خطبة عن (من صفات الله تعالى ( العدْلُ )
مارس 29, 2017خطبة عن (المحافظة على الصحة والعناية بها من آداب الاسلام)
مارس 30, 2017الخطبة الأولى (الميل العظيم) (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا ﴾ [النساء 27]
إخوة الإسلام
إنه صراع مستمر ولن يهدأ ، ومعركة قائمة ولن تتوقف ، إنها إرادة الحق ، في مقابل إرادة الباطل ، إنها إرادة الإيمان والسمو والعلو والرفعة ، مقابل إرادة الانحطاط والانزلاق إلى الهاوية ، إنها إرادة التوبة والأوبة والرجوع إلى الله ، في مقابل الفجور والانحراف والضلال والغرق في مستنقع الرزيلة ، إنه الميل العظيم إلى إرادة الباطل ، ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا ﴾ [النساء 27] ، والسؤال : فأين نحن؟ هل نحن مع الحق وما يريد؟ أو أننا مع الباطل وما يريد؟ ، فلا بدَّ من حسْم الأمر مع أنفسِنا بصِدق، فليستِ الإجابة ما تتفوَّه به الألْسنة، ولا ما تتحرَّك به الشِّفاهُ فحسْبُ، بل الإجابة ما استقرَّ في القلْب والوِجدان، وتحرَّكت به الجوارح والأرْكان؛ ليصيرَ في حياة الإنسان منهجَ حياة لحركاته وسكناته، ولتصوراته وإراداته، ولمشاعِرِه وأحاسيسه؛ فتَضبِط أخلاقُه وتصرُّفاته عواطفَه ووجدانه بمنهج الحقِّ أو منهج الباطل. والسؤال الذي يطرح نفسه : – ماذا يريد الحق سبحانه وتعالى منَّا؟ – ومَن هم الذين يتَّبعون الشهوات؟ – وماذا يريدون منا؟ ،أما عن السؤال الأول : ماذا يريد الحق سبحانه وتعالى منَّا؟ ، فتأتينا الإجابة من القرآن الكريم ، ذلك الكتاب الذي قال الله تعالى عنه : (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (1) ابراهيم ، فماذا يريد الحق تبارك وتعالى منَّا؟ ، قال تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]. وقال تعالى : ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [ النساء: 26]. وقال تعالى : ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ﴾ [النساء: 27] ، وقال تعالى : ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [ النساء: 28]. وقال تعالى : ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ﴾ [المائدة: 6]. فما يريده الله تبارك وتعالى منا واضح جلي ، فهو يريد أن ييسِّر علينا، ويريد أن يَهديَنا ويبيِّنَ لنا سبيل الهُدى، ويريد أن يتوبَ علينا، ويريد أن يُخفِّفَ عنَّا، ويطهرنا ويتمَّ نِعمته علينا. إنها كلماتٌ كلها رحْمة ورأفة، فسبحانك ربي ما أَرْحَمَك ، فأنت الرحمن الرحيم!
