خطبة عن اسم الله (الباقي)
سبتمبر 1, 2018خطبة عن قوله تعالى (ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)
سبتمبر 1, 2018الخطبة الأولى ( كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لاَ يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى ابن ماجة في سننه وحسنه الالباني (عَنْ جَابِرٍ قَالَ لَمَّا رَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُهَاجِرَةُ الْبَحْرِ قَالَ « أَلاَ تُحَدِّثُونِي بِأَعَاجِيبِ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ». قَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا ثُمَّ دَفَعَهَا فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ إِذَا وَضَعَ اللَّهُ الْكُرْسِيَّ وَجَمَعَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ وَتَكَلَّمَتِ الأَيْدِي وَالأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِى وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا. قَالَ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « صَدَقَتْ صَدَقَتْ كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لاَ يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ ».
إخوة الإسلام
إن الله تبارك تعالى حرَّمَ الظُلمَ على نفسِهِ ، وجَعَلَهُ بينَ عِبَادِهِ مُحَرَّمًا ، فقالَ سبحانه في الحديث القدسي على لِسَانِ نبيِّه كما في صحيح مسلم : (يا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ على نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فلا تَظَالَمُوا) ،كما توعَّدَ الله تعالى الظَّالِمين باللعنَةِ والعذابِ الأليمِ فِي الدُّنيا والآخرةِ ويومَ يقومُ الأشهادُ ، فهو سبحانه وتعالى يُمْهِلُ للظالِمين ، ثمَّ يأخُذهُم أخذًا أليمًا. وفي صحيح مسلم : (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ، وفي هذا الحديث الذي تصدرت به هذه الخطبة ،ينقل لنا قصة هذه المرأة الراهبة العجوز الضعيفة، والتي لا يهابها ولا يخشى منها أحد، وهي مع ضعفها تحمل جرة الماء على رأسها، فيأتي ذلك الفتى وهو في عنفوان شبابه وقوته وبأسه، يستمتع بإيذائها، فيدفع هذه العجوز ويسقطها على الأرض، فتخر على ركبتيها، وتنكسر جرة الماء التي كانت على رأسها. فترفع العجوز رأسها ،وتنطق بكلمات ترتجف منها القلوب الحية، فتناديه (يا غُدر) وهي كلمة مبالغة في وصفه بالغدر، وتذكره بأنه سيعلم وينال ويلقى جزاء فعلته هذه يوم القيامة ، وتصف ذلك المشهد العظيم المهيب، عندما يضع الله الكرسي، ويجمع الأولين والآخرين، إنها ذات المشاهد التي جاءت في القرآن الكريم ، في قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (27) :(29) الجاثية ،وقال الله تعالى : (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) (16) غافر ،وقالَ اللهُ تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44 ) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) (42) :(46) [إبراهيم]
وتصف العجوز المزيد من مشاهد ذلك اليوم فتقول: (وَتَكَلَّمَتِ الأَيْدِي وَالأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، وهذا ما أخبرنا الله به في قوله تعالى :{ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، (يس: 65). ثم تقول : (عندها فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِى وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا ) ، فقولها: غداً، إيماناً منها بقرب ذلك اليوم، وهذا المشهد. ثم يعلق الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا المشهد، وعلى هذه الكلمات العظيمة، فيقول: “صَدَقَتْ، صَدَقَتْ”. ويسأل عليه الصلاة والسلام سؤال استخبار فيه إنكار، وتعجب، “كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لاَ يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ؟ أي: أخبروني كيف يُطهر الله قوماً لا ينصرون العاجز الضعيف على الظالم القوي مع تمكنهم من ذلك، إنها أمة لا تستحق التقديس! والتقديس هنا بمعنى : الطهارة من الآثام والدنس، أي لا يُطهرهم الله أبداً، وجاء في رواية أخرى: ” إِنَّهُ لاَ قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لاَ يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ ». أي: من غير أن يصيبه تعتعة أو خشية أو تردد في أخذ حقه والمطالبة به. وهكذا ينفي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ القداسة والطهارة عن الأمة التي تتسامح مع الظالم، ولا تنتصر للضعيف، وأن الأمة التي تنتصر للضعيف وتأخذ الحق له يُثنَي عليها ولو لم تكن مسلمة، ولهذا قال ابن تيمية: ” إن الله يقيم الدولة العادل وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة ” وقال ابن عثيمين: ” فالمظلوم يستجيب الله دعاءه حتى ولو كان كافراً، فلو كان كافراً وظُلِم ودعا على من ظلمه أجاب الله دعاءه، لأن الله حكم عدل ـ عز وجل ـ، يأخذ بالإنصاف والعدل لمن كان مظلوماً ولو كان كافراً، فكيف إذا كان مسلماً ؟! ” . إنها مظلمة لعجوز في الحبشة، فكم من المظالم خفيت علينا أخبارها أو أُخفيت، وإن المظالم تعظم إن صدرت ممن ولي أمراً للعامة، لكون ضررها يعم.
