خطبة عن قوله تعالى ( ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)
سبتمبر 23, 2017خطبة عن قوله تعالى ( مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ )
سبتمبر 23, 2017الخطبة الأولى (مِنَ الْهُدْهُد نتعلم ): (فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : ( وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (20) : (26) النمل
إخوة الإسلام
مِنَ الْهُدْهُد نتعلم : فلقد شاهد الهدهد السليماني أثناء طيرانه قوما يعبدون الشمس من دون الله (وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ )،فلما شاهد هذا المنكر العظيم ، والكفر المبين، لم يقف موقفا سلبيا ، وإنما وقف موقفا إيجابيا ، لقد ذهب وتحرك هنا وهناك ، وتقصى الحقائق ، ووقف على دقائق الأمور، وألقى بالنبإ إلى سليمان عليه السلام ، باذلا بذلك كل ما في وسعه في تغيير المنكر ، وضاربا بذلك أروع الأمثلة في الإيجابية العملية ، وفي الدعوة إلى الله ، وتغيير المنكر ، والغيرة على عبادة الله ، كل ذلك مع التأدب في المحاورة ، والقصد في عرض الرسالة ، وقد فعل الهدهد ذلك كله دون تكليف مسبق ، أو تنفيذ لأمر صادر من الملك ، ولا انتظارا لمنفعة ، أو رجاء لمصلحة ، ولكنه يبتغي بذلك مرضاة خالقه ورازقه ومدبر أمره ، ومن يعلم سره وعلانيته ، وعاملا على تمكين دين الله في أرضه ، وذلك على قدر وسعه واستطاعته ، وإن هذه الإيجابية التي تميز بها الهدهد السليماني هي ما نفتقده اليوم عند الكثير من المسلمين ، فهم ـ إلا من رحم الله ـ لا يكادون يبادرون إلى عمل ، أو يسارعون إلى بذل ، ولا يتحرك أحدهم إلا حين يكلف ، ومع ذلك فهو يتثاقل في التنفيذ ، ويبطئ في الأداء ، وما هكذا كان السلف الصالح، بل كانوا إيجابيين بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ، وإنك لتنظر إلى جيل الصحابة فترى لكل صحابي سمة معينة وإبداعا متميزا ، فمنهم من أشار واقترح ، ومنهم من أوضح وشرح ، ومنهم من أضاف واستدرك ، ومنهم من صنع وأبدع …ففي سنن البيهقي : ( اسْتَشَارَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ نَرَى أَنْ تُغَوِّرَ الْمِيَاهَ كُلَّهَا غَيْرَ مَاءٍ وَاحِدٍ فَنَلْقَى الْقَوْمَ عَلَيْهِ). وفي صحيح البخاري : (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ – رضى الله عنهما – أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – كَانَ يَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى شَجَرَةٍ أَوْ نَخْلَةٍ ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ – أَوْ رَجُلٌ – يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نَجْعَلُ لَكَ مِنْبَرًا قَالَ « إِنْ شِئْتُمْ » . فَجَعَلُوا لَهُ مِنْبَرًا ) ، وهذا جندي من جنود الصحابة : في معركة القادسية رأى خيل المسلمين تنفر من فيلة الفرس ، فأعمل فكره ..وصنع فيلا من طين ، وأنس به فرسه حتى ألفه ، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل ، فحمل هذا الصحابي بفرسه على الفيل المقدم حتى دحره ، وكان بذلك سببا في تحقيق النصر للمسلمين .
