الله عليه وسلم يعلم كلَّ سائل بما يحتاج إليه ، أو بما له رغبةٌ فيه، أو بما هو لائق به ومناسبٌ له ، وإليك هذه الطائفةَ من إجابات النبيِّ . أولا : عن عَبْد اللَّهِ بْن مَسْعُودٍ – رضى الله عنه – سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ قَالَ « الصَّلاَةُ عَلَى مِيقَاتِهَا » . قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ . قَالَ « ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ » . قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ « الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ » فَسَكَتُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي ) [ متفق عليه واللفظ للبخاري ] . ثانيا : عَنْ مَاعِزٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ سُئِلَ أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ « الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ ثُمَّ الْجِهَادُ ثُمَّ حَجَّةٌ بَرَّةٌ تَفْضُلُ سَائِرَ الْعَمَلِ كَمَا بَيْنَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا ». [ رواه أحمد] . ثالثا : عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِعَمَلٍ قَالَ عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا عَدْلَ لَهُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِعَمَلٍ قَالَ عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ ” [ رواه النسائي ] . رابعا : عَنْ أَبِى ذَرٍّ – رضى الله عنه – قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ، قَالَ « إِيمَانٌ بِاللَّهِ ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ » . قُلْتُ فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ قَالَ « أَغْلاَهَا ثَمَنًا ، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا » . قُلْتُ فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ . قَالَ « تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ » . قَالَ فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ . قَالَ « تَدَعُ النَّاسَ مِنَ الشَّرِّ ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ » [ رواه البخاري] . خامسا : عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ،قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ « الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ ». قَالَ وَمَا الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ قَالَ : « الَّذِى يَضْرِبُ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ إِلَى آخِرِهِ كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلَ » [ أخرجه الترمذي والدارمي ] . سادسا : عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – أَنَّهَا قَالَتْ سُئِلَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ « أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ » . وَقَالَ « اكْلَفُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ »[ أخرجه البخاري ] . سابعا : عن معاذ بن جبل قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله قال أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله ” [ أخرجه ابن حبان في صحيحه ] . ثامنا : عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ الصَّلاَةَ وَالصِّيَامَ وَالذِّكْرَ تُضَاعَفُ عَلَى النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ ». رواه أبو داود ، فمن جملة هذه الأحاديث يتبين لنا أنَّ طرق الخير كثيرة ، وأن أبواب العملِ الصالح واسِعة، بل وإنّ العمل الواحدَ يتفاوت الفضلُ فيه بحسَب ما يمنَح الله عبدَه فيه من قوّةِ اليمين وصِدق الإخلاص وزَكاء النفس وتحقيق التوكّل ، وإذا كان الأمرُ كذلك فانظر ـ رحمك الله ـ فيما يفتح الله على عباده من ألوان الطاعاتِ وصنوفِ العبادات وأنواعِ الاجتهادات وطُرقِ المسابقات إلى الخيرات، فتجد من يفتَح الله عليه في القرآن الكريم والعنايةِ به وتلاوتِه قيامًا وقعودًا وعلى جنبه، في الصلاة وغير الصلاة، في الليل وفي النهار. ومن الناس من يفتح الله عليه في تعليمه وإقرائه، فهمُّه الأكبر في تعليمِه وضبطِه وإتقانه. ومنهم من يفتح الله عليه في العِلم أو في باب من أبوابه من التوحيد والحديث والفقه والتفسير، كما يفتَح لآخرين في علومٍ أخرى من اللغة والتاريخ والسِّيَر والعلوم التجريبية. ومنهم من يُحسن التدريس، ومنهم من يحسِن الوعظ والتذكير، ومنهم من يشتغِل بالجمع والتأليف.
