خطبة عن قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ)
يوليو 8, 2017خطبة عن ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ)
يوليو 8, 2017الخطبة الأولى ( حرص الصحابة على العلم والعمل )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
قال الله تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (9) الزمر، وقال تعالى : (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ) (65) ،(66) الكهف ، وفي الصحيحين : (عَنْ عُمَرَ قَالَ (كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ فِي بَنِى أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ ، وَهْىَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا ، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْوَحْىِ وَغَيْرِهِ ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ …) ،وفي مسند احمد : ( عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِى عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنَا مَنْ كَانَ يُقْرِئُنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِئُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَشَرَ آيَاتٍ فَلاَ يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الأُخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. قَالُوا فَعَلِمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ ).
إخوة الإسلام
إن قضية العلم قضية محورية في حياة الأمة المسلمة. ولا شك أن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم لاحظوا أن أول آية نزلت من القرآن الكريم الذي هو دستور الحياة بكاملها كانت قوله تعالى :{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]. وهذا شيء غريب حقًا ،فإن الزمن الذي نزلت فيه هذه الآيات لم تكن الأميّة منتشرة في جزيرة العرب فحسب، بل في أطراف المعمورة كلها، ومن بين كلمات القرآن الكثيرة كانت أول كلمة هي {اقْرَأْ} [العلق:1]، وليست أول كلمة فحسب، بل أول خمس آيات من القرآن الكريم تتحدث كلها عن قضية العلم ، قال تعالى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ*خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ*الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ*عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5]. فقضية العلم هي القضية الأساسية التي بُنِي عليها الدين، وهذا النزول لكلمة {اقْرَأْ} [العلق:1] ، إنما هو إيذان، وبيان، وإيضاح لطبيعة هذا الدين، وأنه لا يقوم على الخرافات ، أو الأوهام والضلالات، ولا يقوم على الجهل، والتخبط، وإنما يقوم على أسس علمية ثابتة، ومعروفة، فهذا الدين يشجع أبناءه على أن يكونوا علماء سابقين، ليس مجرد العلم، بل السبق فيه، والريادة، والتفوق، لنتأمل الفرق بين الدنيا إذا كانت بعلم، والدنيا إذا كانت من غير العلم، ففي الصحيحين : (عَنْ أَبِى مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا ، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا ، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى ، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً ، وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِى دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا ، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ » ، وهذا الحديث العظيم يبين لنا أقسام الناس ، وأنهم ثلاثة: قسم : تفقهوا في الدين وعلموا وعملوا، فهم مثل الأرض الطيبة التي قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، تعلموا وتفقهوا في الدين وعلموا الناس. وقسم : تعلموا وتفقهوا ونقلوا العلم إلى الناس، وليس عندهم من التوسع ما عند الأولين في التعليم والتفقيه في الدين، بل يغلب عليهم الحفظ ونقل الأخبار والروايات. وقسم ثالث : أعرضوا، فلم يتفقهوا في الدين ولم يحملوه، فمثلهم كمثل القيعان التي لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً.
