خطبة عن ( اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ)
فبراير 26, 2017خطبة عن (تحية الإسلام السلام: فضائلها، وآدابها)
فبراير 27, 2017الخطبة الأولى ( المجتمع .. والسفينة ) وحديث ( مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى البخاري في صحيحه عن (النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ – رضى الله عنهما – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا ، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا ، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا . فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا ، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا »
إخوة الإسلام
بعد أن استمعنا إلى هذا الحديث النبوي الشريف ، فإن السؤال الذي قد يتبادر إلى الأذهان هو : هل أنا وأنت من حُماة هذه السفينة والمحافظين عليها ؟ أم أنا وأنت من الخارقين لها ، والمفسدين فيها ،بحسن نية ،أو بسوء نية ؟ وقبل أن تُجيب على هذا السؤال ، فلا بد أن تستيقن أنه ليس من طريقٍ ثالثٍ غير هذين الصنفين يتحكم في مصير السفينة :
فأما قيادةُ حُماةِ السفينة حيث تكون سلامةُ المركب ، وإما قيادةُ الخارقين لها حيث يكون الغرق والهلاك المحقق ،
ومن هنا فلا مجال للصمت والسلبية في وقت يتحرك فيها الخارقون وينشطون لإفسادها – وإن زعموا الإصلاح أو ظنوا خطئاً أنهم يريدون الإنقاذ والسلامة ؟ والمتأمل في أي مجتمع من المجتمعات لا يراه يخرج عن حالاتٍ ثلاث : فإما أن ينتشر المعروف ويكثر المصلحون ، وإما أن يشيع المنكرُ ويتطاول المبطلون ، وأما أن يكون دُولةً بين الأخيارِ والأشرار، ويَشيع فيه المعروفُ والمنكرُ على حدٍ سواء . ولكن الشيءَ الذي ينبغي أن يُدرك جيداً، أن ضعفَ الأمر بالمعروف وانحسارَ النهي عن المنكر في مجتمع ما من المجتمعات ،فذلك خطورةٍ بالغةٍ ومضاعفةٍ ، فليست المشكلةُ في ضعف الأمر والنهي ،وقلة الخير ،أو ضعف الأخيار ، بل فوق ذلك ،قوةُ المنكر ،وسيطرةُ الأشرار ،والنهيُ عن المعروف ،وغيابُ الأخيار– وحين يبلغ الفسادُ بالمجتمع هذا المبلغ ،فقل على الفضيلة السلام ، وصلّ صلاةَ الغائب على الأخيار ، إلا أن يتداركهم اللهُ برحمته ، ويبعثَ من يوقظُهم من رقدهم ؟ وإذا اختلف الناسُ في أسبابِ الفلاح ،وعواملِ البقاءِ ، وأسبابِ الشفاءِ ، وعواملِ الفناء ، فالحكمُ لله ، والمرجعُ شرعُ الله ، واللهُ يقصُ الحقَّ وهو خيرُ الفاصلين ، ويقول الله سبحانه وتعالى في محكمِ التنزيل (موضحاً أسباب النجاة والهلاك) : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)( الأعراف: 96) . ثم قال في نهاية هذه الآيات ((أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ)) ( الأعراف: 100) . ويقول تعالى في سورة أخرى : (( وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً* لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً )) الجن 16 ، 17 .