ومِن عباد الله من يفتَح الله عليه في الصلاة، فهي شغلُه الشاغل، وهي قرّةُ عينه من الليل والنهار، في خشوعٍ وطولِ قنوت وتضرُّع. وآخَر يفتح الله عليه في صيام النوافل، فيكثر من الصيام في أيّامه المستحبّة من الاثنين والخميس وأيامِ البيض ويصوم يومًا ويفطر يومًا، فيطيق في ذلك ما لا يطيقه غيره. بينما ترى آخرين قد خصَّهم الله عزّ وجلّ بمزيدٍ من برّ الوالدين وصِلةِ الأرحام وتفقُّد الأقارب وزيارتهم والسؤالِ عنهم وبرّهم وصِلتهم والإحسانِ إليهم من غير انتظارِ مكافأة ومحاسبة. ومنهم من يُفتح له في مساعدةِ المحتاجين وإغاثةِ الملهوفين في الداخل والخارج، فيسعى على الأرملةِ والمسكين والغُرَباءِ والفقراء، لا يملّ من جمع التبرّعات وطَرق أبوابِ الأغنياء والدخول على المحسنين وإيصال الخير للمستحقِّين، في عملٍ متواصِل في تفريجِ الكروب وسدِّ الديون وكفالةِ الأيتام ورعايتِهم ومواساتِهم وتعليمِهم والمحافظةِ عليهم. ويفتح الله على أقوام آخرين في بناء المساجدِ وإنشاءِ الأوقاف، وآخرون يفتح الله لهم في الاحتساب بالأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر والصبرِ على الأذى فيه، فيطيقُ في ذلك ما لا يطيق غيره ،وفي الناس من يُفتح له في بابِ الشفاعة والإصلاحِ بين الناس، فيفكّ أسيرًا، ويحقن دمًا، ويدفع مكروهًا، ويُحِقّ حقًّا، ويمنع باطلاً ويحجز ظلمًا، يقدر على ما لا يقدر عليه غيره ، حقا .. وخلاصة القول في ذلك : فإن العمل الصالح واسعُ الميادين شامل المفاهيم ، ينتظم أعمالَ القلوب والجوارحِ من الأقوال والأعمال والمقاصد في الظاهر والباطن والمواهبِ والملكات، من أعمالٍ خاصّة وعامّة، فرديّةٍ وجماعية، في إكرام الضيف وعيادةِ المريض واتّباع الجنائز وإجابةِ الداعي ونُصرة المظلوم ومواساةِ الفقير وسقيِِ الماء وتفريجِ الكروب وإنظار المعسر وإرشاد الضالّ وإيجاد فرَص العمل، وإنَّ لكم في البهائم لأجرًا، ومن زرع زرعًا أو غرس غرسًا فأكل منه إنسانٌ أو طير أو بهيمة كان له به أجر، ومن جهّز غازيًا فقد غزا .
أيها المسلمون
فهيا إلى التنافس في أعمالِ البرّ، فالملائكة تحبّ صالحي بني آدم وتفرحُ بهم، ولتكن الهِمم عالية في المسابقة إلى الخيرات والمنافسةِ في الأعمال الصالحة، وليغتنمِ العبد ما فتِح له من هذه الأبواب من النوافل وفروض الكفايات ، فإنّ ثمّةَ أقوامًا يُدْعَوْن من كلّ أبواب الجنّة تعظيمًا لهم وتكريمًا لكثرةِ صيامهم وصلاتِهم وأفعالهم الخيِّرة، فيخيَّرون ليدخلوا من أيّ أبوابِ الجنّة شاءوا ، ونحن في حاجة ماسة إلى فهم دلالة الحديث ، والالتزام العملي بمقتضاه وذلك في بعدين:
الأول: الاستمرارية أو ديمومة العمل الصالح، فلا يكن العمل موسميا ثم ينتهي، نعم قد لا يستمر العمل الصالح بنفس الوتيرة، ولكن في حدود الطاقة كما أرشد التوجيه النبوي، واستدامة العمل القليل مع اطراد الزمن وسيره الموصول يجعل من القليل زنة الجبال من حيث لا يشعر المرء، كما في قوله صلى الله عليه وسلم « مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ – وَلاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ – وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّى أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ » رواه البخاري ، أما أن تهيج بالإنسان رغبة سريعة ،فتدفعه إلى الإكثار والإسراف، ثم تغلب عليه السآمة فينقطع، فهذا ما يكرهه الإسلام. فإن هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَإِنْ أَنْتَ وَغِلْت فِيهِ بِالرِّفْقِ أَمْكَنَك ، وَاعلم أن شَرُّ السَّيْرِ الْحَقْحَقَةُ ، وَقَلِيلٌ تَدُومُ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ اجْتِهَادٍ يَقْطَعُك فَإِنَّك لَمْ تَرَ شَيْئًا أَشَدَّ تَوَلِّيًا مِنْ الْقَارِئِ إذَا تَوَلَّى ، وَيُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ } فكما في صحيح مسلم (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا سَافَرَ يَتَعَوَّذُ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَالْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ وَدَعْوَةِ الْمَظْلُومِ وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الأَهْلِ وَالْمَالِ) ، والسلف الصالح كَانُوا يُحِبُّونَ الزِّيَادَةَ ، وَيَكْرَهُونَ النُّقْصَانَ . وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك مثلا للقليل من العمل مع الاستدامة ، كما في سنن البيهقي : (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ …..وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلاً كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بِأَرْضِ فَلاَةٍ فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُوَيْدِ حَتَّى جَمَعُوا مِنْ ذَلِكَ سَوَادًا ثُمَّ أَجَّجُوا نَارًا فَأَنْضَجَتْ مَا قُذِفَ فِيهَا). الثاني: الاهتمام بالكيف قبل الكم، إذا لم نهتم بالكيف أو همشنا مفهوم النوعية والجودة في الأداء، في غمرة ولعنا بالكم ستكون الحصيلة نتاجا رديئا. والهدف من الحياة هو جودة العمل، قال تعالى : « الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ » الملك: (2). وحسن العمل وزيادته وإتقانه هي مرتبة الإحسان ، فالإحسان شامل لكل شيء قال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) أخرجه مسلم. والمتأمل في عصرنا الحاضر ، فقد بلغ عدد المسلمين في العالم ما يجاوز المليار وربع المليار من البشر. ولكنه مجرد كم عددي يفتقد الفاعلية والإنجاز عالي الجودة، ولعل ذلك هو ما جاء في مسند أحمد :(عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الأُكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا ». قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ قَالَ « أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ ». قَالَ قُلْنَا وَمَا الْوَهَنُ قَالَ « حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ». فلقد بين هذا الحديث أن الكثرة وحدها لا تغني، إذا كانت منتفشة في مظهرها، واهنة في مضمونها. وفي غزوةِ حُنَينٍ قيل: «لن نُهزَم من قلَّة» وجاء التعقيب القرآني على التعويل على الكم وحده ، فقال تعالى: «وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ» [التوبة: 25]. وهذه رسالة مُفادُها أن النجاح لا يأتي من قِبَل الكمِّ وحدَه، ولكن لا بد من انضمامِ الكيف له لصناعة النصر في المعركة والنجاح في الحياة، وهذا ما نلمسه من قول الله -تعالى-: «إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ…» [الأنفال: 65]، فالعشرون (كم) لا يصل في فاعليته ومقاومته إلا من خلال الكيف (الصبر).. فإن الاستمرارية في أداء العمل -أيًا كانت طبيعة هذا العمل في إطاره المشروع- تمكن صاحبها من تخطي كل الحواجز التي قد يتوهم أنها تعيقه عن تحقيق ما يهدف إليه من آمال ونجاحات.
