خطبة عن الظلم (كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لاَ يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ)
سبتمبر 1, 2018خطبة عن قوله تعالى( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ
سبتمبر 1, 2018الخطبة الأولى ( ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (1) :(5) البقرة
إخوة الإسلام
موعدنا اليوم إن شاء الله مع آية من كتاب الله تعالى ، نتدبرها ، ونفهم معانيها ، ونعمل بما جاء فيها ، مع قوله تعالى : (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) البقرة 2، وقد جاء في تفسير البغوي “معالم التنزيل”: قَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَ اللَّهُ قَدْ وَعَدَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنْزِلَ عَلَيْهِ كِتَابًا لَا يَمْحُوهُ الْمَاءُ وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، فَلَمَّا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ قَالَ: هَذَا ذَلِكَ الْكِتَابُ الَّذِي وَعَدْتُكَ أَنْ أُنْزِلَهُ عَلَيْكَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَعَلَى لِسَانِ النَّبِيِّينَ مِنْ قَبْلِكَ، وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ قَبْلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ سُوَرًا كَذَّبَ بِهَا الْمُشْرِكُونَ ثُمَّ أَنْزَلَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَقَالَ تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ ﴾ يَعْنِي مَا تقدم سورة الْبَقَرَةَ مِنَ السُّوَرِ، لَا شَكَّ فِيهِ، وجاء في تفسير الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ ﴾ أَيْ: هذا الكتاب يعني: القرآن ﴿ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾ أي: لاشك فيه أَيْ: إنَّه صدقٌ وحقٌّ وأنه من عند الله عز وجل ، وقيل هو خبر بمعنى النهي أي : لا ترتابوا في هذا الكتاب ، ولا تشكوا في آياته ،وقال الشوكاني : (لَا رَيْبَ فِيهِ ):” ومعنى هذا النفي العام ، أن الكتاب ليس بمظنة للريب؛ لوضوح دلالته وضوحًا يقوم مقام البرهان المقتضي لكونه لا ينبغي الارتياب فيه بوجه من الوجوه “وفي هذه الآية تنبيه لكل من يقرأ هذا الكتاب أنه لن يجد أي خطأ، فلا يتكلف عناء البحث، ولا يتجشم مشقة التفتيش، ولا يحمّل نفسه مؤونة التنقيب، فلن يقف على خلل أيًّا كان مهما حاول ذلك جاهدًا فلا يتعب نفسه، فقد نفى الله عن كتابه كل ريب ، وقال الدكتور مساعد الطيار – وفقه الله – : ” تأمل هذه الثقة في إلقاء الخبر :(ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ) فهل يقوله بشر ؟!أبدًا والله . لقد كان هذا النظر إلى هذه الفكرة مما استوقف بعض الغربيين الدارسين للقرآن الكريم، فدُهِش من هذه الثقة في إلقاء الخبر، وكان ما كان له من الإيمان، وإن الثقة بأخبار القرآن مما تجعلنا نطمئن ونحن ندعو الناس إلى دين الله، فالوحي معصوم بلا ريب، ولا يهولنك بعض ما يلبِّس به من ضعُفت بصيرته، وقلَّت معرفته بأن هذا فهمك للآية، وهناك فهوم أخرى، فليس القرآن محلاً لمثل هذه المحتملات المُلغِزة، بل هو آيات بينات” ،وعليه فإن النقد لا محل له في هذا الكلام أبدًا، وما يعرف بـ(القراءة النقدية) أو التعقب والنظر في الكلام المقروء وعدم التسليم لكل ما يقرأ لا تجري على القرآن، وما يسمى عن التربويين بعقلية القارئ الناقد لا محل لها في كتاب الله، ولا يَرِد عليه الاستدراك مطلقًا، والتعقيب والتنبيه لا مكان لهما في ثنايا هذا الحديث، قال الله تعالى : (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (82) النساء