أيها المسلمون
ومنذُ القدم ،والناسُ منهم مؤمنون ومؤمناتٌ ،يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .. ومنافقون ومنافقات ،يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ،وفضلُ الله يؤتيه من يشاء، فمنهم مفتاحٌ للخير مغلاق للشر، وآخرون مغاليق للخير مفاتيحُ للشرِ ، يَضَعَفَ إيمانُهم باللهِ ،ويستبعدون الجزاء في اليوم الآخر ،فتنتكس فطرُهم ،ويزعمون أنهم مصلحون ،وهم مفسدون ، ويحسبون أنهم يُحسنون صُنعاً ، وهم خاسرون ، والسؤال : من الذي يخرق السفينة ؟؟ ومن هم الذين يهدمون صرح المجتمع ؟ ، ، والإجابة : إن أول فئة تشارك في هدم البناء ،وغرق السفينة ،أو خرقها : هم المنافقون ، وهذا الصنف حاول جاهدا أن يهدم بناء سفينة المجتمع المسلم حين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قائدها في المدينة المنورة ، فهم أول وأخطر المفسدين والخارقين . ومن هؤلاء المشاركون لخرق السفينة : المُتبعون للشهوات ،الغارقون في الملذات ، سواءً صح طريقُها ، أم لم يصح ، وسواء أكانت شهوات مباحةً أو محرمة ، أولئك ينقبون في السفينة ، ولو مالت بأهلها ميلاً عظيماً ، وصدق الله إذ يقول سبحانه: ((وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً )) (النساء: 27) . أما الفئة التالية : فهم البطالون الضائعون ،الذين لا يريدون أن يبذلوا جُهداً لمدافعة الشر، ولا يدفعوا مالاً لنصرة الحق ، بل ربما سرقوا مالاً ، أو روجوا مّخدراً ، أو ارتكبوا محظورات أخرى ، فأولئك يخرقون في السفينة ولا يصلحونها . وفئة أخر تخرق السفينة : وهم أهلُ الغرورِ والكبرياء ، الذين يرون الرشدَ بعقولهم وحدهم، دون أن يلتفتوا إلى عقول الآخرين ، بل ربما حكموا على عقول غيرِهم قبل أن يعلموها ، وربما صادروا آراء الآخرين ،وقد عاب القرآنُ على فرعون مقولتَه ،كما قال تعالى عنهم (( مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَاد)) (غافر: 29) . وما نفعه الوعيُ حين جاء الغرق : ((حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) (يونس : 90) . وقال الله له : (( آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ* فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ )) (يونس : 92,91).
وأيضا يَخرق السفينة : عالمون آكلون بعلمهم ، ويستفيدون لأنفسهم ، وهم مضللون لأمتهم ، ينسلخون من العلم ، ويتخلون عن نُصح الخلق ،إنهم لا يَجْهلون، ولكنهم يتجاهلون ،وهم لا يُخدعون ،لكنهم يَخدعُون ، أولئك يعرفون الحق ولا يدعون إليه ، ويعرفون المنكرَ ولا يستنكرونه – أولئك خَرقهم في السفينة عظيم ، وفتنُهم للناس كبيرة ، ونماذجُهم في الأمم السالفة كثيرة ، قال تعالى : ((إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ )) (سورة التوبة : 34) . وقال تعالى : ((وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * َلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )) ( الأعراف 175 ، 176) . وأيضا يخرق السفينة : أنانيون لا يشعرون إلا بأنفسهم ولا يفكرون إلا بذواتهم ، وإن لاحت لهم بوادرُ الخطوب ،لا يهمهم صلاح المجتمع أو فسادُه ، ولا تتمعرُ وجوههم للمنكرات ،وتشيع هنا وهناك ،دائرةُ تفكيرهم ضيقة ، ومساحةُ الغيرةِ عندهم محدودة . وأيضا يُسهم في خرق السفينة : سطحيون لا يدركون حجمَ الخطر ،ولا يتصورون ضخامةَ المصيبة النازلة ، ولا ينظرون إلى مستقبل الأيام بعمقٍ وروّية ، ولا يسمعون للنداءات المحذورة ، وإن سمعوا لم يستجيبوا، وإذا علا صوتُ النذير رأوه مبالغاً ، وإذا اتضح هدفُ المفسدين ،لم يحركوا ساكناً ،ولم يدفعوا باطلاً . وأيضا يخرق السفينة: أحمقٌ متهور يريد أن ينتقم لنفسه، أو ينتقم من الآخرين ، فيحاولُ بكل وسيلة إغراق أهل المركبة ،وإن كان هو ضمن قائمة الغرقى ، وتضيق به مساربُ الحياة ، فيختارُ تحطيمَ نفسِه والآخرين. وأيضا يُسهم في غرق السفينة : متعجلٌ وإن كان هدفُه خيراً ،وغيرُ حكيم، وإن كان قصدُه حسناً ، فقد يقودُه اجتهادُه إلى نزع خشبة في السفينة ،ليسدّ بها خرقاً خر ، فإذا الخرقُ الذي أحدث أشدُ ضرراً ، وأدعى للغرق ؟ وما فاته أن يستشيرَ غيرَه ، قبل أن يُحدث الضرر الذي أحدث .