أيها المسلمون
والمداومة على الطاعات لها فضلٌ عظيم وخصائصُ جليلة؛ ومنها: 1- أنها من صفات المؤمنين الجادين ﴿ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ﴾[المعارج: 23]، قال السعدي رحمه الله: “أي: مُداومون عليها في أوقاتها بشروطها ومكملاتها، وليسوا كمَن لا يَفعلها، أو يَفعلها وقتًا دون وقت، أو يفعلها على وجهٍ ناقص”، فالمداومة على الطاعات – وعلى رأسها الصلاة – من صفات عباد الله الموفَّقين. 2- هي وصية الله عز وجل لخير خلقه وهم الأنبياء صلوات ربِّنا وسلامه عليهم؛ حيث جاء في القرآن قولُ عيسى عليه السلام: ﴿ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴾ [مريم: 31]،
وقد أمَر الله سيِّد البشر بذلك، فقال له: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99]؛ أي: حتى يأتيك الموت، قال ابن كثير: “ويستدل من هذه الآية الكريمة على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبةٌ على الإنسان ما دام عقله ثابتًا، فيصلي بحسب حاله، كما ثبت في صحيح البخاري عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ – رضى الله عنه – قَالَ كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – عَنِ الصَّلاَةِ فَقَالَ « صَلِّ قَائِمًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ » ، ويستدل بها على تخطئة مَن ذهَب أن المراد باليقين المعرفة، فمتى وصل أحدُهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم. وهذا كفرٌ وضلالٌ وجهل؛ فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا هم وأصحابهم أعلمَ الناس بالله وأعرفَهم بحقوقه وصِفاته، وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع هذا أعبدَ الناس وأكثرَ الناس عبادة ومواظبةً على فعل الخيرات إلى حين الوفاة . وإنما المراد باليقين هاهنا الموت” ، 3- هي أحب الأعمال إلى الله تعالى: فعن عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَصِيرٌ وَكَانَ يُحَجِّرُهُ مِنَ اللَّيْلِ فَيُصَلِّى فِيهِ فَجَعَلَ النَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ فَثَابُوا ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ « يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دُووِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ ». وَكَانَ آلُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا عَمِلُوا عَمَلاً أَثْبَتُوهُ ) أخرجاه في الصحيحين.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (وقفات مع حديث : خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وللأعمال الصالحة والمداومة عليها فوائد وثمرات متعددة ، فمن ثمرات الأعمال الصالحة والمداومة عليها :
1 – زيادة الإيمان: فكل عمل صالح يَزيد الإيمانَ بحسَبِه؛ إن كان صغيرًا أو كبيرًا، قليلاً أو كثيرًا. وكل طاعة تجرُّ إلى غيرها؛ وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ الصِّدْقَ بِرٌّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِى إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِنَّ الْكَذِبَ فُجُورٌ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا » متفق عليه. ويقول شدَّاد: إذا رأيتَ الرجل في طاعة الله فاعلَم أنَّ عنده أخَواتِها، وإذا رأيتَ الرجل في معصية الله فاعلم أن عنده أخواتِها. 2- البُعد عن الغفلة: وقد ذمَّ الله الغفلة وأهلَها، ونهى عن الاتِّصاف بها؛
فقال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 205]، وعن عبدالله بن عمرٍو وأبي هريرة أنهما سَمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد مِنبَرِه: (لينتهيَنَّ أقوامٌ عن وَدْعِهم الجمُعات، أو ليَختمَنَّ الله على قلوبهم ولَيَكونُنَّ مِن الغافلين)؛ رواه مسلم، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْمُقَنْطَرِينَ ». رواه أبو داود وصححه الألباني. فالمداومة على الطاعات وقايةٌ من الغفلة التي تَقود إلى الهلاك والخُسران، والنفس إن لم تَشغَلها بالطاعة شغلَتك بالمعصية، وصدَق من قال: وما المرءُ إلاَّ حيثُ يَجعَلُ نفسَه ففي صالحِ الأعمال نفسَك فاجعلِ ، 3- أنها سببٌ لمحبة الله عز وجل؛ حيث يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: (وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ)؛ أخرجه البخاريُّ من حديث أبي هريرة. 4- هي سببٌ للنجاة في الشدائد: قال تعالى عن يونس عليه السلام: ﴿ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ﴾ [الصافات: 143 – 145]، والمعنى: لولا ما تقدَّم له من العمل في الرَّخاء؛ كما اختاره ابن جرير. وقد جاء في الحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا فَقَالَ « يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ »)؛ رواه الترمذي
وفي رواية الإمام أحمد: (وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْراً كَثِيراً وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً » . ولله در القائل: فاشدُد يدَيك بحَبلِ الله معتصِمًا فإنه الركن إن خانَتك أركانُ مَن يتَّقِ اللهَ يُحمَدْ في عَواقبِه ويَكفِه شرَّ مَن عَزُّوا ومَن هانوا ، 5 – ثبات الأجر عند العجز: فقد روى البخاريُّ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا » قال ابن حجَر: هذا في حقِّ مَن كان يَعمل طاعةً فمُنِع مِنها، وكانت نيَّتُه لولا المانعُ أن يَدوم عليها. وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:« مَا مِنِ امْرِئٍ تَكُونُ لَهُ صَلاَةٌ بِلَيْلٍ فَغَلَبَهُ عَلَيْهَا نَوْمٌ إِلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ صَلاَتِهِ وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ »رواه أبو داود والنَّسائي وصححه الألباني. 6- أنها سببٌ لمحوِ الذنوب: فعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلاً أَصَابَ مِنَ امْرَأَةٍ قُبْلَةً ، فَأَتَى النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – فَأَخْبَرَهُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ( أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) . فَقَالَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِي هَذَا قَالَ « لِجَمِيعِ أُمَّتِى كُلِّهِمْ » متفقٌ عليه، 7- هي سببٌ لحسن الخاتمة: وهي أمنيَّة الجميع، والأعمال بالخواتيم، ومَن شبَّ على شيء شاب عليه، ومن شاب على شيء مات عليه، لكن متى وأين وكيف تكون هذه الخاتمة؟ وهذا هو الجانب المخيف؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 34]. والمداومة على الطَّاعة تَقود إلى حسن الخاتمة؛ لأن مَن مات على شيء بُعث عليه، ومَن داوم على الطاعة اطمأنَّ إليها؛ كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، وهؤلاء هم أصحاب النُّفوس المطمئنَّة التي تُنادى عند الموت: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 27 – 30]. 8 – أنها سبب لدخول الجنة: قال تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [آل عمران: 133 – 136].