نعم يُريد الله بنا اليُسرَ والتَّخفيف، ورَفْع الحَرَج، فمَا شرَع سبحانه شرعًا إلاَّ ويسَّرَه، فأمَر بالوضوء ورخَّص في المسْح على الجورب؛ تيسيرًا وتخفيفًا ، وجعل التراب طهورًا لمن فَقَدَ الماء أو عجَز عن استعماله؛ رحمةً منه، وأمر بالصلاة قائمًا، فإنْ لم تستطع فقاعدًا، فإنْ لم تستطع فعَلَى جَنْب، ورخَّص في قصْر عدد الركعات للمسافر، ورخَّص في الجمْع للمريض ولأصحاب الحاجات والأعذار، وأسْقط عن المرأة والعبد والصبيِّ والمسافر وجوبَ الجُمُعة؛ تخفيفًا وتيسيرًا. والفطر للمريض والشيخ الكبير ، وهكذا .. وفي الصحيحين : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِى – أَوْ عَلَى النَّاسِ – لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاَةٍ » ،فلم يمنعْه من ذلك إلاَّ خوف المشقَّة على أمَّته، وأيُّ مشقة في السواك خمسَ مرات في اليوم؟! إنَّه التيسير والرحمة التي يريدها الله لعباده، فقال تعالى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]. والله يُريد ليبيِّن لنا ويهديَنا: فبيَّن لنا سبحانه منهجَه وصراطه المستقيم بيانًا شافيًا لا يزيغ عنه إلا هالِك أو ضالٌّ، فضرَب لنا الأمثال؛ قال تعالى :
﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [النحل: 75 – 76]. وقصَّ علينا ربنا القَصص، فقال تعالى: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ [يوسف: 3]، قص علينا لنعتبر ونتعظ ممن كان قبلنا ، فقصَّ علينا حالَ الصالحين ونجاتهم، والطالحين وهلاكهم، وبيَّن لنا البراهين القاطعة، والأدلة العقلية الساطعة، التي تُنير عقولَ أولي الألباب، وتشْرَح صدورَ أولي النُّهى. نعم فالله سبحانه وتعالى يُريد أن يتوبَ علينا ويطهِّرَنا، لأننا خلقه وصنعته ، لأننا عبيده ، قال سبحانه (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) (147) النساء
فالله بيَّن لنا السبيل، وخفَّف علينا التشريع، ثم أقال عثراتِنا إنْ عصيناه؛ لعِلمه بضعفنا، ولم يُيئِّسْنا من رحمته، ولم يغلقْ بابه دوننا؛ لأنَّه لا ملجأ لنا إلا إليه، وهو أرحمُ بنا من أنفسنا وأهلينا، ففي صحيح البخاري (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ – رضى الله عنه – قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – سَبْىٌ ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِى ، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ » . قُلْنَا لاَ وَهْىَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ . فَقَالَ « اللَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا » بل ويفْرح الله سبحانه وتعالى وهو الغنيُّ عنا ، يفرح بتوبتنا ، ففي صحيح مسلم (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِيَّةٍ مَهْلَكَةٍ مَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ ثُمَّ قَالَ أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي الَّذِى كُنْتُ فِيهِ فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ. فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَاللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ ». والله يُريد أن يتمَّ علينا النِّعْمة، ونِعمةُ الله العظمى هي نِعمةُ الإسلام، التي فطَرَ الله الناس عليها ؛فقال تعالى ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30].
فكانتْ هي النِّعْمة، وكان تمامها بإرْسال الرُّسل، وبلوغ الشرع؛ فقال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، فإذا استقامتِ النفس على هذا الدِّين، سعِدتْ في الدارين، والسعادة هي أعظمُ ما نرجوه؛ لذلك كان دعاؤنا في كلِّ صلاة في سورة الفاتحة: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 6 -7].