أيها المسلمون
وإن الخطر على سفينة المجتمع قد لا يكون بكثرة الشر، بل إن انحصار الخير أيضاً هو من المخاطر التي ربما كانت سبباً في حلول مزيد من الشرور والآثام، ولا تقف الأمور عند حد معين، فينبغي أن نعلم تماماً ،أن حاجة الأمة إلى المزيد والبذل والمواصلة والعطاء الدائم المستمر ، حتى وإن انخفض منحنى بذل الأمة ودعمها شيئاً ،لا بد أن يستمر، المهم ألا يتوقف الخير بأي حال من الأحوال، وهذا يعني أن الخير لا بد أن يظهر وأن يفشو ، وإن وَجَدْتَ الخير يخبو ،والإنكار ينتهي أو يقل أو يضمحل ، فاعلم أنها قرينة شر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله. لذلك يقول الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز في هذا المعنى، في رسالته إلى واليه على المدينة، قال: [وليفشُ العلم فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً] فإذا قَلَّ الخير ،واضمحل ،حتى أصبح رجل الخير ،أو داعية الخير ،لا يمكن أن يعلم ،أو يتعلم ،أو ينفع ، إلا سراً ،فهي دلالة شر، أما إذا كان الخير ظاهراً ،والعلم منتشراً وظاهراً ،فهي دلالة خير، وهذا مما يحمِّل الأمة مسئولية الإعلان بالخير في كل مكان، حتى ولو لم يجتمع لك إلا واحد أو اثنان أو ثلاثة، المهم أن تعلم أن الخير ممكن ،وميسَّر ومستمر .
أيها المسلمون
وليجعل كلُّ واحدٍ منكم نفسه منقذاً للسفينة ، لا خارقاً فيها ، وليس يخفى أنه ما من منكرٍ يتصدى له الناسُ بالإنكار ، إلا توارى هذا المنكرُ أو جلُّه ، أو دفع اللهُ بهذا الإنكار منكراً آخراً سيترتب على المنكر قبله ، ولو لم يكن من ذلك شيءٌ فتكفي المعذرة ، قال تعالى عن الفئة الناهية عن المنكر والآمرة بالمعروف من بني إسرائيل : (( َقالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )) ( الأعراف : 164) . وإذا كان الناسُ كلُّهم إذا مُسَّتْ مصالحُهم الدنيوية ثاروا واستنكروا ،دون أن يُنيب أحدٌ منهم غيرَهم ، فأصحابُ الغيرة والذين تتّمعر وجوهُهم للمنكر ،هم الذين يستنكرون ويتحركون إذا اعتدى على الدين ،واستخف بالقيم والأخلاق والسلوكيات الحميدة . وتلك شهادةٌ لهم عاجلةٌ لهم بالإيمان في الدنيا ،وأجرُهم على الله يوم يلقونه ، وقد قاموا بأمرِه ، قال تعالى : (( وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ )) ( آل عمران : 115) . وينبغي أن نعلم تماماً أن سفينة المجتمع هي ماضية بنا ، وكل واحد منا عضو في هذا المجتمع، ومجموعنا نكون مجتمعاً واحداً ،وكلنا سائرون في هذه الدنيا إلى دار أخرى؛ ولكن من المهم تماماً أن نعلم أن كثيراً من الناس ربما تحطمت بهم السفينة قبل أن يبلغوا شيئاً من عمق البحر ،أو قبل أن تمخر بهم السفن في عرضه وطوله .و أعني بذلك: مجتمعات نشبت فيها الفتن ،وكثر فيها القيل والقال، وضاعت فيها المناهج، واختلطت فيها المبادئ، وضيَّع القومُ صراطاً مستقيماً مبيناً قويماً، وأصبح الدليل حيران. تاه الدليل، فلا تعجب إذا تاهوا ، أو ضيَّع الركبَ أذنابٌ وأشباهُ ، فإن شقاء المجتمعات وتعاسة الأمم ، قد لا يكون بسبب انحراف المجتمع ككل عن قيم الدين ،وتنصله عن تطبيق أحكامه في واقع الحياة ،بل قد يكون السبب أيضًا ،فساد الفرد ذاته في المجتمع ،أو انحراف مجموعة قليلة من أبنائه ، وما أهلك الله قوم ثمود إلا بسبب عدد قليل من أفراد ذلك المجتمع قال تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [النمل: 48]. ولأن كل فرد من أفراد ذلك المجتمع لم يقم بواجبه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان العقاب للجميع ،قال تعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل: 51].
