خطبة عن (فتنة الأولاد) (إِنَّ الْوَلَدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ)
يناير 6, 2018خطبة عن قوله تعالى (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)
يناير 6, 2018الخطبة الأولى (الوصايا العشر في سورة الأنعام )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : ” قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ” (الأنعام،:151-153).
إخوة الإسلام
حديثنا اليوم -إن شاء الله- عما يُعرف عند العلماء ( بالوصايا العشر في سورة الأنعام ) ، وقد سميت هذه الوصايا (بالوصايا العشر) :لأن الله تعالى جمعها في آيات متتالية ، وفي مكان واحد من السورة ، وفيها ختم سبحانه وتعالى كل وصية منها أو كل آية منها بقوله تعالى : (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) ، والوصية هي: العهد بالشيء عهداً مؤكداً، فكأن الله تعالى عهد إلينا بهذه الأشياء وتلك الوصايا عهداً مؤكداً محتماً علينا .وفي هذه الآيات يأمر الله تعالى نبيَّه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول لأتباعه المؤمنين: تعالَوا أُبيِّن لكم ما حرَّم ربكم عليكم، وعليكم بفعل هذه الأمور، فالآيات تضمَّنت مأمورات بتركهنَّ ، ومأمورات بفعلهنَّ، وهذه الأشياء التي سيوصي بها الله قد حرّم الله علينا مخالفتها، فلابد أن نقوم بها على الوجه الأكمل ، وفي قوله تعالى: (مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) ولم يقل : (ما حرم الله عليكم ) ، لأن الرب هو الذي له التصرف المطلق في المربوب ، والرب هو الذي يملك أن يتصرف فيهم بما شاء من الأمر الكوني والأمر الشرعي .
ثم نأتي إلى الوصية الأولى: وهي قوله تبارك وتعالى: ﴿ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا ﴾، وفيها النهي عن الشرك: والشرك هو صرْف شيءٍ من العبادة لغير الله تبارك وتعالى، والشرك هو أكبر معصية وهو أكبر كبيرة، وهو الذنب الوحيد الذي لا يُغفر؛ قال الله تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 48]، وقال سبحانه مُبينًا خطرَ الشِّرك: ﴿ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾ [الحج: 31]. وقد أخبرنا الله تبارك وتعالى أن الجنة مُحرمة على المشركين، وأنَّ مأْواهم النار، فقال تعالى: ﴿ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [المائدة: 72]، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم لأمته خطر الشرك، وأنه سببٌ في دخول النار والحرمان من الجنة ، ففي صحيح مسلم (عَنْ جَابِرٍ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُوجِبَتَانِ فَقَالَ « مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ ».
ثم ننتقل إلى الوصية الثانية: وهي قوله تعالى: ﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾، وفيها الوصية بالإحسان للوالدين: فحق الوالدين عظيم؛ ولذا فقد أوصى الله تبارك وتعالى بالإحسان إليهما في هذه الآية، وفي سور متعددة ، منها قوله تعالى : ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [العنكبوت: 8]، وفي الصحيحين (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ « أَحَيٌّ وَالِدَاكَ ». قَالَ نَعَمْ. قَالَ « فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ ». وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « رَغِمَ أَنْفُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ ». قِيلَ مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ » (أخرجه مسلم ) ، وقوله : «رغم أنف» : أي ألتصق بالتراب ، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ ». رواه الترمذي ، وفي الصحيحين (عَنْ أَنَسٍ – رضى الله عنه – قَالَ سُئِلَ النَّبِىُّ – صلى الله عليه وسلم – عَنِ الْكَبَائِرِ قَالَ « الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ »
ونأتي إلى الوصية الثالثة: قوله تعالى: ﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ﴾، وهي الوصية بالنهي عن قتل الأولاد خشية الفقر: فقد أوصى الله تبارَك وتعالى الآباء بعدم قتْل الأبناء خشية الفقر، فإنه سبحانه هو الرزاق، يرزقُ الأبناء والآباء ،؛ قال الحافظ ابن كثير: “لما أوصى الله تعالى بالوالدين والأجداد، عطف على ذلك الإحسان إلى الأبناء والأحفاد، فقال تعالى: ﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ ﴾؛ وذلك أنهم كانوا يقتلون أولادهم كما سوَّلت لهم الشياطين ذلك، فكانوا يَئِدون البنات خشية العار، وربما قتلوا بعض الذكور خشية الافتقار؛ ولهذا ورد في الصحيحين (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ قَالَ « أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهْوَ خَلَقَكَ » . ثُمَّ قَالَ أَيُّ قَالَ « أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ » . قَالَ ثُمَّ أَيُّ قَالَ « أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ » ،والفطرة التي فطر الله الناس عليها أن أودع في قلوب الوالدين محبة الولد والشفقة عليه والحزن على فراقه ، فالولد ثمرة الفؤاد، ومهجة الأرواح ، فقد روى الترمذي (عَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلاَئِكَتِهِ قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِى. فَيَقُولُونَ نَعَمْ. فَيَقُولُ قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ. فَيَقُولُونَ نَعَمْ. فَيَقُولُ مَاذَا قَالَ عَبْدِى فَيَقُولُونَ حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ. فَيَقُولُ اللَّهُ ابْنُوا لِعَبْدِى بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ »
أما الوصية الرابعة: قوله تعالى: ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾، فهي وصية بالنهي عن قربان الفواحش بأنواعها : والفاحشة هي كل ما عَظُمَ قبحُه من الأقوال والأفعال، وقد كان ابن مسعود يقول: “لا أحدَ أغيرُ من الله، ولذلك حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شيء أحبَّ إليه المدحُ من الله، ولذلك مدَح نفسه” وفي قوله تعالى : ﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾ ، قال البغوي رحمه الله : ما ظهر يعني العلانية، وما بطن يعني السر، وكان أهل الجاهلية يستقبحون الزنا في العلانية ولا يرون به بأسًا في السر، فحرم الله الزنا في العلانية والسر(ذكره الطبري في تفسيره ).وقال القرطبي رحمه الله : قوله : ما ظهر : نهي عن جميع الفواحش وهي المعاصي، وما بطن : ما عقد في القلب من المخالفة (كما في تفسيره الجامع ) .
