خطبة عن: قيام الليل (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ)
يوليو 14, 2018خطبة عن قوله تعالى :(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ)
يوليو 14, 2018الخطبة الأولى (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِه )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الترمذي بسند حسن صحيح : (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا ».
إخوة الإسلام
في هذا الحديث النبوي الشريف ، يحث ويرغب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته على (التوكل على الله) ، مع الأخذ بالأسباب ، فلو حقق الناس التوكل على الله بقلوبهم ، واعتمدوا عليه سبحانه وتعالى اعتمادًا كليًّا في جلب ما ينفعهم ، ودفع ما يضرهم ، وأخذوا بالأسباب المفيدة ، لساق الله إليهم أرزاقهم مع أدنى الأسباب، كما يسوق إلى الطير أرزاقها بمجرد الغدو والرواح، وهو نوع من الطلب ،ولكنه سعي يسير، ومن المؤكد أن تحقيق التوكل على الله لا ينافي السعي في الأسباب التي قدرها الله سبحانه وتعالى ، وجرت سننه في خلقه بذلك ، فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل، فقال تعالى لمريم : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) (25) مريم ، فأمرها بالأخذ بالأسباب بقوله تعالى : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) ، ووعدها بالرزق بقوله تعالى : (تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ) ، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة، والتوكل بالقلب عليه إيمان به، قال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) المائدة 11، فالتوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها الانسان عجز محض ، وإن كان مشوبًا بنوع من التوكل، فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزًا ولا عجزه توكلاً، بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلاَّ بها ، وَفِي الحَدِيْثِ إِشَارَةٌ لِهَذَا؛ فَالطَّيْرُ الجَائِعَةُ تَبْحَثُ عَنْ مَا يَسُدُّ رَمَقَهَا فَتَجِدُ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهَا، بعد سعيها بغدوها ورواحها ، مع توكلها على خالقها . فَالله سبحانه وتعالى أوجدنا في دنيا الأسباب ، وأمرنا أن نأخذ بها ، فالعَالِمُ لَا يَكُوْنُ عَالِماً إِلَّا إِذَا جَلَسَ مَعَ العُلَمَاءِ ،وَنَظَرَ فِي الكُتُبِ، والزارع لا يحصد إلا إذا بذر وروى وتعهد زراعته ، وهكذا ، أَمَّا مُجَرَّدُ اللَّفْظِ بِالتَوَّكُّلِ دُوْنَ الأَخْذِ بِالأَسْبَابِ فَهُوَ التَّوَاكُلُ، وقد ذَكَرَ الإِمَامُ البَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شُعَبِ الإِيْمَانِ أَنَّ عُمَرَ بن الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّ بِأَهْلِ اليَمَنِ فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: نَحْنُ المُتَوَكِّلُوْنَ. فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمُ المُتَّكِلُوْنَ. أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالمُتَوَكِّلِيْنَ؟ رَجُلٌ أَلْقَى حَبَّةً فِي الأَرْضِ ثُمَّ تَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ. وروى البخاري في صحيحه : (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رضى الله عنهما – قَالَ كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلاَ يَتَزَوَّدُونَ وَيَقُولُونَ نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ ، فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) البقرة 197، وَقَالَ الإِمَامُ التُّسْتَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الطَّعْنُ فِي الحَرَكَةِ (يَعْنِيْ السَّعْيَ) طَعْنٌ فِي السُّنَّةِ، وَالطَّعْنُ فِي التَّوَكُّلِ طَعْنٌ فِي الإِيْمَانِ؛ فَالتَّوَكُّلُ إِيْمَانُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالحَرَكَةُ سُنَّتُهُ، فَمَنْ عَمِلَ عَلَى حَالِهِ فَلَا يَتْرُكَنَّ سُنَّتَهُ. وَعلى هذا فلْيعْلَم المسلمون أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى نَصْرِهم عَلَى أَعْدَائِهم مِنْ دُوْنِ مُقَدِّمَاتٍ ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الأَمْرَ فَقَالَ تَعَالَى: { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} (مُحَمَّدٍ:4). ولكن الله جعل للنَّصْر أَسْبَابا وَكَذَلِكَ الهَزِيْمَةُ، فَمِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ بَعْدَ الِالْتِزَامِ بِشَرْعِ اللَّهِ القِتَالُ لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ سبحانه وتعالى ، فإذا توكل المسلمون على الله ، وأخذوا بأسباب النصر ، كان النصر حليفهم . وكذلك َمَنْ أَرَادَ الرِّزْقَ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى الرَّزَّاقِ، ففي مسند أحمد : (عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَتْلُو عَلَىَّ هَذِهِ الآيَةَ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) الطلاق 2، حَتَّى فَرَغَ مِنَ الآيَةِ ثُمَّ قَالَ « يَا أَبَا ذَرٍّ لَوْ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَخَذُوا بِهَا لَكَفَتْهُمْ ».