أيها المسلمون
ونأتي إلى السؤال المقابل ، نأتي إلى السؤال التالي : مَن هم الذين يتَّبعون الشهوات؟ وماذا يُريدون منا؟
وقد اختلف أهلُ التفسير في الموصوفين باتِّباع الشهوات، فقيل: هم اليهود والنصارى، وقيل: هم المجوس؛ لأنَّهم يُحلُّون نِكاح الأخوات وبنات الأخ والأخت، وقيل: هم الزُّناة، يريدون أن تَميلوا عن الحقِّ فتزنون كما يزنون،
والصحيح: أنهم جميعُ أهل الباطل، وقُدوتهم وقائدهم إبليس؛ فهو أوَّل مَن عصى الله واستكبر عن طاعته وكفَر به، وأغْوَى من أطاع ربه، وحسَدَه، وكان سببًا في إخراجه من الجنة، وأقسم على الاستمرارِ في إضلال ذريته إلى يوم البَعْث، وهكذا أتْباعه الذين يتبعون خُطواتِه، ويسيرون في شِعاب كفره، لا ينفعهم إنذار، ولا تُفيدهم الآيات، يأمرون بالمنكر، ويَنهَوْن عن المعروف؛ قال تعالى في شأنهم : ﴿ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [المجادلة: 19]. فهؤلاء كالأنعام يَلْهَثون وراءَ شهواتهم وأهوائهم، ليس لهم مِن غاية ولا هَدَف إلا في إطار الحياة الدنيا، فتجْمَعهم بقطعان الأنعام صِفةُ السعي الحثيث لتلبيةِ الشهوات، بل إن الأنعام تفضلهم؛ لأنَّها لم تخرج عن المهمَّة التي خلَقَها الله تعالى مِن أجْلها؛ قال تعالى: ﴿ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾ [الفرقان: 44]. فهُم جُنْد الشيطان وأولياؤُه، وهم حِزْبه وأنصاره، وهم أعوانه وأتباعه، وهو قائدهم وقدوتهم، فعلى خُطاه يسيرون، ولدِينه يتَّبعون، فهم خاضعون له ومستسلمون، ولا يبغون عن شباكه فكاكًا، ولا عن شِراكه هربًا، فهم لرايته رافعون، وللوائه عاقدون، وبِحَمْده مسبِّحون، وهُم مع ذلك غافلون لاهون، لا يشعرون أنَّهم إلى جهنَّمَ سيُسْحَبون، وفي النيران سيُعذَّبون، يومها يتبرأ الأتباع من المتبوعين، وتنكشِف الحقائق ويندمون، وقتَ لا ينفع الندم. قال تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (166)،(167) البقرة ، فهُم يتَّبعون الشهوات؛ وهي حبائل الشيطان وخُطواته إلى غايته، وغاية الشيطان أنْ يَكفُرَ الناس؛ قال تعالى :﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ ﴾ [الحشر: 16]، فليس للشيطان غاية غيرها، وحمَلَهم على اتِّباعه بحبُّ الشهوات وزِينتها التي استدرجهم بها، قال تعالى ﴿ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [الحديد: 14]، وقد أخذ العهْد على نفسه بغوايتهم، ولكنَّهم غافلون؛ قال تعالى : ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ص: 82 – 83]. وقد صار من جُنْد إبليس مِن الإنس مَن يفوق أقرانَه من الجن في صُوَرِ الفساد والإفساد، والغَواية والإضلال، بالصَّوْت والصورة، والمشهَد الملموس، والواقِع المحسوس، تجاوز الوسوسة، لا يردَعُه قراءة قارئ، ولا استعاذةُ مستعيذ، إنْ ذكَّرته سخِر منك، وإن تركتَه تلمَّس زلاتِك، وتعقَّب هَنَاتِك، حتى يفضحَك، لا يُرضيه إلا أن تكون قرينَه وحليفه، بل ومرشده لكلِّ فريسة غافلة، سخَّرَ وقتَه وجُهْدَه، وماله وقلمَه، وسلطانه للصدِّ عن سبيل الله. وقد زوَّده الشيطانُ بخِبرة آلاف السِّنين من التزيين والإغواء لبني البشَر، فكَمْ أضلَّ الشيطان من الأمم والشعوب، وكم صدَّهم عن السبيل، مِن آدم – عليه السلام – إلى يومِنا هذا، بل إلى يوم القِيامة؛ قال تعالى : ﴿ يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 27].
أيها المسلمون
ونأتي إلى السؤال الأخير : وماذا يريدون منا؟ ، نعم ، ماذا يريد منا أصحاب الشهوات والأهواء من أتباع الشيطان ؟
وتأتي الإجابة من العليم الخبير : (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا ﴾ [سورة النساء: 27].
