خطبة عن ( احذر السيئات الجارية )
مارس 10, 2018خطبة عن (قصة أَصْحَاب الْأخدود دروس وعبر)
مارس 10, 2018الخطبة الأولى ( لطائف ووقفات مع سورة القصص )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29] ، ويقول سبحانه: ﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]
إخوة الإسلام
لقد أمرَنَا اللهُ سبحانَهُ وتعالى أَنْ نقرأَ القرآنَ الكريمَ، وأن نفهَمَ معانِيَهُ، ونتدبَّرَهُ لِنُدرِكَ مرامِيَهُ، فالمتدبر لآيات القرآن العظيم يزداد إيمانه، ويتضح له الطريق الموصلة إلى الله ،وكلما كانت قراءة القرآن عن تدبر وتعقل كان وقعها في النفس أكبر، وكان لها أثر في سلوك الإنسان، ولهذا لمَّا سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في مسند أحمد (قَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ) ، فكان صلى الله عليه وسلم يتمثل القرآن منهجاً لحياته قراءةً وتدبراً وتطبيقاً، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: “لا تهذُّوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكن همُّ أحدكم آخر السورة”. وقال الامام علي بن أبي طالب: “لا خير في قراءة لا تدبر معها”. وقال ابن مسعود: “إن أحدكم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط حرفاً وقد أسقط العمل به”
أيها السلمون
وموعدنا اليوم -إن شاء الله- مع لطائف ووقفات مع سورة القصص ، ومن تلك اللطائف والوقفات : أولا : في قوله تعالى: ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) القصص 4، ـ يتبين لنا – نحن معشر المسلمين – إن من دهاء ومكر العدو أو الحاكم الظالم الجائر أن يجعل أهل الدولة التي يتسلط عليها شيعًا ، ويستعين بإحداهن على الأخرى ، وذلك الديدن تجده اليوم في تسلط العدو على بلاد المسلمين ، وكيف استفاد من جعل أهلها شيعًا ، فاستضعفوا طائفة على حساب قوة طوائف أخرى . ثانيا : في قوله تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُون ) القصص 5، 6، ـ لقد جاءت في الآيات الأفعال : (نريد ، نمن ، نجعلهم ، نمكن لهم )على صيغة واحدة ، وهي الفعل المضارع المبدوء بنون العظمة ، والدال على الاستقبال ، وفيها إشارة إلى الاختيار الإلهي المحض لهؤلاء القوم في أن ينصرهم الله ويمكنهم ممن اضطهدهم وآذاهم ، لكن متى تحقق لهم ذلك ؟ لقد عاشوا أول أمرهم مضطهدين من فرعون وقومه ، ثمَّ أنقذهم الله بموسى وهارون ، ولكن ذلك الجيل الذي عاش حياة الذل لمَّا يتأدب بأدب النبوة ، ويتربَّى بتربية الرسالة الموسوية ؛ إذ لما طُلِب منهم ـ بعد خروجهم من مصر ـ أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم ترددوا ، وراجعوا موسى في ذلك ، حتى انتهى بهم الأمر إلى أن يقولوا : (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) المائدة (24) ، فيا للخزي والعار لقوم يقولون لنبيهم هذا القول ، فهذا يبين لنا أن هذا الجيل المهزوم لم يكن له شرف حمل الرسالة ، والحصول على الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم فترة من الزمن ، فضرب الله عليهم عقوبته بالتيه في صحراء سيناء أربعين سنة ، عاشوا فيها ، فمات من مات من جيل الهزيمة ، ووُلِد جيل عاش شظف العيش ، ومارس شدائد الحياة الصحراوية ، فكان الفتح على يديه بعد أن انتقل موسى وهارون إلى الرفيق الأعلى في زمن التيه ، فانظر ؛ كم هو الفرق بين الوعد وتحقيقه ؟ ولكن الناس يستعجلون النصر . وإذا تأملت واقعنا اليوم وجدتنا نعيش شيئًا من واقع تلك الأمة المخذولة التي ضُرب عليها التيه ، واستكانت للراحة والدعة ، وكرهت معالي الأمور التي لا تأتي إلا بعد الكدِّ والجدِّ والتعب ، فلا ترانا نزاحم على القوة العظمى ، ونقنع بالدون والهوان ، ، والله غالب على أمره ، والأمر كما قال تعالى: (وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) محمد (38)،ولن يأتي ذلك إلا بالتغيير، كما قال الله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) (11) الرعد، فإذا حصل ذلك ، جاء الجيل الذي أشار الله سبحانه إليه بقوله تعالى: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) المائدة 54، ثالثا : في قوله تعالى : (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) القصص (6) ، ففي ذلك دلالة