ثم نأتي إلى الوصية الخامسة: قوله تعالى: ﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ﴾، الوصية بالنهي عن قتْل النفس التي حرَّمها إلا بالحق: فلا شك أن منزلة الإنسان عند الله عز وجل – منزلة عظيمة، كيف لا والله جلَّ ذكره يقول : “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ” (الإسراء: 70) .ولهذا كُتب على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا فكأنما قتل الناس جميعًا والعكس، فقال تعالى : “مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا” (المائدة،: 32)، فنهى الله تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة ، وفي تلك الوصية البليغة عن قتْل النفس المعصومة، التي لا يجوز قتلها بغير حقٍّ، وقد قال الله مبينًا جُرم هذه الفَعلة: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 93]، وروى البخاري (عَنِ ابْنِ عُمَرَ – رضى الله عنهما – قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا » ،وقال ابن سعدي مبينًا من هي النفس المعصومة: “وهي النفس المسلمة؛ من ذكر وأنثى، صغير وكبير، بَر وفاجر، والكافرة التي قد عُصِمت بالعهد والميثاق: ﴿ إِلا بِالْحَقِّ ﴾؛ كالزاني المحصن، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة” ، ففي الصحيحين (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالثَّيِّبُ الزَّانِي ، وَالْمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ الْجَمَاعَةَ »
أما الوصية السادسة: قوله تعالى:﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ ، النهي عن أموال اليتامى إلا بالتي هي أحسن: وقد قال ابن منظور : اليتيم في الناس : فقد الصبي أباه قبل البلوغ ، ففي هذه الوصية نهى الله عن مقاربة مال اليتيم، ومن باب أَولى أكْله، إلا بالتي هي أحسن، وقال الله تبارك وتعالى مُحذرًا من أكل أموال الناس: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10]. وقال الذهبي رحمه الله : قال العلماء : فكل ولي ليتيم إذا كان فقيرًا فأكل من ماله بالمعروف بقدر قيامه عليه في مصالحه وتنميته ماله فلا بأس عليه، وما زاد على المعروف فسُحت حرام ، يقول تعالى : “وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ” (النساء، : 6) وعدَّ النبي صلى الله عليه وسلم أكل مال اليتيم من الموبقات المهلكات ، ففي الصحيحين (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ ». قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ قَالَ « الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَأَكْلُ الرِّبَا وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ ».
ونأتي إلى الوصية السابعة: قوله تعالى: ﴿ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ﴾، أوصى الله بالأمر بإيفاء المكيال والميزان بالقسط: ويأمر الله في هذه الآية ، وتلك الوصية ، بإقامة العدل في الكيل والوزن، وكما قال نبي الله شعيب عليه السلام لقومه: ﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ﴾ [هود: 84]، قال الحافظ ابن كثير: “أمَر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء، كما توعَّد على ترْكه ، وكما في قوله تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ..﴾ ، إلى قوله: ﴿ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [المطففين:1-6]، قال ابن كثير رحمه الله : المراد بالتطفيف هنا البخس في المكيال والميزان إما بالازدياد إن اقتضى من الناس، وإما بالنقصان إن قضاهم؛ ولهذا فسر تعالى المطففين الذين وعدهم بالخسار والهلاك، وهو الويل بقوله تعالى : “الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ” وقوله تعالى: ﴿ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾؛ أي: مَن اجتهَد في أداء الحق وأخْذه، فإن أخطأ بعد استفراغ وُسْعه وبذْل جُهده، فلا حَرَج عليه”
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الوصايا العشر في سورة الأنعام )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وأما الوصية الثامنة: قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾، أوصى الله وأمر بقول الحق والعدل فيه ولو كان على أُولي القربى: فعلى الانسان أن يَعدِل في أقواله وأفعاله حتى مع أقرب الناس إليه؛ كما قال في آية أخرى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾ [النساء: 135]. وقال الطبري رحمه الله : «يعني تعالى ذكره بقوله : “وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا” أي إذا حكمتم بين الناس فتكلمتم فقولوا الحق بينهم واعدلوا وأنصفوا ولا تجوروا، ولو كان الذي يتوجه الحق عليه والحكم ذا قرابة لكم، ولا يحملنكم قرابة قريب أو صداقة صديق حكمتم بينه وبين غيره أن تقولوا غير الحق فيما احتكم إليكم فيه» ، وقال البغوي رحمه الله : «”وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا” في الحكم والشهادة ولو كان ذا قربى ولو كان المحكوم والمشهود عليه ذا قرابة ، وقال ابن كثير رحمه الله : يأمر تعالى بالعدل في الفعال والمقال على القريب والبعيد، والله يأمر بالعدل لكل أحد في كل وقت وفي كل حال ـ وفي صحيح مسلم : (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا ».