أيها المسلمون
ولقد بين لنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مواقف وأحاديث كثيرة: أن الظلم عاقبته وخيمة، وأن الله ـ عز وجل ـ يأخذ من الظالم للمظلوم حقه يوم القيامة، فلا يدخل أحدٌ الجنة ولأحدٍ من أهل النار عنده مظلمة، ولا يدخل أحدٌ النار ولأحدٍ من أهل الجنة عنده مظلمة، فقد روى مسلم في صحيحه (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ ». وفي صحيح البخاري :(عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ لأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا ، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ». فلا قوة ولا أمان لأمة وهي ظالمة، ولا علو لمجتمع بغير العدل، قال الله تعالى: { وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ } (الأنبياء: 11)، وفي البخاري : (عَنْ أَبِى مُوسَى – رضى الله عنه – قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ » . قَالَ ثُمَّ قَرَأَ :( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهْىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) . (هود : 102) . قال المناوي: ” وفيه تسلية للمظلوم في الحال، ووعيد للظالم لئلا يغتر بالإمهال، كما قال تعالى: { وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ } (إبراهيم: 42) ” .
وفي مقابل الظلم فقد أكد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على إقامة العدل ،مع القريب والبعيد، والمساواة في إقامة الحدود ،بين الناس غنيهم وفقيرهم، وشريفهم ووضيعهم، وفي قصّة المرأة المخزومية التي سرقت في غزوة الفتح دليل واضع على ذلك ، ففي الصحيحين واللفظ لمسلم (عَنَ عَائِشَةَ أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَتَشْفَعُ فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ». ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ فَقَالَ « أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لاَ يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يُرْوَى أنَّهُ لمَّا حُبِسَ خالدُ بنَ برمكٍ وولدُهُ ، قالَ لهُ : ( يا أبتِ بعدَ العِزِّ صِرْنَا فِي القيْدِ والسِّجنِ ؟ فقالَ : يا بُنَيَّ لعلَّهَا دعوةُ مَظْلُومٍ سَرَتْ بِليْلٍ غَفِلْنَا عَنْهِا ولمْ يِغْفَلِ اللهُ عَنْهَا )، وقالَ بعضُ العارِفِين : رأيتُ رجلاً مقطوعَ اليدِ مِنَ الكتفِ ، و هو يُنَادِي : مَنْ رآني فلا يظلمَنَّ أحدًا . فتقدَّمتُ إليهِ فقلتُ لهُ : يا أخِي : ما قصَّتُكَ ؟ قالَ : يا أخي قِصَّةٌ عجيبةٌ ،وذلك أنِّي كُنْتُ مِنْ أعوانِ الظلمةِ ، فرأيتُ يومًا صيادًا، وقدْ اصطادَ سمكةً كبيرةً فأعجبتنِي ، فجئتُ إليِّه فقلتُ : أعطِنِي هذهِ السمَكَةَ .فقالَ : لا أعطيكَها ،أنَا آخذُ بثمنِها قوتًا لِعِيَالِي ،فَضَرَبْتُهُ و أخذتُها مِنْهُ قهرًا ، ومضيتُ بها ، قالَ : فبينا أنا أمشِي بها حاملها ،إذ عَضَتْ على إبهامِي عضةً قويةً ،فلمَّا جئتُ بها إلى بَيْتِي و ألقيْتُها مِنْ يدي، ضربت علىَّ إبهامي- التهب – وآلمتني ألمًا شديدًا حتى لمْ أنَمْ مِنْ شِدَّةِ الوجعِ والألمِ ، ووَرِمَتْ يدي ،فلمَّا أصبحتْ أتيتُ الطبيبَ وشكوتُ إليْهِ الألمَ .