أيها المسلمون
ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم ينظرون إلى العلم نظرة خاصة، نظرة تجل العلم وكل من حمل العلم، وهذه نماذج تبين لنا كيف كان الصحابة يقدرون قيمة هذا العلم؟ ،وما هو مفهومهم عن العلم؟ ، فهذا زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه ذهب – وهو لم يتم الثالثة عشرة من عمره- للالتحاق بجيش المسلمين المشارك في بدر، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم رده لصغر سنه، فرجع إلى أمه رضي الله عنه يبكي من الحزن، ولكنه عند عودته فكّر في أن يخدم الإسلام بطريقة أخرى، فهل أستطيع أن أخدم الإسلام بطريقة غير طريقة الجهاد في سبيل الله ما دام الجهاد غير ميسّر لي في هذا الوقت؟ ، فـزيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه تذكر أنه يتميز بملكة الحفظ، وملكة القدرة على التعلم، وملكة القراءة، والقراءة كانت شيئا نادراً في ذلك الزمان، فأخبر بذلك أمه وأقاربه، وطلب منهم أن يذهبوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعرضون عليه أن يوظّف طاقته العلمية في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي خدمة دين الإسلام، فذهبت به أمه النوار بنت مالك رضي الله عنها وأرضاها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا نبي الله هذا ابننا زيد بن ثابت يحفظ سبع عشرة سورة من كتاب الله، ويتلوها صحيحة كما أنزلت على قلبك، وهو فوق ذلك حاذق يجيد الكتابة والقراءة) ،ثم تقول: (وهو يريد أن يتقرب بذلك إليك، وأن يلزمك، فاسمع منه إذا شئت)، ففي مسند أحمد : (قَالَ زَيْدٌ ذُهِبَ بِي إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَأُعْجِبَ بِي فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا غُلاَمٌ مِنْ بَنِى النَّجَّارِ مَعَهُ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ بِضْعَ عَشْرَةَ سُورَةً. فَأَعْجَبَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَقَال « يَا زَيْدُ تَعَلَّمْ لِي كِتَابَ يَهُودَ فَإِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي ». قَالَ زَيْدٌ فَتَعَلَّمْتُ كِتَابَهُمْ مَا مَرَّتْ بِي خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى حَذَقْتُهُ وَكُنْتُ أَقْرَأُ لَهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ وَأُجِيبُ عَنْهُ إِذَا كَتَبَ ). هكذا صار زيد بن ثابت ترجمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: أنه مترجم الدولة الإسلامية في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عمره ثلاث عشرة سنة، وبدأ زيد يترقى في مناصب العلم، وبدأ يبرع وينبغ في تخصصه رضي الله عنه وأرضاه، وصار كاتباً للوحي وليس مترجماً فحسب، ثم صار حافظاً لكتاب الله عز وجل، وعندما مات الرسول صلى الله عليه وسلم كلفه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه بجمع القرآن بعد وفاة كثير من الحفاظ في موقعة اليمامة المشهورة، فجمع القرآن وهو لم يبلغ من العمر ثلاثاً وعشرين سنة، والعجب أن هذه المهمة أوكلت إلى الشاب الصغير زيد بن ثابت في وجود عمالقة الصحابة، في وجود أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وغيرهم، فلماذا كل هذا؟ ، إنه العلم الذي رفع من قدر زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، فالعلم يرفع أقواماً ويضع آخرين، والعلم ميراث الأنبياء، من أخذه أخذ بحظ وافر. واسمع إلى قول عمر بن الخطاب في زيد بن ثابت رضي الله عنه : من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت زيد بن ثابت ، فانظر إلى هذا التعظيم والتبجيل ، فهذا عمر بن الخطاب شيخ من شيوخ الصحابة وعملاق من عمالقة الصحابة يقول: الذي يريد أن يعرف شيئاً عن القرآن فليذهب إلى هذا الشاب زيد بن ثابت . وانظر إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة، فقد كانوا يطلقون عليه لفظاً جميلاً وعميقاً جداً، فيقولون عنه: البحر عبد الله بن عباس ؛ لسعة علمه، أي: أنه هو الحبر وهو البحر رضي الله عنه وعن أبيه. فهذا الصحابي الجليل عندما رأى زيد بن ثابت رضي الله عنه وهو يريد ركوب دابته، فوقف بين يديه وأمسك له بركابه وأخذ بزمام دابته، أي: أنه يساعده في ركوب الدابة، فانظروا إلى هذا الاحترام والتعظيم والتبجيل من ابن عباس لـزيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، مع أن الفرق بينهما ليس كبيراً، وإنما ثمان سنوات فقط، فقال له زيد بن ثابت حياء منه: دع عنك يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول عبد الله بن عباس بفهم عميق: هكذا أُمرنا أن نفعل بعلمائنا. فماذا قال له زيد بن ثابت ؟ قال: أرني يدك، فأخرج ابن عباس يده له، فأخذها زيد وقبّلها، ثم قال: هكذا أُمرنا أن نفعل بآل بيت نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وتأمل قول أبي هريرة رضي الله عنه عندما مات زيد بن ثابت رضي الله عنه : اليوم مات حبر الأمة -مات في سنة خمس وأربعين للهجرة، وله من العمر ست وخمسون سنة- وعسى أن يجعل الله في ابن عباس رضي الله عنهما خلفاً له. وهذا معاذ بن جبل رضي الله عنه أسلم وكان عمره ثمان عشرة سنة، وشهد العقبة، وشهد كل المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدر وأحد والأحزاب وفتح مكة وتبوك وغيرها، وخرج في الفتوحات الإسلامية في الشام أيام أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وكان في وقت من الأوقات أمير الشام، ومع كل هذه الحياة الجهادية إلا أنه كان متفوقاً جداً في مجال العلم، ومن يوم إسلامه وهو مهتم بقضية العلم، وقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ليعلم أهلها الإسلام، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتمد عليه، وكان موسوعة علمية متحركة. وعندما رجع معاذ بن جبل من اليمن بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم خرج إلى الشام مجاهداً، وكما أنه من عادته رضي الله عنه بجوار الجهاد تحصيل العلم وتعليمه الناس، تأمل قول أبي إدريس الخولاني رحمه الله -من التابعين- وهو يقول في حق معاذ بن جبل : أتيت مسجد دمشق فإذا حلقة فيها كهول من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، يعني: أن هذا اللقاء في هذا المسجد يحضره مشايخ وكبار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وإذا بشاب فيهم أكحل العين براق الثنايا، وكلما اختلفوا في شيء ردوه إليه، فقلت لجليس لي: من هذا؟ فقال: معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه. فهذه قيمة العلم، وهذه قيمة تحصيل العلم، فهو منذ لحظات الشباب الأولى في حياته رضي الله عنه وأرضاه وهو يحصّل العلم، ولهذا وصل وسبق، ولهذا كانت الناس ترفعه فوق رأسها رضي الله عنه وأرضاه. كذلك يروي لنا يزيد بن قطيب رحمه الله أيضاً -من التابعين- فيقول : دخلت مسجد حمص فإذا أنا بفتى جعد الشعر وقد اجتمع الناس حوله، فإذا تكلم كأنما يخرج من فيه نور ولؤلؤ، فقلت: من هذا؟ فقالوا: معاذ بن جبل رضي الله عنه، فكان رضي الله عنه موسوعة علمية فعلاً، لدرجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حقه كلمة عجيبة جداً: (أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل) أي: أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام، فهو عالم أسطورة، وهو لا يُقارن بطلبة في معهد إسلامي أو في كلية شرعية، وإنما يقارن بعمالقة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه يشهد له بهذه الشهادة من أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على علو قدرهم وغزارة علمهم كانوا إذا تحدثوا وفيهم معاذ بن جبل نظروا إليه هيبة له وتعظيماً لعلمه. فما الذي رفع قدره؟ وما الذي أعز منزلته؟ إنه العلم، وقد فقه ذلك معاذ رضي الله عنه فظل إلى آخر لحظات حياته طالباً للعلم، وظل إلى آخر لحظات حياته معلماً لغيره رضي الله عنه وأرضاه، قال في آخر حياته وهو على فراش الموت: اللهم إنك كنت تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لغرس الأشجار وجري الأنهار، ولكن لظمأ الهواجر -أي: الصيام في الأيام الشديدة الحر- ومكابدة الساعات – أي: القيام الكثير في الليل- ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر. وهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حبر هذه الأمة، ومن أفضل علماء الإسلام، وقد وصل إلى هذه الدرجة وهو لم يكن شاباً في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كان طفلاً، فقد مات الرسول صلى الله عليه وسلم وله من العمر أربع عشرة سنة فقط، لكنه لم يحصل هذه المنزلة من فراغ أو بسهولة، فلقد سعى سعياً حثيثاً لكي يصبح عالماً من علماء الإسلام، يقول عن نفسه : كان إذا بلغني الحديث عند رجل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أتيت باب بيته في وقت قيلولته، أي: أنه يذهب إلى الصحابي الذي عنده حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت القيلولة، ليضمن وجوده في البيت، فيأخذ الصحابي وهو خارج من بيته فيسأله عن الحديث، وكان يقول: وتوسدت ردائي عند عتبة داره، فتسفُّ عليّ الريح من التراب ما تسفُّ، ولو شئت أن أستأذن عليه لأذن لي، أي: أنه لو طرق عليه الباب لفتح له، ومع ذلك لا يريد أن يطرق بابه، لماذا؟ يقول: وإنما كنت أفعل ذلك لأطيب نفسه، فإذا خرج من بيته رآني على هذه الحالة، فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك؟ هلاَّ أرسلت إليّ فآتيك؟ فأقول: أنا أحق بالمجيء إليك، فالعلم يؤتى ولا يأتي، ثم أسأله عن الحديث، وبهذا أصبح عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حبر هذه الأمة.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (حرص الصحابة على العلم والعمل )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ويقول الله تعالى في محكم آياته :{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] فمن الذي يتق الله عز وجل؟ أليس العالم به عز وجل وبصفاته سبحانه وتعالى؟ ، أليس العالم بشرعه؟ أليس العالم بخلقه؟ هذا هو من يتقي الله عز وجل، أليس الله عز وجل يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر:28] . والخشية هي التقوى، فمن يخش الله إنما هو يتقيه، وكلما ازداد العالم علمًا كلما ازداد خشية لله عز وجل. وتأمل معي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ”. كما رفع الله عز وجل من قيمة العلم من أول يوم خلق فيه آدم عليه السلام، فانظر إلى أي مدى رفع الله قيمة العلم. فلماذا أَسْجَد الله عز وجل الملائكة لآدم عليه السلام؟ ، وبماذا تميّز هذا الخلق الجديد (آدم) على الملائكة؟ هل بكثرة التسبيح؟ أم بطول القيام؟ أم بالطاعة المطلقة لله تعالى؟ أم بالقوة الخارقة؟ فالملائكة تتفوق في كل هذه الأمور، ولكن الله عز وجل مَنّ على آدم عليه السلام بنعمة رفعت من قدر آدم إلى الدرجة التي جعل الملائكة يسجدون له تكريمًا له، هذه القيمة وهذه الدرجة هي العلم، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ*قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ} [البقرة:31-32]، ونلاحظ تكرار كلمة العلم ومشتقاتها : {قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ*وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ} [البقرة:33-34]. فرفع الله قدره لأجل أنه يعلم، فهو عليه السلام مستخلف في الأرض، وكذلك ذريته مستخلفة في الأرض لأجل العلم، فإذا فقد أبناء آدم هذه الصفة، فقدوا المبرر لكونهم خلفاء في الأرض، فتصبح حياتهم بلا قيمة، فغاية الخلق إذن هي هذا العلم، وإذا لم تتحقق هذه الغاية فكأنك لم تخلق أصلًا، وهذا ما يجعل العلم في منزلة عالية جدًا في الإسلام. فالعلم إذن هو أساس الاستخلاف في الأرض، ومن غير العلم لا نستحق أن نكون خلفاء في الأرض، وما حدث مع آدم عليه السلام حدث مع جميع من أتى بعده من الأنبياء، ولم يذكر الله عز وجل نبيًا من الأنبياء إلا وذكر في حقه أنه كان عالمًا، وأنه أُوتي علمًا، وأنه فُضل بالعلم. يقول الله عز وجل في كتابه الكريم على لسان إبراهيم عليه السلام : {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ العِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم:43] . فالذي يُتّبع هو الذي عنده علم، والذي يكون سببًا في هداية الناس هو العالم.
الدعاء