ومِنَ الْهُدْهُد نتعلم : فقد كان هذا الهدهد السليماني موفقا في عرضه للموضوع والقضية التي جاء بها إلى سيدنا سليمان عليه السلام ، بل وكان متخلقا بآداب الحوار ، فقد جمع الهدهد في أسطر معدودة قصته الطويلة مع هذه الملكة التي تعبد وقومها الشمس من دون الله ، فالهدهد يدرك أنه يخاطب ملكا ، والملوك أوقاتهم مليئة بالمشاغل ، وليس لديهم وقت لسماع التفاصيل والجزئيات ، ومن هنا ، ركز الهدهد على أصول المسائل فأوجز وأبلغ : (فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ) 22: 24النمل
وهكذا نرى الهدهد قد بدأ خطابه لسليمان بشيء عجيب ، إذ قال له : (أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ) فالهدهد (( يعرف حزم الملك سليمان وشدته ، ولذلك بدأ حديثه بمفاجأة تطغى على موضوع غيبته ، وتضمن إصغاء الملك له … وأي ملك لا يستمع وأحد رعاياه يقول له : (أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ) ، فعليك أيها المسلم أن تكون ذكيا في خطابك ، وأن تفلح في جذب استماع المخاطبين ، حتى تتمكن من إيصال رسالتك ، وأن تكون متأدبا بين يدي من تخاطب ،وأنظر أخي المسلم إلى قول الهدهد : (أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ) : قال الشوكاني معلقا : ( والإحاطة العلم بالشيء من جميع جهاته )
ويقول الطاهر بن عاشور : (والإحاطة : الاشتمال على الشيء وجعله في حوزة المحيط ، وهي هنا مستعارة لاستيعاب العلم بالمعلومات) ، فالهدهد لم يقنع بأخذ طرف من الأخبار ، وإنما مازال ببلقيس وقومها حتى ( أحاط ) بأخبارهم ، وفي هذا من الدقة والضبط ما لا يخفى . فالواجب علينا دائما ألا نبادر إلى الحكم على الشيء حتى نحيط به ، ونلم بجوانبه ، ونتثبت منه . ومِنَ الْهُدْهُد نتعلم : أدب الحوار ، فمن أدب هذا الهدهد في حواره مع الملك سليمان عليه السلام ،أنه حين أخبر سليمان عليه السلام بخبر بلقس وقومها وكفرهم بالله ، لم يقل للملك سليمان : اذهب فأمرهم بالتوحيد والسجود لله ، وإنما قال : (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ) . فالهدهد ألمح بالحل ، ولم يأمر به ، واقترح ولم يفرض ، وعرض ولم يصرح بالتكليف ، وبمثل هذا الأسلوب يمكن أن نكسب المتحاور ، ونحقق الهدف.
ومِنَ الْهُدْهُد نتعلم : فحين أخبر الهدهد سيدنا سليمان بفرضية وحتمية السجود لله ، عرض ذلك بكلمات مؤثرة وعبارة بارعة ، حيث قال : ( أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) 25،26 النمل ، فقد اختار الهدهد في عباراته وصف الله بالعظمة وذلك تذكيرا للملك سليمان بأن هناك من هو أعظم منه ، ومحاولا بذلك أن يخفف من غضب الملك سليمان عليه السلام عليه ،
فيذكره بعظمة الله وقدرته عليه ، وكما جاء في كلام الحكماء قولهم : ( إذا دعتك قدرتك إلى ظلم الناس ، فتذكر قدرة الله عليك ) .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (مِنَ الْهُدْهُد نتعلم ): (فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومِنَ قصة الْهُدْهُد نتعلم : ففي قصة سليمان مع الهدهد ، ما يبين ويظهر لنا قيمة العلم ، ومنزلة العلماء وقدرهم ،
يقول ابن القيم : ( إن سليمان لما توعد الهدهد بأن يعذبه عذابا شديدا ، أو يذبحه ، إنما نجا منه بالعلم ، وأقدم عليه في خطابه له بقوله : (أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ) خبرا ، وهذا الخطاب إنما جرأه عليه العلم ، وإلا فالهدهد مع ضعفه لا يتمكن من خطابه لسليمان مع قوته بمثل هذا الخطاب لولا سلطان العلم ) ، وهكذا ارتفع الهدهد بالعلم ، والعلم دائما يرفع صاحبه ، قال تعالى : (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) المجادلة (11) ، وقال تعالى :(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (9) الزمر ، ولهذا قال الربيع : والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلى هيبة له ، وقال وهب بن منبه : يتشعب من العلم الشرف وإن كان صاحبه دنيئا ،والعز وإن كان مهينا ، والقرب وإن كان قصيا ، والغنى وإن كان فقيرا ، والمهابة وإن كان وضيعا ) ، وعن الفضيل قال : عالم عامل بعلمه يدعى كبيرا في ملكوت السموات ، ولعل مما يشهد لنا في هذا المقام خبر عرش بلقيس ، فقد أخبر الله أن عفريتا من الجن ، ( والعفريت هو الشديد الذي لا يصاب ولا ينال ) وقد وعد هذا العفريت سيدنا سليمان أن يأتيه بالعرش قبل أن يقوم من مقامه ، بينما وعده الذي عنده علم من الكتاب أن يأتيه به قبل أن يرتد إليه طرفه ، قال الله تعالى : (قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (38): (40) النمل ، فليس المقياس إذا بالقوة ، ولا بالنسب ، ولا بالمال … وإنما هو علم يقود للتقوى .
الدعاء