إن كل كتاب تقرأه – غير القرآن – تجد نفسك لا تسلم لكل ما في هذا الكتاب من قضايا، وأي مؤلف تطالعه فإنك لا تطمئن لكل ما فيه، وكم كتاب يقرأه الإنسان فيجد فيه التناقض والاضطراب، وكم من كلام يطالعه المرء فيتهم صاحبه بعدم الحياد والتعصب أو المبالغة أو القصور ونحو ذلك، وأما القرآن ففيه الطمأنينة، واليقين، والسكينة، كما قال تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (28) الرعد ، وقال تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) (192) :(196) الشعراء ،وفي الصحيحين 🙁عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ وَإِلَى جَانِبِهِ حِصَانٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْنِ فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ فَجَعَلَتْ تَدْنُو وَتَدْنُو وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ « تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ بِالْقُرْآنِ » ، فللقرآن التسليم المطلق، والقبول الكامل، والإذعان التام، والخضوع الكلي، وليس هذا إلا للقرآن، وصدق ابن رجب الحنبلي — حين قال: “ويأبى الله العصمة لكتاب غير كتابه”
ونفي الله عن كتابه الريب إثبات لضد ذلك من اليقين ، فالقاعدة تقول : أن النفي يقتضي إثبات كمال ضده، وقال السعدي – – :” وقوله تعالى :(ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ) أي هذا الكتاب العظيم الذي هو الكتاب على الحقيقة، المشتمل على ما لم تشتمل عليه كتب المتقدمين والمتأخرين من العلم العظيم، والحق المبين. :( لَا رَيْبَ فِيهِ ) ولا شك بوجه من الوجوه، ونفي الريب عنه، يستلزم ضده، إذ ضد الريب والشك اليقين، فهذا الكتاب مشتمل على علم اليقين المزيل للشك والريب، وهذه قاعدة مفيدة، أن النفي المقصود به المدح، لا بد أن يكون متضمنا لضده، وهو الكمال، لأن النفي عدم، والعدم المحض، لا مدح فيه. فلما اشتمل على اليقين وكانت الهداية لا تحصل إلا باليقين “وقال القرطبي :” فكتاب الله تعالى لا شك فيه ولا ارتياب، والمعنى: أنه في ذاته حق وأنه منزل من عند الله، وصفة من صفاته، غير مخلوق ولا محدث ” ، وقال أبو السعود :” ومعنى نفيه عن الكتاب، أنه في علو الشأن، وسطوع البرهان، بحيث ليس فيه مظنة أن يُرتاب في حقيقته ” ، وقال الشيخ ابن عثيمين :” إن الله تعالى يتحدث عن القرآن من حيث هو قرآن، لا باعتبار من يتلى عليهم القرآن، والقرآن من حيث هو قرآن لا ريب فيه؛ عندما أقول لك: هذا الماء عذب، فهذا بحسب وصف الماء بقطع النظر عن كون هذا الماء في مذاق إنسان من الناس ليس عذباً؛ كون مذاق الماء العذب مراً عند بعض الناس فهذا لا يؤثر على طبيعة الماء العذب؛ فما علينا من هؤلاء إذا كان القرآن عندهم محل ريبة؛ فإن القرآن في حد ذاته ليس محل ريبة؛ والله يصف القرآن من حيث هو قرآن؛ على أن كثيراً من الذين ادّعوا الارتياب كاذبون يقولون ذلك جحوداً، بل وكثير منهم ربما لا يكون عنده ارتياب حقيقي في القرآن؛ ويكون في داخل نفسه يعرف أن هذا ليس بقول الرسول وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يأتي بمثله؛ ولكن مع ذلك يجحدون، وينكرون ”
أيها المسلمون
وفي قوله تعالى : ﴿ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ﴾، أَيْ: هُوَ هُدًى، أَيْ: رُشْدٌ وَبَيَانٌ لِأَهْلِ التَّقْوَى، ولَا رَيْبَ فِي هِدَايَتِهِ لِلْمُتَّقِينَ ، ومما يلفت النظر أن في هذه الجملة : جعلُ الاهتداء بهذا الكتاب للمتقين، في حين استقر في أخلاد المسلمين أنَّ هذا الكتاب جاء لهداية الناس أجمعين، والضالين هم مادة دعوته؛ فكيف وُصِفَ بأنه هدى للمتقين؟! فنقول نعم : لقد خصّت الهداية للمتّقين. كما قال الله تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصّلت: 44]. وفي قوله تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا } [الإسراء: 82] ، إلى غير ذلك من الآيات الدّالّة على اختصاص المؤمنين بالنّفع بالقرآن؛ لأنّه هو في نفسه هدًى، ولكن لا يناله إلّا الأبرار، كما