أيها المسلمون
وهناك مُعينات وأسبابٌ تُعين المؤمن على المداومة على الطاعات؛ ومنها: 1 – معرفة ثَمراتها: فمعرفة ثمرات الشيء والإحاطةُ بفوائده تُعين على الثبات عليه والتمسُّك به؛ كما قال الخَضِر لموسى عليهما السلام:﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ﴾ [الكهف: 68]، قال السِّعدي: “أي: كيف تَصبر على أمرٍ ما أحَطتَ بباطنِه وظاهره، ولا علمتَ المقصودَ منه ومآلَه؟!”. 2 – الخوف من سوء الخاتمة: قال تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 10، 11]. قال ابن رجب رحمه الله كما في “جامع العلوم والحكم” : “وفي الجملة: فالخواتيم ميراثُ السوابق، فكل ذلك سبق في الكتابِ السابق، ومن هنا كان يَشتدُّ خوف السلف من سوء الخاتمة، ومنهم مَن كان يَقلقُ من ذِكر السوابق، وقد قيل: إن قلوب الأبرار معلَّقة بالخواتيم؛ يقولون: بماذا يُخْتم لنا؟ وقلوب المقرَّبين معلقة بالسوابق، يقولون: ماذا سبَق لنا؟ وكان سفيانُ الثوري رحمه الله يشتدُّ قلقُه من السوابق والخواتم، فكان يبكي ويقول: أخاف أن أكون في أمِّ الكتاب شقيًّا، ويَبكي ويقول: أخاف أن أُسلَب الإيمان عند الموت، وكان مالك بن دينار رحمه الله يقوم طولَ لَيلِه قابضًا على لحيته، ويقول: يا رب، قد علمتَ ساكنَ الجنة من ساكنِ النار، ففي أي الدارين منزلُ مالك؟”؛ وقال سهلٌ التُّستَري رحمه الله: خوفُ الصدِّيقين من سوء الخاتمة عند كلِّ خطرة، وعند كل حركة، وهم الذين وَصفَهم الله تعالى؛ إذ قال: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 60]؛ (إحياء علوم الدين ). وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوَّذ بعد التشهُّد الأخير في الصلاة من أربعٍ، فيقول:
« اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ النَّارِ وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَشَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ ». رواه البخاريُّ ومسلم
وفتنةُ المَحيا: هي التي يتَعرَّض لها العبدُ في هذه الحياة الدنيا، وهي فتنة متنوِّعة، وفتنة الممات: هي الفتنة التي تَنزل بالمرء عند السَّكَرات والكُرُبات، والإقبال على ربِّ الأرض والسموات، نسأل الله الثبات عند الممات. 3 – البيئة الصالحة: فالإنسان ابن بيئتِه كما قيل، ولقد وصَّى الله رسولَه صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28]؛ قال السعديُّ رحمه الله: “يأمر تعالى نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم – وغيرُه أُسوتُه في الأوامر والنواهي – أن يَصبِر نفسه مع المؤمنين العباد المنيبين ﴿ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ﴾ [الكهف: 28]؛ أي: أولَ النهار وآخِرَه يريدون بذلك وجهَ الله، فوصفَهم بالعبادة والإخلاص فيها، ففيها الأمرُ بصحبة الأخيار، ومجاهدةُ النفس على صحبتهم، ومخالطتهم وإن كانوا فقراء؛ فإن في صحبتهم من الفوائد ما لا يُحصى. ﴿ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ﴾ [الكهف: 28]؛ أي: لا تُجاوزهم ببصرك، وترفع عنهم نظرك؛ ﴿ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الكهف: 28] ؛ فإن هذا ضارٌّ غير نافع، وقاطعٌ عن المصالح