نعم يُريدون منَّا الميل، ولكن لا يَكفيهم أن نميلَ فقط، ولكن أن نميل ميلاً عظيمًا. والميل عكْس الاستقامة، والاستقامةُ هي الهداية، والميل هو الانحراف والضلال ، فالمعصيةُ ميْلٌ عنِ الاستقامة ، فهم يريدوننا أن نميل من الحق إلى الباطل ، ومن الإيمان إلى الكفر ، ومن الهدى إلى الضلال ، ومن الحلال إلى الحرام ، ومن الزواج المباح إلى الزنا والسفاح ، ومن الكسب الحلال الطيب إلى الرشوة والأكل أموال الناس بالباطل ، ومن التجارة والبيع إلى الربا ، وهكذا
(وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا ﴾ [سورة النساء: 27]. إنَّه ليس ميلاً قليلاً، بل سماه ربنا ميلاً عظيماً.. ميلاً عظيماً عن العفة، ميلاً عظيماً عن الحياء.. عن الاستقامة.. عن تكوين الأسرة المسلمة.. عن عبادة الله.. عن كل ما من شأنه أن يقربنا إلى ربنا وجنته، إلى كلّ ما يقربنا من غضب الله وسخطه وعذابه . فليستْ غاية الشيطان وأتباعه هي انتشارَ المعاصي بيْن المسلمين، وإنما هي طريق وسبيل إلى الغواية والكفر ، ونكون من أصحاب النار
قال تعالى : (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (6) فاطر ،ويقول ابن سعدي في تفسيره : “فهؤلاء يريدون أن تميلوا ميلاً عظيماً، أي تنصرفوا عن الصراط المستقيم إلى صراط المغضوب عليهم والضالين. يريدون أن يصرفوكم عن طاعة الرحمن إلى طاعة الشيطان، وعن التزام من السعادة كلها في امتثال أوامره، إلى من الشقاوة كلها في اتباعه. فإذا عرفتم أنَّ الله تعالى يأمركم بما فيه صلاحكم وفلاحكم وسعادتكم، وأنَّ هؤلاء المتبعين لشهواتهم يأمرونكم بما فيه غاية الخسار والشقاء؛ فاختاروا لأنفسكم أولى الداعيين، وتخيروا أحسن الطريقتين” ، فلا تظنَّ أنَّ أصحاب الأفلام والمسلسلات والحَفَلات والرَّقَصات، والقنوات والإذاعات، والصور والمجلات، يريدون أن نرتكبَ المعاصي، لا واللهِ، إنهم يريدون الميلَ العظيم؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 36]. فالمسألة اليوم أصبحتْ مخطَّطًا كبيرًا للنيل من أمَّة الإسلام على محاورَ ثلاثة: – اللا دين ( الالحاد والكفر ) – أو الدِّين المفصل والممسوخ والفاسد.- وإن أبينا فالقتل والتشريد. فهم يريدون مسْخ الهُويَّة الإسلامية، فيعيش المسلمون بلا هدَف ولا غاية، فيصيرون مسلمين انتسابًا لا حقيقة، وتذوب في القلوب معاني الإيمان، فلا يبقى في القلوب هَمٌّ ولا غاية إلا الدنيا وملذَّاتها الزائلة، عليها يتنافسون، ومِن أجلها يقتتلون، فلا قِيمةَ ولا مبدأ يردعُهم، ولا دِين يشغلهم، حتى إذا تمكَّن المسْخ من القلوب تبرؤوا حتى من مجرَّد الانتساب. وسبيلُ أعداء الإسلام وأتْباع الشهوات أصحاب الميل العظيم لذلك هو تطبيعُ المعصية، حتى تصير جزءًا لا يتجزَّأ من حياة الناس، فيصبح المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا، ويُعاب على مَن ينكرها، ويُمدح فاعلها، ويُثْنى عليه ويكافَأ؛ فيشبُّ على ذلك الصغير، ويهرَم عليه الكبير، ويبقى الإسلام في غُرْبة، وأهله في وحْشَة. فتُوضَع للمعاصِي قوانينُ تُبيحها وتحميها، وتحارِب من يتعرَّض لإنكارها بالوَيْل والثُّبور – وقد يغيب في غياهِب السُّجون – وأهل المجون في عَيْشهم يرغدون، وفي أمْنهم يرتعون ويهنِّئون. تَحميهم العُيونُ الساهِرة، والجنود البواسل الشجعان بالليل والنهار، حتى لا يصيبهم مكروه، فهُم ذَخيرةُ البلدان.