على أن نصر الله للمؤمنين ، وأن مكره بالكافرين ، لا يمنعه ولا يقف أمامه ما يدعيه الأعداء من اتخاذ التدابير اللازمة لردع العدوان ، والحذر الشديد ، وسد كل الثغرات التي قد ينفذ منها المؤمنون ، فهم يتوقعون ويحذرون ويدرسون ويضعون الخطط المستقبلية لمنع وقوع أي اختراقات لصفوفهم ، ولكن الله يريهم فوق هذا كله من أوليائه المؤمنين ما كانوا يحذرونه منهم ، ويظنون أنهم لا يصلون إليه ، وقد وقع بالفعل ما كان يحذره فرعون ، فهلك ومن معه على يد من كانوا يتوقعون منه ذلك وهم بنو إسرائيل ، ونصر الله موسى ومن معه ، وكذلك ينصر الله أولياءه في كل زمان ومكان. وفيها أيضاً دلالة على أن الظالم الطاغية لا يصنع شيئاً بمفرده ، وأنه لا يصل إلى ظلم الناس ، والتسلط عليهم إلا بمعونة ومظاهرة من بطانة تعينه على الظلم ، وتزين له الباطل ، كما فعل هامان وزيره ، وجنوده الذين يستجيبون له في ظلم الناس وقهرهم ، والتسلط عليهم. وهذا حال الطغاة في كل زمان ومكان ، فلو وجد الظالم من يمتنع عن الاستجابة لأمره بالباطل ، ومن ينصحه ويرده للصواب ، لما وصل لكثير مما يحصل له . وقديماً قالت العامة في أمثالها : قيل لفرعون : ما الذي فرعنك ؟ قال : لم أجد من يردعني ، وفيها أيضاَ دليل على أن الذل الذي يلحق بالحاكم الظالم، لا يسلم منه أعوانه وجنوده، فكل من كان عونا للظالم فهو زائل بزوال الظالم. وفيها أيضاَ إشارة إلى أن من الإهانة للطاغية الظالم وأعوانه ، أن يبقيهم الله حتى يروا بأعينهم نهايتهم وذلهم ، وتمكن أهل الحق من الأمر ، واستخلافهم في الأرض، وهذا أبلغ في إهانتهم وعذابهم من إهلاكهم قبل تمكين جنود الله من زمام الأمور ، وليس الخَبَرُ كالمعاينة. رابعا : في قضاء الله لطف وخفاء عجيب ،لا يمكن إدراكه إلا بعد وقوعه ، فانظر كيف توعَّد فرعون وهامان وجنودهما ، فقال تعالى : (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) القصص (6) ،فقدَّر الله ـ من حيث لا يشعرون ، ولا يستطيعون ردَّ قضائه مهما بلغوا من قوة أو علم ـ أن يكون بيت فرعون حاضنًا لعدوِّه الذي سينهي أمره ، فبالله عليك ، أترى قوة في الأرض تستطيع إدراك هذا القدر قبل وقوعه ، فتتقيه ، ولو قرأت في التاريخ ، ونظرت في قصص من حولك ، لوجدت مثل تلك الصورة ، فكم من امرئ أنعم على عبد من عباد الله ، وكان ذلك العبد سببًا في هلاكه ، أو زوال أمره ، أو موته ؟ خامسا : في قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) القصص 7، ـ لقد جاء الولد المختار الذي سيكون هلاك فرعون وقومه على يديه من بني إسرائيل ، وجاء وهم يقتلون الأبناء ، فانظر لطف الله ، ورعايته ، ودقيق قدره في تخليص موسى عليه السلام من القتل ؟ ـ أرأيت لو كنت متجرِّدًا من معرفة هذا الخبر ، وقيل لك : إن امرأة وضعت ابنها في تابوت ، وألقته في النهر ، تريد له الأمان ، أفكنت ترى ذلك من العقل والحكمة في شيء ؟ ،إن هذا الموضوع لو كان عُرِض عليَّ وعليك ، لقلنا : إنه مجانب للعقل والحكمة. ، ولكن الذي أمر بذلك هو من يعلم السرَّ وأخفى ، فألقته أمه في اليمِّ ، وسار التابوت برعاية الله له ، فهو الذي أمر ، فأنَّى لمخلوق أن يؤذي هذا الرضيع ، وتابوته يتهادى بين مياه النهر ؟ ـ وإن في إرضاعها لموسى أول الأمر سرًا لطيفًا ، وهو أن هذا الطفل سيتذكر ذلك الثدي الذي أرضعه الحليب أول مرة ، فإذا عُرض على المراضع لم يأنس بها ، وانتظر ما بقي في ذاكرته الطفولية من ذلك الثدي الأول ؛ إنه إلهام الله ، وتقديره الخفي الذي لَطُف فدقَّ ، ولَطَفَ فرفق ـ وفي قوله تعالى : (وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) القصص 7، تأمَّل البشارتين كيف جاءتا مؤكَّدتين تأكيدًا بليغًا يتناسبان مع موقف تلك الأم المفطورة في ولدها ، فيا لَقلب تلك الأم المسكينة ، التي ألقت ابنها في اليم ، وأصبح قلبها خاليًا من كل شيء سوى ذكر موسى ، فكادت ـ ولم تفعل ـ أن تخبر بأنه ابنها ، وليكن ما يكن ، ولكنَّ لله أمرًا لابدَّ أن يمضي على تقديره ، فربط على قلب الأم ؛ ثبَّتها وصبَّرها حين لات صبر ، ثم بدأت تفعل بالأسباب ، فقالت لأخته : اتبعي أثره ، وانظري أمره ، فكان ما كان من رجوعه ، وتحقق وعد الله لها ، فيالها من فرحة عاشتها أم موسى ، وهنيئًا لها البشارة الثانية بالرسالة .