أيها المسلمون
ومن الملاحظ أن الناس في باب التوكل على ثلاثة أصناف: الأول : صنف اعتمد بقلبه على الله ، وأقبل عليه ، وترك العمل بالأسباب ، ولم يبذل جهدا في تحصيل المراد ، فهذا مسلك مذموم ، وهو التواكل ، ليس بالتوكل ، الثاني : صنف تعاطي الأسباب ، وبالغ فيها ، ولم يعتمد على الله ، ولم يفوض أمره إليه ، فهذا مسلك مذموم أيضا ، ومخالف للشرع ، لأنه جعل الأسباب الحقيقية مؤثرة ، ومستقلة من جلب الخير ودفع الشر ، وتناسى خالق الأسباب ومسببها وهو الله تعالى ،وهذا مسلك أرباب الدنيا وأهل الغفلة والشهوات ، قال الله تعالى عن قارون ،ومن كان على شاكلته : (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا) القصص 78، ثالثا : صنف جمع بين الاعتماد على الله ،والتوكل عليه ،مع الأخذ بالأسباب التي أذن الله بها ، وهذا هو مسلك أهل التوحيد والسنة، وهو الموافق للشرع، وصريح العقل ، ومقتضى الفطرة السليمة ،لأن المؤثر حقيقة، والمستقل بالنفع والضر ،هو الله تعالى ، ومن سنة الله أن جعل لكل شيء سببا موصلا إليه ،فكان تمام الدين ،وكمال العقل، العمل بهما جميعا. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفوض أمره لله ،ويجرد اعتماده لمولاه ،ومع ذلك يتعاطى الأسباب ،ولا يتحرج من ذلك ،فقد كان يأكل ويشرب ، ويتزوج ،ويتكسب ،ويلبس البيضة والدرع وغيره من آلات الحرب، يتقي بها بأس الكفار ،مع أنه سيد المتوكلين.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِه )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
والمتوكل على الله حق التوكل مطمئن البال ،ومنشرح الصدر ،واثق بالله ،لا يحزن من واقع حاله ،ولا يخشى من المستقبل ، فهو مفوض أمره لله ،إن دعي لطاعة أجاب ، ويتصدق من ماله ولو باليسير ، ويشارك بالخير ، ويوقن بأن الله سيخلف عليه خيرا، ويحسن له العاقبة ، خلافا لأهل الدنيا الذين جمعوا الأموال وتتناوشهم المخاوف ، ويخوفهم الشيطان الفقر ، ويقذف في قلوبهم الوهن والخوف من المستقبل، فيبخلون بمال الله ،ويحرمون أنفسهم من الخير، قال الله تعالى : (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (268) البقرة ، وقال الله تعالى : (هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (38) محمد
أيها المسلمون
ولأن المتوكل واثق بالله ، فالمتوكل على الله شجاع قوي بالله ، إن سئل عن علم صدع بالحق ولم يخش إلا الله ،وفوض أمره لله ،وأيقن أنه لن يصيبه ضر إلا بأمر كتبه الله عليه ، وفي صحيح البخاري (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ( حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ أُلْقِىَ فِى النَّارِ ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ – صلى الله عليه وسلم – حِينَ قَالُوا (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) آل عمران 173، والمتوكلون على الله حقا في الدنيا ،هم من السبعين ألفا في الآخرة الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا سابقة عذاب كما ورد في الصحيحين : (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِى سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ ، هُمُ الَّذِينَ لاَ يَسْتَرْقُونَ ، وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ » ، فينبغي على المؤمن أن يحسن التوكل على الله في حله وترحاله، وفي خوفه وأمنه ، وفي فقره وغناه ، وفي صحته وسقمه ، وفي خلوته وجلوته ، وفي طاعته وعبادته ونسكه وجهاده ، وأن يكون حسن الظن بالله ، مستوثقا بالله ، يائسا مما في أيدي الخلق ، وثقته بالله أعظم مما في يده من الأسباب ، موقنا تمام اليقين أن ما كتب له من أجل ورزق، وسعادة وشقاوة ، وسرور وغم ،ويسر وضر ، كل ذلك بقدر الله.
الدعاء