الدينية؛ فإن ذلك يوجب تعلُّق القلب بالدنيا، فتصير الأفكار والهواجس فيها، وتَزول من القلب الرغبةُ في الآخرة؛ فإن زينة الدنيا تَروق للناظر، وتسحر العقل، فيغفل القلب عن ذِكر الله، ويُقبل على اللذَّات والشهوات، فيضيع وقته، ويَنفرط أمره، فيخسَر الخسارة الأبدية، والندامة السَّرمدية. ولهذا قال تعالى: ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾الكهف: 28] فمن غَفل عن الله، فعاقبه بأن أغفلَه عن ذكره، ﴿ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ﴾ [الكهف: 28]؛ أي: صار تبعًا لهواه؛ حيث ما اشتهَت نفسُه فعَلَه، وسعى في إدراكه، ولو كان فيه هلاكُه وخُسرانه، فهو قد اتخذ إلهه هواه، كما قال تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ ﴾ [الجاثية: 23]؛ الآية. ﴿ وَكَانَ أَمْرُهُ ﴾ [الكهف: 28]؛ أي: مصالح دينه ودنياه ﴿ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28]؛ أي: ضائعة معطَّلة. فهذا قد نهى الله عن طاعته؛ لأن طاعته تدعو إلى الاقتداء به، ولأنه لا يدعو إلا لما هو متَّصف به، ودلت الآية على أن الذي ينبغي أن يُطاعَ ويكونَ إمامًا للناس – مَن امتلأ قلبه بمحبة الله، وفاض ذلك على لسانه، فلهج بذكر الله، واتبع مَراضيَ ربِّه، فقدَّمها على هواه، فحفظ بذلك ما حفظ من وقته، وصَلحت أحواله، واستقامت أفعاله، ودعا الناس إلى ما منَّ الله به عليه، فحقيقٌ بذلك أن يُتَّبع ويُجعل إمامًا، والصبر المذكور في هذه الآية هو الصبر على طاعة الله، الذي هو أعلى أنواع الصبر، وبتمامه تتمُّ باقي الأقسام. وفي الآية استحبابُ الذكر والدعاء والعبادة طرَفَي النهار؛ لأن الله مدَحهم بفعله، وكلُّ فعل مدح الله فاعلَه دلَّ ذلك على أن الله يحبه، وإذا كان يحبه فإنه يأمر به، ويُرغِّب فيه”؛ . 4 – الاقتصاد في العبادة: والمعنى عدمُ الإثقال على النفس بأعمال تؤدِّي إلى المشقَّة المفضِيَة إلى السَّآمة والملل من العبادة وتركِها، وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل: أي الأعمال أحبُّ إلى الله؟ قال: (أدوَمُها وإن قلَّ). وقال: (اكْلَفوا من الأعمال ما تُطيقون).
5 – الدعاء: فقد أثنى الله تعالى على الراسخين في العلم بأنهم يقولون: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8]، وفي سنن ابن ماجة كان صلى الله عليه وسلم يقول (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ وَالْغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ وَالسَّلاَمَةَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ أَسْأَلُكَ أَلاَّ تَدَعَ لِي ذَنْبًا إِلاَّ غَفَرْتَهُ وَلاَ هَمًّا إِلاَّ فَرَّجْتَهُ وَلاَ حَاجَةً هِيَ لَكَ رِضًا إِلاَّ قَضَيْتَهَا لِي) ،وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ « يَا مُعَاذُ وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ ». فَقَالَ « أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لاَ تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ تَقُولُ اللَّهُمَّ أَعِنِّى عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ ». رواه أحمد، وأبو داود،
الدعاء