ثم نأتي إلى الوصية التاسعة: قوله تعالى: ﴿ وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ﴾،أوصى الله وأمر بإيفاء العهد : ومعنى الوفاء بالعهد : امتثال ما أمر الله به ورسوله، واجتناب ما نهى الله عنه ورسوله، قال الطبري رحمه الله : “وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا” يقول : وبوصية الله التي أوصاكم بها فأوفوا، وإيفاء ذلك أن يطيعوه فيما أمرهم به ونهاهم عنه، وأن يعلموا بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك هو الوفاء بعهد الله ، وقال القرطبي رحمه الله : “وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا” عام في جميع ما عهده الله إلى عباده، ويحتمل أن يراد به جميع ما انعقد بين إنسانين وأضيف ذلك العهد إلى الله من حيث أمر بحفظه والوفاء به ، وقال ابن الجوزي رحمه الله : وعهد الله يشتمل على ما عهده إلى الخلق وأوصاهم به، وعلى ما أوجبه الإنسان على نفسه من نذر وغيره ،وفي قوله تعالى :﴿ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾؛ أي :هذا الذي أوصاكم به وأمركم به، وأكَّد عليكم فيه ﴿ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾؛ أي: تتَّعظون وتنتهون عما كنتُم فيه قبل هذا”
أما الوصية العاشر: قوله تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ﴾، فأمَر الله باتباع صراط الله المستقيم ونهى عن التفرُّق واتباع السبل: فبعد أن ساق الله سبحانه ما تقدَّم من الوصايا وطلب العمل بما جاء من الأوامر، وترك ما نهى عنه سبحانه، وحصل بذلك البيان والإرشاد من تلك الوصايا الجامعة، فاتَّضح طريق الحق وبانَ؛ لأن هذه الوصايا تمثِّل الصراط المستقيم؛ قال سبحانه مشيرًا إليها: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا ﴾، قال الطبري رحمه الله : «وصراطه : يعني طريقه ودينه الذي ارتضاه لعباده، مستقيمًا : يعني قويمًا لا اعوجاج به عن الحق فاتبعوه، يقول : فاعلموا به واجعلوه لأنفسكم منهاجًا تسلكونه» وقال القرطبي رحمه الله : والصراط : الطريق الذي هو دين الإسلام مستويًا قويمًا لا اعوجاج فيه، فأمر باتباع طريقه الذي طرقه على لسان نبيه وشرعه ونهايته الجنة ، فيجب على كل مسلم اجتناب السبل المخالفة للكتاب والسنة كالملل الكافرة كاليهودية والنصرانية والمجوسية وغيرها ، وكالفرق الهالكة كالرافضة والجهمية والمعتزلة وغيرها، ، قال الطبري رحمه الله : يقول : ولا تسلكوا طريقًا سواه، ولا تركبوا منهاجًا غيره، ولا تبغوا دينًا خلافه ) ، فدين الله سبحانه وتعالى وشريعته هي الصراط المستقيم، ثم أمرهم باتباعه، فقال تعالى: ﴿ فَاتَّبِعُوهُ ﴾ ، ونهاهم عن اتباع السُبل المخالفة لهذا المنهج القويم، فقال تعالى : ﴿ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾، قال الحافظ ابن كثير: “أمَر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والتفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلَك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله ونحو هذا، وروى الإمام أحمد بسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَطًّا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ « هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ مُسْتَقِيماً ». قَالَ ثُمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ « هَذِهِ السُّبُلُ لَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلاَّ عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ ». ثُمَّ قَرَأَ (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ). وفي هذه الوصايا العشر جمع الله سبحانه وتعالى بين الأمر باتِّباع سبيل الحق، والنهي عن سبيل الضلال
الدعاء