سادسا : في قوله تعالى 🙁 يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ ..) القصص 4، إشارة إلى أن هناك من لم يقع عليه الاستضعاف ، ولم ينله تأثير هذا الإرهاب الذي مارسه فرعون على بني إسرائيل ، إما لقوة يقينهم وصبرهم ، وإما لأسباب أخرى ، وهؤلاء هم الذين يحفظ الله بهم توازن المجتمع من الانهيار ، والهزيمة النفسية، وهذا من رحمة الله بالمؤمنين ، وحفظه لهم ، فلو تمكن العدو والظالم من هزيمة الجميع نفسياً لما كان هناك بقية للقيام والنهوض والمقاومة ، ولله الحكمة البالغة ، ولعل تربية موسى عليه الصلاة والسلام في بيت فرعون قد أبعدت عنه ذلك الشعور بالضعف والهزيمة النفسية ، مما مهد لقيامه بأمر الله سبحانه وتعالى بعد ذلك ،ويرى بعض العلماء أن الطائفة المشار إليها، هم بنو إسرائيل، فإن الله سبحانه قد قال: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا) القصص 4، فقد مايز فرعون بين أهل الأرض، فاستضعف بعضهم فقتّل أبناءهم، واستحيا نساءهم، وهم بنو إسرائيل، وطائفة أخرى – وهم قومه – لم يستضعفهم، ولم يصنع بهم مثل ما صنع بغيرهم، فلم يكن ذلك لقوتهم أو إيمانهم، وإنما نتيجة للسياسة التي اتخذها. وتقسيم الحكام للشعوب إلى شيع وطوائف حاصل اليوم لدى كثير من الطغاة المعاصرين، فطائفة يرجى منها خدمة الطاغية، سواء أكانوا من قرابته أو معاونيه، وهؤلاء لهم عناية ورعاية خاصة، وهم ممكنون مخدومون.. وطائفة أخرى يخشى منها على الطاغية فيلجأ الطاغية لاستضعافهم وجعلهم في الخدمة. سابعا : إن الطغاة يبذلون كل ما في وسعهم للحفاظ على كراسيهم، فلا يتورعون عن أي فعل، ولا يتحرجون من أي جريمة في سبيل ذلك، حتى ولو أدى ذلك إلى سفك دماء الأبرياء دون أي ذنب ارتكبوه، بل دون أي شبهة، ولا يوجد في قاموس الطغاة ،ما حكم الله به : (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) الانعام 164، بل إنهم يعاملون الإنسان على الظن، وإن كان هذا الظن بنسبة ضئيلة جدا، وهذا ما صنعه فرعون، قال الله تعالى على لسانه : (قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) الاعراف (127)، فها هو فرعون يقتل الصبيان، خشية أن يكون في بني إسرائيل من يكون زوال ملكه على يديه، دون أن يميز بين شخص وآخر، فهو يقتل أعدادا كبيرة، لخشيته من شخص واحد. كما أنه لا يوجد في قاموس الحكم الذي لا يلتزم بالمنهج الإسلامي أمور محرمة، فكل الوسائل مباحة ما دامت لحماية الحاكم، وقد قال الله تعالى عن فرعون: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ) غافر 26،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( لطائف ووقفات مع سورة القصص )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ثامنا : في قوله سبحانه: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) القصص (5) ، لم يذكر الله سبحانه وتعالى مَن الذين سيمن عليهم ويمكنهم في الأرض بأسمائهم، وإنما ذكرهم بوصفهم (الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا)، وفي هذا سر لطيف، فإنه من الطبيعي أن ينتقل الملك من قبيلة إلى أخرى، ومن شخص إلى شخص، ولكن أن ينتقل الملك إلى الطبقة المستضعفة المغلوبة على أمرها فذلك أمر لا يتوقعه البشر بعلمهم القاصر، فالتمكين سيكون للمستضعفين في الأرض. وفي هذا بيان لحكمة الله سبحانه في نزع الملك من طائفة إلى طائفة، وعبرة في تحول الملك وزواله من قوم إلى قوم، ويشهد لذلك قوله سبحانه: ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) آل عمران (26) ، وقوله سبحانه: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) آل