خطبة عن المدح والمداحين وحديث (وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ)
ديسمبر 1, 2018خطبة عن الأمانة (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ)
ديسمبر 1, 2018الخطبة الأولى ( تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ ، وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى البخاري في صحيحه : ( عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ : « تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ ، إِنْ أُعْطِىَ رَضِىَ ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ ، إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ »
إخوة الاسلام
موعدنا اليوم -إن شاء الله- مع هذا الحديث النبوي الشريف ، نتدارس معانيه ، ونتفهم مراميه ، ونعمل بما جاء فيه ، فهذا الحديث يشير إلى نوع من أنواع العبودية لغير الله؛ إنها عبودية التعلق بالدنيا على حساب الدين ، إنها العبودية التي يضحي فيها الإنسان بالدين من أجل الدنيا ، فيقول صلى الله عليه وسلم : « تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ ، إِنْ أُعْطِىَ رَضِىَ ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ ) ، فالدينار : هو النقد من الذهب ،والدرهم :هو النقد من الفضة ، والخميصة :هي الثياب الجميلة ، والخميلة : هي الفرش الغالية ، وهذه كلها من الأموال والمتاع ، والزينة ،ومعنى تعس عبد الدينار يعني: أي خسر وهلك ، فالذي يتعلق قلبه بالمال ،سواء أكان ديناراً ، أو ريالاً ،أو دولاراً ،أو غير ذلك، فيكون مسخراً لهذا المال ، ويكون المال معبوده الأول. والدينار والدرهم والقطيفة والخميصة ، فهذه الأشياء ليست للحصر، وإنما هي على سبيل التمثيل، فالذي يتفانى في جمع هذه الاشياء ، أو غيرها ، من غير نظر في طرق تحصيلها ، أهي من الحلال، أم من الحرام، وأصبح مشغولا بها ، وحبها أنساه كل شيء ، فإذا بلغ التعلق بالمال إلى هذا الحد، فلا يؤدي حقوق الله -تبارك وتعالى- في هذا المال، فيمنع الزكاة الواجبة والنفقات الواجبة ،فضلاً عن النفقات المستحبة، وإذا كان الإنسان بهذه المثابة ، فهو يقطع الأرحام ،ويقطع ما أمر الله -عز وجل- بصلته، ويقارف كل ما لا يليق ،من أجل تحصيل هذا المال ،فإنه يكون بهذه الحال عبداً للدينار والدرهم .، وأصبح محرابه ومقصده جمع المال ، فأهله لا يعرفونه، وجيرانه لا يعرفونه، وقراباته لا يعرفونه، والمسجد لا يعرفه، وإن صلى فيه ،فقلبه مشغول عن صلاته ، متفكرا في ماله وثرواته ، وهكذا أصبح عبدا مطيعا للمال . وأما قوله صلى الله عليه وسلم : (إِنْ أُعْطِىَ رَضِىَ ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ ) ، أي إن أعطى من الدنيا رضى ، وإن منع منها سخط ، كما قال الله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ) (58) التوبة ،وهكذا ، فرضاؤهم لغير الله ،وسخطهم لغير الله ، وهذا حال من كان متعلقا بأهواء نفسه ، فإن أعطي من الدنيا رضى ، وإن لم يعط سخط ،فهذا عبد ما يهواه ، وهو رقيق له ، إذ أن الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب ،وعبوديته ،فما استرق القلب واستعبده فهو عبده
أيها المسلمون
والمتأمل في هذا الحديث , يتبين له أنه يحمل الوعيد الشديد لعبدة الدينار والدرهم , ولعل سائل يسأل , وهل الدينار والدرهم , والمال بصورة عامـة يعـبد ؟ فنقول : عبادة المال وعبادة الدنيا ،ليست هي العبادة المعروفة لدينا من صلاة وزكاة وحج وصوم، ولكن عبادة المال والدنيا أن تكون هي الهدف ،والمراد ،والمقصد، وهي المطاعة , فيجعل هذا العبد المال هو الأهم في هذه الدنيا , فنجده يقدمـه على عبادة الله جل وعلا , فالمال مقدم على الصلاة وغيرها من العبادات, وكأنه قد خلق للسعي خلف هذا المال والجاه ، ولهذا لا نعجب من قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين : « .. فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا ، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ » ، ومن ينظر إلى أصحاب الأموال ،ومن فتحت عليهم أبواب الدنيا كلها ،يجـد أنهم أصبحوا أذلاء وعبيدا لهذا المال , وتحصل المنافسة بينهم ، فتفتح لهم أبواب الكسب المحرم ، فيهلكون كما هلك من كان قبلهم .
