خطبة عن عدل (القاضي شريح)
أكتوبر 27, 2018خطبة عن حديث (إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا)
أكتوبر 27, 2018الخطبة الأولى ( من أعلام التابعين : القاضي شريح )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
رُوي في الصحيحين واللفظ للبخاري :(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ – رضى الله عنه – أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ »، وروى مسلم في صحيحه : (عَنْ جَابِرٍ قَالَ زَعَمَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُبْعَثُ مِنْهُمُ الْبَعْثُ فَيَقُولُونَ انْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ فِيكُمْ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَيُوجَدُ الرَّجُلُ فَيُفْتَحُ لَهُمْ بِهِ ثُمَّ يُبْعَثُ الْبَعْثُ الثَّانِي فَيَقُولُونَ هَلْ فِيهِمْ مَنْ رَأَى أَصْحَابَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَيُفْتَحُ لَهُمْ بِهِ ثُمَّ يُبْعَثُ الْبَعْثُ الثَّالِثُ فَيُقَالُ انْظُرُوا هَلْ تَرَوْنَ فِيهِمْ مَنْ رَأَى مَنْ رَأَى أَصْحَابَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ يَكُونُ الْبَعْثُ الرَّابِعُ فَيُقَالُ انْظُرُوا هَلْ تَرَوْنَ فِيهِمْ أَحَدًا رَأَى مَنْ رَأَى أَحَدًا رَأَى أَصْحَابَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَيُوجَدُ الرَّجُلُ فَيُفْتَحُ لَهُمْ بِهِ ».
إخوة الإسلام
إن خير أتباع المرسلين والنبيين بعد الصحابة أجمعين، هم التابعون وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، فإنهم آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم لم يروه، وتحروا ما بعثه الله به من الهدى ودين الحق، فعلموه وحفظوه وعملوا به، وبلغوه، وعرفوا منزلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشأنهم ومنهاجهم، فأحسنوا صحبتهم وذكرهم، وأحبوهم وأحسنوا الاقتداء بهم، واستغفروا لهم، وهدوا الأمة إلى منهاجهم، وقرروا فضلهم وفضائلهم، والتابعي : هو: كل من رأى الصحابي مؤمناً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتابع التابعين هو: من رأى التابعي مؤمناً بالنبي صلى الله عليه وسلم فهم – بعد الصحابة أجمعين- خير قرون الأمة على الإطلاق والسلف الصالح باتفاق، لثناء الله تعالى عليهم بالإتباع بإحسان، ولشهادة النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالخيرية فيما صح عنه من بيان، وتمنيه رؤيتهم لإيمانهم بالغيب، وإخباره باستمرار ظهور الدين ونصرة أهله في زمانهم بلا ريب، فاعرفوا لهم فضلهم وشأنهم، وقوموا بما ينبغي نحوهم. وحديثنا اليوم -إن شاء الله- ، عن واحد من هؤلاء التابعين ، وعلم من أعلام المسلمين ، وواحد من الذين شهد له أصحاب الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم : إنه ( القاضي شريح ) أما عن أسمه ونسبه : فهو: الفقيه أبو أمية ، شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي ، وهو ممن أسلم في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكنه لم يحظ بالصحبة ، حيث كان باليمن ،فيعد من التابعين ،وأنتقل من اليمن في زمن الصديق رضي الله عنه ، وقد حدث عن كبار الصحابة. وعن قصة إسلامه : قيل أنه حين بعث رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم عليا ( رضي الله عنه ) إلى أهل اليمن فأسلموا، فسأله شريح: بماذا يأمر دينك؟ فأجابه بقوله تعالى : ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [16:90] ، فبرقت عينا شريحٍ. فسأله: بماذا يدعو دينك أيضاً؟ فأجابه وقد أحسّ بتأثّره بمقولة العدل – بقوله تعالى : ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [4:58]. فسأل ثالثةً إلام يدعو دينك أيضاً؟ فأجابه بقوله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [5:8]. فسأله وماذا يقول نبيّك؟ فأجابه «سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه أوّلهم إمام عادل». فاستبشر شريحٌ قائلاً «دين يدعو للعدل» ودخل في الإسلام. فطلب من عليّ أن يعلمّه سورة من القرآن، فاختار له عليّ – وكان قد سمع قصّته وما حدث بأمّه – سورة النّساء، التي تتحدّث عن العدل مع ضعفاء القوم. فكان إسلامه قبل وفاة النبي بخمسة سنوات، لكن كلّما عزم أن يزوره انشغل، حتّى فاتت الخمسة سنوات فبدأ الرحلة، فجائه خبر وفاة رسول الله، وقد فاتته رؤيته. فقرّر أن يجمع آيات القرآن المتعلّقة بالعدل. وكان رحمه الله – إضافة إلى علمه بالقضاء، شاعراً، عالماً بالقيافة والأثر، وتاجراً. وكان ديِّناً ورعاً إذا أحرم في صلاته لا يتحرك أبداً، وكان له خلوة يوم الجمعة يذكر الله فيها. وكان من أميز الناس في قضية القضاء والعدل ،وهو رمز للعدالة ،ورمز للقضاة ،يقتدون به على مدى التاريخ . ولذلك قيل في المثل: أقضى من شريح
وقد أخذ شريح القاضي علمه عن الصحابي الجليل معاذ بن جبل لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم قاضياً إلى اليمن، وبرع في القضاء في سن مبكرة، إلى درجة أنه قضى بين الناس ولم تكتمل لحيته بعد. وبعد رحلته إلى المدينة أخذ العلم عن كبار الصحابة، ولما أرسله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (قاضياً إلى العراق جالس الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، فأفاد منه كثيراً، ثم لازم أمير المؤمنين علياً بن أبي طالب حتى شهد له بالعلم . وقد شهد له بذلك من أدركه من التابعين، قال محمد بن سيرين: «قدمت الكوفة وبها أربعة آلاف يطلبون الحديث، وسُرُج أهل الكوفة أربعة :عَبِيدة السَّلْماني، والحارث الأعور، وعلقمة بن قيس، وشريح». ويحكي شريح عن نفسه :أنه ولي القضاء أول أمره لعمر بن الخطاب، ثم لعثمان، فعلي، فمعاوية، فيزيد بن معاوية، فعبد الملك، إلى أيام الحجّاج، فاستعفاه فقبل منه الحجّاج ذلك. وكان يقال له قاضي المِصْرَيْن، أي البصرة والكوفة. ويذكر المؤرخون أنه قضى أكثر من ستين سنة، وما تعطل فيها إلا ثلاث سنين في فتنة ابن الزبير. ومن الشهادات التي يحق لشريح أن يعتزَّ بها ما ذكره هُبَيْرة بن بريم، من أن علياً جمع الناس في رحبة المسجد فقال: إني مفارقكم، فجعلوا يسألونه حتى نفد ما عندهم ولم يبق إلا شريح، فجثا على ركبتيه وجعل يسأله فقال له علي: اذهب فأنت أقضى العرب. وصح أن عمر ولاه قضاء الكوفة . فقيل : أقام على قضائها ستين سنة . وقد قضى بالبصرة سنة ، ووفد زمن معاوية إلى دمشق ، وعن الشعبي ، قال : كتب عمر إلى شريح : إذا أتاك أمر في كتاب الله ، فاقض به ، فإن لم يكن في كتاب الله وكان في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاقض به ; فإن لم يكن فيهما ، فاقض بما قضى به أئمة الهدى ، فإن لم يكن فأنت بالخيار ، إن شئت تجتهد رأيك ، وإن شئت تؤامرني ، ولا أرى مؤامرتك إياي إلا أسلم لك . ويُحكى أنه في صغره اصطحبه والده في إحدى أسفاره ،وأثناء الطريق لم يقبل الأطفال المرافقين له أن يلعب معهم ؛ فأعرض عنهم ،وبقي للعب بمفرده ، وعندما رأه أبوه بعيدًا خاف عليه أن يختطفه قطّاع الطرق ،فنهره عن الذهاب بعيدًا عن القافلة . وعندما رأى الأطفال ذلك جلسوا يضحكون منه ،ثم قاموا بخداعه عن طريق إخباره بالاختباء في المكان الذي نهره أبوه عنه ،ليأتوا هم إليه للعب ، ثم ذهبوا لأبيه وأخبروه أنه قد عصاه ؛ فذهب إليه أبوه وبدأ بضربه ،ولم يصدقه عندما أقسم إليه أنه مظلوم ، فأثَّر فيه أن المظلوم يحتاج إلى إنصاف عندما لا يجد دليلًا ولا شاهدًا ، ولم يكن أمير المؤمنين رضي الله عنه متعجلًا في اختباره لذلك المنصب الرفيع مع تألق سماء الإسلام يومئذ بالنجوم من الصحابة ، فقد أثبتت الأيام صدق فراسة عمر وصواب تدبيره ، إذ ظل يقضي بين المسلمين ما يقارب الستين عامًا متتابعة من غير انقطاع ، كما أقره على ذلك من جاء بعد معاوية بن أبي سفيان من خلفاء بني أمية حتى طلب إعفاءه من ذلك المنصب ، وقد بلغ السابعة بعد المائة من حياته الحافلة بالمفاخر والمآثر .