وتُسخَّر لهم وسائلُ الإعلام، فيظهر البطل والبطلة على الشاشة الصغيرة والكبيرة؛ ليحكيَ للشباب كيف ظلَم الإسلامُ المرأة، وحرَمها من الدنيا ونعيمها، كيف حرَمها من حريتها، وكيف استطاعتْ أن تتخلَّص من تلك القيود، وتُلْقي بذاك الحجاب، ويُصفِّق الجماهير للبطل والبطلة. وتُفتَح المعاهد والجامعات للسينما والمسْرح، والرقص؛ شرقي وغربي، يتقدَّم لها الشبابُ والفتيات؛ لعله يكون سعيدَ الحظ الذي يظفر بالبطولة. وتصدُر الفتاوى لتردَّ على المتشددين: حلال، حلال، حلال، ويُلوَى عنق النصوص، ويُبحث في بطون الكتب عن زلَّة عالِم، أو حتى سقْطة جاهل؛ ليضلُّوا الناس بغير علم. أو يتركوا أمْرَ الفتوى لكلِّ جاهل لا يُحسن أن يقرأ آيةً، فيقول: إنَّ الدِّين يُسْر، يَسِّروا ولا تُعسِّروا، الإسلام سلامة القلْب للآخرين، لا علاقة للإسلام بحريَّة الإنسان في مَلْبسه ومطعمه، ومسكنه وعمله. فتسأل الراقصة: ممكن نسأل حضرتك سؤالاً: هل الرَّقْص حلالٌ أم حرام؟ فيجيب المفتي- أو كما سماه الصادق المصدوق (الرويبضة) : حلالٌ طبعًا؛ ويسأل المغني: هل الحبُّ حلال أو حرام؟ فيجيب “المفتي”: الحبُّ عَلاقة سامية بيْن الجنسَيْن، فهو – ولا شكَّ – حلال، وأيُّ حياة زوجية لم تسبقْها قصة حب، تكون حياةً تعيسة، وتنتهي بنهاية مؤلِمة!! وتَنبري الأقلام، وتسوَّد الصحف بأخبار النجوم؛ لتُسمِّيَ الأشياء بغير اسمها وتُحيي الراقصة الموهوبة لياليَ رمضان في خَيْمةٍ رمضانية على شاطئ البحر – مع ملحوظة: أن التذكرة شاملة السحورَ على أنغام الموسيقا. وتُعلن الدول عن الجوائز التشجيعيَّة لأفضل فيلم، وأفضل مسلسل، وأجمل أغنية، وأجمل فتاة.وتُسلَّم الجوائزُ في حفْلة يشهدها أكابرُ القوم من مفكِّرين وسياسيِّين واقتصاديِّين، يُصفِّقون ويهنِّئون، ولو كانوا أصحابَ حظ سعيد تُلتقَط لهم الصور مع الفنَّانين والفنانات.