عمران (140) ، تاسعا : في قوله تعالى : (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) القصص 13، ففي هذه الآية تحذير من التعلق بالأسباب المادية ونسيان المسبب سبحانه ،فإذا رأى الناس السبب متشوشا ( أي الأسباب غامضة وغير مواتية )، شوش ذلك إيمانهم، لعدم علمهم الكامل، أن اللّه تعالى يجعل المحن الشاقة والعقبات الشاقة، بين يدي الأمور العالية والمطالب الفاضلة، فاللّه يقدر على عبده بعض المشاق، ليُنيله سرورا أعظم من ذلك، أو يدفع عنه شرا أكثر منه، لقد قدر الله على أم موسى ذلك الحزن الشديد، والهم البليغ، الذي هو وسيلة إلى أن يصل إليها ابنها، على وجه تطمئن به نفسها، وتقر به عينها، وتزداد به غبطة وسرورا. عاشرا : وفي قوله تعالى : (لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) القصص 10، يُستشهد بذلك أن الإيمان يزيد وينقص، وأن من أعظم ما يزيد به الإيمان، ويتم به اليقين، الصبر عند البلاء والمصائب والمزعجات، وأن التثبيت من اللّه، عند المقلقات، وأن من أعظم نعم اللّه على عبده، و[أعظم] معونة للعبد على أموره، تثبيت اللّه إياه، وربط جأشه وقلبه عند المخاوف، وعند الأمور المذهلة، فإنه بذلك يتمكن من القول الصواب ، والفعل الصحيح ، بخلاف من استمر قلقه وروعه، وانزعاجه، فإنه يضيع فكره، ويذهل عقله، فلا ينتفع بنفسه في تلك الحال. الحادي عشر : في قوله تعالى على لسان نبيه موسى عليه السلام : ( قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا ألِلْمُجْرِمِينَ ) القصص 17، فهذا يفيد أن النعم تقتضي من العبد فعل الخير، وترك الشر. الثاني عشر : في قوله تعالى : (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) القصص 24، والمعنى: إني مفتقر للخير الذي تسوقه إليَّ وتيسره لي، وهذا سؤال منه بحاله، والسؤال بالحال أبلغ من السؤال بلسان المقال. وفيه استحباب الدعاء بتبيين الحال وشرحها، ولو كان اللّه عالما لها، لأنه تعالى، يحب تضرع عبده وإظهار ذله ومسكنته له . الثالث عشر : لقد قص الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم علينا الكثير عن بني إسرائيل ،وما وقع لهم ،وكذلك ما وقع منهم ،أكثر مما حكى عن غيرهم من الأمم الماضية – وذلك ليحذر الأمة المسلمة من الوقوع في مثله ، حتى لا تسلب منهم الخلافة في الأرض ، والأمانة التي كلفهم بهم ، فلما فعل المسلمون ما وقع فيه بنو إسرائيل ، و طرحوا منهج الله وشريعته ، و حكَموا أهواءهم و شهواتهم : ضربهم الله بما ضرب به بني إسرائيل من قبل من الفرقة والضعف ، والذلة و الهوان ، والشقاء والتعاسة – إلا أن يستجيبوا لله ورسوله ، وإلا أن يخضعوا لشريعته وكتابه ، وإلا أن يفوا بعهد الله ويذكروا ما فيه لعلهم يهتدون . وهذا الذي ذكره هو حال أمتنا اليوم في مشارق الأرض ومغاربها : فرقة وضعف ، وذلة وهوان ، حتي استبيحت أرضنا و بلادنا –كما استبيحت مقدساتنا ، بل وأحد أعز مقدساتنا – المسجد الأقصى المبارك ، و غيره مما لا يعد ولا يحصى ، وكذا استبيحت وانتهكت أعراض نسائنا– وأصبح اليهود سادة علينا ، ويحتلون أرضنا ،ويغزون بلادنا متى شاءوا ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أما إذا انتفعت الأمة بالبلاء ، وجازت الابتلاء ، وخافت فطلبت الأمن، وذلت فطلبت العزة ، وتخلفت فطلبت الاستخلاف – كل ذلك بالوسائل التي أرادها الله وبشروطه التي قررها – تحقق وعد الله الذي لا يتخلف ، ولا تقف في طريقه قوة من قوى الأرض جميعا ،ولينصرن الله من ينصره ألا إن الوعد قائم ، و الشرط واضح و قائم كذلك ، فلنف بالشرط ، ليتحقق الوعد ، و إلا فلا
الدعاء