قال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]. والواقع أن القرآن فعلا قد جاء ليهدي الناس جميعًا إلى الحق وإلى طريقٍ مستقيم، حيث يبَيِّنه لهم ويدعوهم إليه ويرغبهم فيه ويُحذِّرهم من مخالفة هدايته.. كما قال الله تعالى عن الجن: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:30]، وقال تعالى : {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 1- 2]. فهذا هو فعل القرآن وهدفه ورسالته إلى الناس جميعًا. أما قوله تعالى: { ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ }، فليس المقصود قصر هداية القرآن على المتقين، وإنما بيانٌ أن الذي سيهتدي بهذا القرآن هم المتقون، فهم الذين يجدونها وينتفعون بها، وتنير طريقهم في الدنيا على صراط الله المستقيم فينجون من فتن الدنيا، وتنير طريقهم يوم القيامة على الصراط فيعبرون على متن جهنم سالمين إلى الجنة. فمن اتقى الله تعالى اهتدى إلى كل ما ينفعه في الدارين فأتاه وعمله، واهتدى إلى كل ما يضره في الدارين فتركه واجتنبه. وهذا ما أوحت به آيات أخرى في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء:9] ،وقوله عز وجل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23]، وفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس:9]، ومنها قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:282]، وإذا علَّمك ما ينفعك وما يضرك فقد هداك، وإنما ذاك بالتقوى وبحسب قوتها.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وقال جماعة من السلف هدى للمتقين: نور للمتقين. وصَدَقوا؛ فإن كتاب الله نورٌ، ونور المصباح يفيد العين الصحيحةَ البصيرةَ ورؤية الأشياء، أما العين العمياء فالنور عندها كالظلماء! كذلك القلوب الحية المستجيبة التقية فترى بنور كتاب الله، لذلك كان الكتاب هُدى لها، أما القلوب الميتة العمياء فلا ترى بهذا النور ولا تستفد منه. أما الذين تبلغهم رسالةُ الله تعالى، وتُتلى عليهم كُتبه التي أنزلها على رسله ثم لا يفتحون لها قلوبهم، ويلقونها وراءهم؛ فهؤلاء لا يهتدون، وتكون عليهم زيادة عمى، كما قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:44]، وكما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل:104]، وكما قال الله تعالى في أهل الكتاب: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5]. قال الطبري: (فإن قال لنا قائل: أوَ ما كتاب الله نورًا إلا للمتقين، ولا رشادًا إلا للمؤمنين؟ قيل: ذلك كما وصفه ربنا عز وجل. ولو كان نورًا لغير المتقين، ورشادا لغير المؤمنين، لم يخصص الله عز وجل المتقين بأنه لهم هدى، بل كان يعم به جميع المنذرين. ولكنه هدى للمتقين، وشفاء لما في صدور المؤمنين، ووقر في آذان المكذبين، وعمى لأبصار الجاحدين، وحجة لله بالغة على الكافرين. فالمؤمن به مهتد، والكافر به محجوج، وقال السمرقندي: (فهذا القرآن بيان لهم من الضلالة، وبيان لهم من الشبهات، وبيان الحلال من الحرام. فإن قيل: فيه بيان لجميع الناس، فكيف أضاف إلى المتقين خاصة؟ قيل له: لأن المتقين هم الذين ينتفعون بالبيان، ويعملون به فإذا كانوا هم الذين ينتفعون، صار في الحقيقة حاصل البيان لهم. وإنَّك لترى كثيرًا من المنتسبين إلى الإسلام لا يهتدون سبيلا، رغم أنهم يُعلنون إسلامهم، ويقومون بشعائره أو ببعضها، لكنك تراهم في تيه من الضلال والظلام، وما ذاك إلا لنقص التقوى في القلوب، ولو اتَّقت القلوبُ لاهتدت بهذا القرآن الذي تقرأه في صلاتها وفي تراويحها، وتسمعه ليل نهار في قنوات وإذاعات، ما لم يتوفر لجيل الصحابة الفريد-رضي الله عنهم- ومع ذلك لم نتهدِ بهذا القرآن مثل ما اهتدوا، ونحن أكثر منهم قراءة وكتابة وسماعًا لهذا القرآن الذي يهدي المتقين.. وإلا فلِمَ غَيَّرَهم القرآن ولم يُغِيِّرْنا مثلهم؛ وهو هو القرآن المحفوظ؟!
الدعاء