فمعصيةُ اليوم أرادوها خروجًا عن منهج الله باستحلال الحرَام وتسويغه للناس، حتى يصلوا إلى غايتهم المشؤومة، وهي الميل العظيم. فإنْ عجزوا عن ذلك كان المحور الثاني وهو الدِّين الفاسد بنشْر الطرق الصوفية على يد مؤسَّسات تُشرِف عليها أكبرُ الجهات، وتُنفق عليها الأموال بالمليارات، ويُتابِع ذلك سفراءُ دول الكفر من اليهود والنصارى، ويحضرون الموالدَ بأنفسهم، ويُبارِكون نشرَها، ويفتحون لها مجالاتٍ في دول العالَم، وخاصة الجاليات الإسلامية التي لم ترسخِ العقيدة الصحيحة في نفوس أبنائها، فإنْ لم ينجحوا في تحريف الفِطَر، حَرَصوا على التشكيك والتشويه في ثوابِت العقيدة، فانظرْ لأحدِ أكابرهم يقول على مرأًى ومسْمَع من ملايين الأتْباع: “اليوم مولِد السيِّد ( .. ) الذي إذا دُعي في البَرِّ أو البحر أجاب”! ويقول آخر: “الأديان الثلاثة (الإسلام والنصرانية واليهودية) ما هي إلا طُرُق إلى الله، فأيَّ سبيل سلكتَه وصَّلك لمطلوبك”.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الميل العظيم) (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
فللشيطانِ سبيلان لقلْب العبْد: الشهوات والشُّبهات، وهما متلازمانِ لا ينفكَّان: فساد الإرادات، وفساد التصورات، فساد القوة العِلْمية وفساد القوة العَملية؛ لأنَّ التصورات والإرادات، أو القوة العِلمية والقوة العَملية، قوْل القلب وعمله، أصلهما في القلْب، وقد قال الصادق المصدوق كما في الصحيحين: (أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِىَ الْقَلْبُ ». فإذا يَئِس الشيطان وأعوانُه من أهل الإيمان، ممَّن سلِمتْ قلوبهم من عبادة الشهوات، وسلِمتْ عقائدهم من البِدع والأهواء، كان المحور الثالث القتْل والتشريد، والإبادة الجماعية، بلا رحمةٍ ولا هوادة، فتُنسَى الكَلِمات الرنانة: حقوق الإنسان، والحرية والعدل والمساواة، وحقْ كل إنسان في الحياة الكريمة.
وتظهر: ﴿ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الشعراء: 49]، أو ﴿ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 82]، سبحان الله! ﴿ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [البروج: 8].
أيها المسلمون
وها نحن في هذه الأزمان، التي انحسر فيها ظل الإيمان، وقلص فيء الفضيلة، واستعرت الشهوات، ونسمع دعوات خارجية، وأصداء داخلية، للميل عن جادة الرب، وصراطه المستقيم، واتباع سبيل المغضوب عليهم، والضالين، والذين في قلوبهم مرض، والذين لا يعلمون؛ من اليهود، والنصارى، والمنافقين، والمشركين. فلم يزل أعداء الملة، يحاولون جاهدين، أن يستزلوا أهل الإسلام، عن الصراط المستقيم؛ في عقيدتهم، وشريعتهم، وأخلاقهم، وآدابهم. ويميلون ميلا عظيما وقد حذر الله نبيه صلى الله عليهم من مكائدهم، واستزلالهم، فقال تعالى : ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ .أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة : 49 ، 50]. وقد انطلقت آلتهم الإعلامية، ومقذوفاتهم الفكرية، تحاول هدم القلعة الإسلامية الحصينة، وشرخ جدار الفضيلة، فنالوا ما كتب لهم، ولكن بقيت طائفة من الأمة على الحق منصورة، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم.
كما في الصحيحين واللفظ لمسلم (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لاَ تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِى يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ». وليس العجب في كيد الأعداء، وإنما في مواطأة الأولياء ! فقد وجد ممن نبت في أرض الإسلام، وفتق لسانه القرآن، وشق سمعه الأذان، (سَمَّاعُونَ لَهُمْ) [التوبة : 47]! وهؤلاء، تحديداً، طائفة من المفتونين بالغرب، وثقافته، والشرق، وخرافته، يرون في قومهم كل نقيصة، ويرمقون عدوهم بالإعجاب، و يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير. لا يعتزون بدينهم، ولا يرفعون رأساً بشارتهم التي ميزهم الله بها في قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران : 110]،.
الدعاء