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( المجتمع .. والسفينة ) وحديث ( مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
إن من سنن الله الماضية في خلقه ،أن يسلط عقوبته على المجتمعات التي تهمل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا الواجب الشرعي والأخلاقي والإنساني ، قال تعالى : {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُون . كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78، 79]. وإن وجود المصلحين في المجتمعات هو صمَّام الأمان لها، وسبب نجاتها من الهلاك ولهذا يقول تعالى : {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة ،ذكرها الله وقدمها في هذه الآية على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فقال سبحانه:
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيرحمهم الله إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71]. وبين سبحانه وتعالى أن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والمقيمين للصلاة والمؤتين للزكاة والمطيعين لله ولرسوله هم أهل الرحمة، فقال سبحانه وتعالى: {أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ} [التوبة: 71].. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم المذكور آنفًا بين أهمية هذا الواجب وضرورته فقال: «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ، مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا» (البخاري). فالقائم على حدود الله هو المستقيم مع أوامر الله تعالى، ولا يتجاوز ما منع الله تعالى، وهو مع ذلك يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.. أما (الواقع فيها) فهو التارك للمعروف المرتكب للمنكر.. الذي يرتكب المنكر ويأتيك بالمبررات.. أحيانًا باسم الدين ،وأحيانًا باسم الوطن ،وأحيانًا بادعاء الحق ،وأخرى تحت مسمى مواجهة أعداء الوطن
أيها المسلمون
إن الناس معادن ، وكل واحد منهم يحمل بين جوانحه قيما وأخلاقا تعبر عن شخصيته، وإن منهم مفاتح للخير ومغاليق للشر ،وإنه لن يسعد أي مجتمع إلا إذا كان الغالبية أفراده كذلك عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ » .رواه ابن ماجة وحسنه الألباني ، ومن هذه الواجبات للمجتمع المسلم، أن يسعى أفراده لبناء علاقة وثيقة بينهم ،تقوم على الحب والتراحم ،والتعاون والإيثار ،ولا خير في مجتمع لا يحب أفراده بعضهم البعض ،ولا يعطف بعضهم على بعض ،ولا يتفقد بعضهم أحوال بعض ،وقد أمر الله سبحانه وتعالى بالتعاون على البر والتقوى، ونهى عن التعاون على الإثم والعدوان، ففي الصحيحين (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ ». قِيلَ أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ « يَعْتَمِلُ بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ ». قَالَ قِيلَ أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ قَالَ « يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ ». قَالَ قِيلَ لَهُ أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ قَالَ « يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ أَوِ الْخَيْرِ ». قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ « يُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ » ،والذي يقضي حاجة أخيه في الدنيا يقضي الله حاجته يوم القيامة، عندما يكون أحوج إليها من حاجة أخيه في الدنيا، ففي صحيح البخاري (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ – رضى الله عنهما – أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » ، فمن كان الله في حاجته أتظنون أنه يخيب؟ فعَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- « مَنِ احْتَكَرَ طَعَاماً أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَرِئَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمُ امْرُؤٌ جَائِعٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى » .رواه أحمد وصححه الشيخ شاكر ،وهذا الفاروق عمر رضي الله عنه وهو خليفة ،وجد وهو يتفقد أحوال المجتمع المسلم في المدينة بالليل امرأة في حالة المخاض تعاني من آلام الولادة فحث زوجته على قضاء حاجتها وكسب أجرها وقال لها هل لك في خير ساقه الله إلينا؟ ،فكانت هي تمرض المرأة في الداخل وهو في الخارج ينهمك في إنضاج الطعام بالنفخ على الحطب تحت القدر حتى يتخلل الدخان لحيته وتفيض عيناه بالدمع لا من أثر الدخان الكثيف فحسب بل شكرًا لله أن هيأه وزوجته لإدخال السرور و قضاء حوائج الناس! قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77].
الدعاء