فقالَ : هذهِ بدءُ الآكلةِ (الغرغرينة) اقْطَعْهَا وإلّا تُقْطَعُ يدُك .فقُطِعَتْ إبهامِي ، ثمَّ ضرَبَتْ على يَدِي ، فَلَمْ أطِقْ النومَ ولا القرَارَ ،مِنْ شِدَّةِ الألمِ .فَقِيل لِي : اقطع كفَّك ،فقطعتُه ، وانتشرَ الألم ُإلى الساعدِ وآلمَنِي ألمًا شَديدًا ، ولمْ أطِقْ القرارَ ، وجعلتُ أستغيثُ مِنْ شِدَّةِ الألمِ .فقِيلَ لِي: اقطعْها إلى المِرْفَقِ ، فقطعتُها فانتشرَ الألمُ إلى العَضُدِ ، وضَرَبَتْ عليَّ عَضُدِي أشدّ منَ الألمِ الأولِ . فقِيل : اقطعْ يدكَ مِنَ كتفِك وإلَّا سرى إلى جسدِكَ كلِّه فقطعْتُها . فقالَ ليَ بعضُ الناسِ : ما سببُ ألَمِكَ ؟ فذكرْتُ قصَّةَ السمَكَةِ ،فقالَ ليَ : لو كنتَ رجعتَ في أولِ ما أصابكَ الألمُ إلى صاحبِ السمكةِ واستحللتَ مِنْهُ وأرضيتَهُ لما قَطَعْتَ مِن أعضائِكَ عُضوًا، فاذهبْ الآنَ إليهِ واطلبْ رِضاهُ قبلَ أنْ يصِلَ الألمُ إلى بدَنِكَ . قالَ : فلمْ أزلْ أطلبُهُ في البلدِ حتى وجدتُهُ فوقعتُ على رجليْهِ أقبلُهَا وأبكِي وقلتُ لهُ : يا سَيدِي سألتُكَ باللهِ إلَّا عَفَوتَ عنِّي فقالَ لِي : و مَنْ أنتَ ؟ قلْتُ : أنا الذِي أخذتُ مْنْكَ السمَكَةَ غَصْبًا ، وذكَرْتُ ما جَرَى ، وأريْتَهُ يَدِي فبكَى حينَ رَآها ثمَّ قالَ : يا أخِي قدْ أحللتُكَ مِنْهَا لمَّا قدْ رأيتُه بكَ منْ هذا البلاءِ . فقلتُ : يا سَيِّدي باللهِ هلْ كنتَ قدْ دعوتَ عليَّ لمَّا أخذتَها ؟ قالَ : نعمْ ، قلتُ : اللهُم إنَّ هذا تقَوَّى عليَّ بِقُوَّتِهِ على ضَعْفِي على ما رزَقْتَنِي ظُلمًا فأرِنِي قُدرَتَك فِيهِ فقلتُ : يا سَيدِي قدْ أراكَ اللهُ قدْرَتَهُ فيَّ و أنا تائبٌ إلى اللهِ عزَّ و جلَّ عمَّا كنتُ عليهِ منْ خِدْمَةِ الظلمةِ ، ولا عُدْتُ أقفُ لهمْ على بابٍ و لا أكونُ منْ أعوانِهم ما دمتُ حيًّا إنْ شاءَ اللهُ .
أيها المسلمون
إن دين الإسلام دعوة جادة لمواجهة الظلم بكل صوره وأشكاله، ابتداءً من أيسر صوره (وليس في الظلم شيء يسير): كظلم الخادم أو العامل، ومروراً بكل أنواع الطغيان التي تنخر في كيان المجتمع ، والأمة التي لا تؤسس أركانها على إقامة العدل، لا خير فيها؛ واعلموا أن السكوت عن تطاوُل المفسدين على حقوق العباد، والتهاون في الإنكار على المنتهكين لحرمات المجتمع، خيانة للأمة، وخذلان للمسلمين، ففي الصحيحين: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ ..) ، فعَجْز الصالحين وتفريطهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحد الأسباب الرئيسة لانتشار البغي، واتساع أبوابه. قال الله تعالى -: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: ٣٦]، وروى الترمذي بسند صحيح أن (رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا ظَالِمًا فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ » ، فالدعوة إلى مواجهة التظالم الاجتماعي ليست شعاراً سياسياً مجرَّداً، بل هي ديانة وقربة يتقرب بها الدعاة لنيل مرضاة الله وفضله، يقول الفضيل بن عياض: (إني لأستحي من الله أن أشبع حتى أرى العدل قد بُسِط، وأرى الحق قد قام)
الدعاء