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( من أعلام الإسلام : القاضي شريح )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
أما عن طريقته ومنهجه في القضاء ، فكان إذا شك في شهادة شاهد شكا شديد كان ينصحهم ويعظهم إذا لم يجد وسيلة يرد بها شهادتهم وكان يقول لهم قبل أن يدلوا بشهادتهم: اسمعوا مني إنما يقضى على هذا الرجل بشهادتك أنت وأما أنا فإنني أتقي النار بكم فأنتم باتقاء النار أولى وفي وسعكم الآن أن تدعوا الشهادة فتمضوا. فإذا أصروا على الشهادة التفت إلى الذي يشهدون له وقال له : اعلم يا فلان أنني أحكم بشهادتهم وأنا أرى أنك ظالم لكنني لست أقضي بالظن ،وإنما أقضي بشهادة الشهود ،وإن قضائي قد يحل لك شيئا قد حرمه الله عليك ، فاتق الله. فإذا أصر ،كان يردد شعارا قبل أن يحكم وهو : غدا سيعلم الظالم ظلمه ،وغدا سيعلم الظالم من الخاسر ،إن الظالم ينتظر العقاب من الله تعالى ،وإن المظلوم ينتظر الإنصاف من الله عز وجل ،وإني أحلف بالله أنه ما من أحد ترك شيئا لله عز وجل وأحس بفقده. فلم يكن يقضي فقط وإنما كان ينصح أيضا لله ولرسوله ولكتابه ولعامة المسلمين ولخاصة المسلمين ،وكان يتجاوز قضية القضاء إلى أن يعلم الناس معاني الإيمان. ولم يكن قاضيا فقط وإنما كان عالما يروي أحد الناس قائلا : سمعني شريح أشكي بعض ما همّني وغمني لصديقي ،قال فوجدني أشكو شكوى مرا فقال لي شريح : يا ابن أخي إياك والشكوى لغير الله عز وجل ،إن من تشكو إليه لا يخلو أن يكون صديقا أو عدوا ، أما الصديق فتحزنه ،وأما العدو فيشمت بك ، ثم قال يعلمني: انظر إلى عيني هذه وأشار إلى إحدى عينيه ،فقال : والله ما أبصرت بها شخصا ولا طريقا منذ خمس عشرة سنة ،ولكني ما أخبرت أحدا بذلك إلا أنت في هذه الساعة ثم قال: أما سمعت قول العبد الصالح يعقوب الذي قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ، فاجعل الله عز وجل مشكاك ومحزنك عند كل نائبة تنوبك فإنه أكرم مسؤول وأقرب مدعو. ورأى ذات يوم رجلا يسأل آخر شيئا ويبدو أنه بدأ يطلب بإلحاح وتذلل. فناداه وقال له يا ابن أخي :من سأل إنسانا حاجة فقد عرّض نفسه للرق أي صار رقيقا ،إن قضاها لك فقد استعبدك بها ، وإن ردها عنك رجعت ذليلا ورجع هو بخيلا.
أيها المسلمون
وكان القاضي شريح بالإضافة إلى هذا كان شاعرا وكانت له نصائح ينصح بها بواسطة الشعر ، ويروى عنه أنه كان له صبي عمره عشر سنوات ،وكان هذا الصبي يحب اللعب ، فبحث عنه ، فوجده ينظر إلى الكلاب ،وعندما رجع الولد إلى البيت، قال : له هل صليت؟ فقال الولد : لا ، فدعى شريح بقرطاس وقلم وكتب إلى مؤدب ابنه يقول له : ترك الصلاة لأكلُبٍ يسعى لها يبغي الهراسة مع الغواة الهجس
فليأتينك غدوة بصحيفة كتبت له كصحيفة المتلمس.
فإذا أتاك فداوه بملامة أوعظه موعظة الأديب الكيس.
وإذا هممت بضربه فبدرّة وإذا بلغت ثلاثة لك فاحبس
واعلم بأنك ما أتيت فنفسه مع ما يجرعني أعز الأنفس
أيها المسلمون
وماذا عن المواقف الخالدة في حياة القاضي ( شريح )؟ وما هو منهجه وطريقته في القضاء ؟ وكيف قضى بين أمير المؤمنين عمر وخصمه ؟ ، وبين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وخصمه اليهودي ؟ ، بل وكيف قضى بين ابنه وخصومه ؟ وما هي قصة زواجه ، وتعامله مع زوجته ، وأمها ؟ هذا وغيره نتناوله في الجزء الثاني من هذا الموضوع إن شاء الله تعالى ، فتابعونا .
الدعاء