أيها المسلمون
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : (تَعِسَ وَانْتَكَسَ ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ ، ) فالرسول صلى الله عليه وسلم يدعو على من عبد المال ،والدنيا وشهواتها ومفاتنها بالانتكاسة ،وعدم تيسير الأمور له ، حتى في إخراج الشوكة من جسمه إذا أصابته 🙁شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ) ، نعم ، فمن عبد الدرهم والدينار والخميصة والخميلة جدير بأن لا تيسير له الأمور ،لأنه مخالف لتقوي الله عز وجل . ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو عليه أن لا يلتئم له شأنه ،ولا يعود له ما رجاه، حتى لو كان مجرد زوال شوكة عنه. وقوله صلى الله عليه وسلم : (تَعِسَ ) ، فهو دعاء عليه ، بل وهي حقيقة كونية، فإن من تشتت همّه إلى مطالب عدة ، تنقلت به أمواله ،وأتعبته سبلها، وكلما أراد شيئاً ،وجده سراباً ،لا غناء فيه ولا كفاية، وأما من جعل الله قصده وغايته ونيته ،فهو كافيه ،لأنه نعم المولى ، ونعم الوكيل ، قال الله تعالى : (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) الزمر 36.
أيها المسلمون
أما قوله صلى الله عليه وسلم : (طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ ، إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ » ، وفي هذا بيان لمنزلة الجهاد في سبيل الله ، وأن حال المخلص لربه هو عدم الانتصاب لغيره ، لا في زيه ،ولافي عمله ولافي حاله : أما الزي فهو في قوله صلى الله عليه وسلم : (أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ) وذلك لانشغاله عن ذلك بما هو فيه من الانغماس في الجهاد، فهو مستغرق فيه بكليته، لا يتطاول بشارة وعلامة ليبصره الناس، وبِعَلَمٍ يعلم الناس مكانه وأفعاله، وقوله صلى الله عليه وسلم : (أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ ) لا يعني أنه يتكلف ذلك ليكون كذلك، بل هو في حال لا تكون نتيجته إلا كذلك، ومن نافلة القول التنبيه أنّ تكلف ذلك ليس عبادة مطلوبة لله تعالى، بل تكلف ضدهما في حال لا يكون مشغولاً بطاعة الجهاد هو المطلوب الشرعي من التجمل والاغتسال عن الأدران وغيرها ،ولكن مقصود هذا الوصف (أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ) إنما هو الانشغال التام بما هو فيه وذلك لإخلاصه، فلو كان غير ذلك لما أهمه في إحسان عمله بل رغبته بتحسين صورته. وأما العمل فهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ ) ، فهذا رجل لا يفاضل بين الأعمال بحسب قيمتها بين الناس ،إنما بحسب ما يطلب منه ،لأنه الأليق به فيما يرى له أميره، أو فيما يرى من نفسه، ومثل هذه الأعمال سمتها الخفاء وجفاء الناس عنها لمشقتها وعدم تنافس الناس فيها لعدم صيتها وقلة مرتبتها في الدنيا، وإن كان لا قِوامَ للجهاد إلا بهما، ولكن الناس يرون أن هذه الأعمال من مراتب الخدمة التي تهين صاحبها في دنياهم فيرغبون عنها في جهادهم، وشتان بين العمل حين يكون لدنيا وحين يكون في سبيل الله، ومن المعلوم أن أجر الحراسة عظيم كما في سنن الترمذي : (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ :« عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ »
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ ، وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
والمخلص لربه في جهاده لا يتشوق إلا إلى رضاه، فهو غافل عن حظ نفسه، ولو أرادها لما اختار إلا الأعمال التي فيها الحظوظ لها، وأمره ليس كذلك. وأما في حاله فهو قوله صلى الله عليه وسلم : (إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ » ، وفي ذلك دلالة على أنه خفي عن الناس بما هو فيه من إعمار الباطن، فالناس لا يعرفونه لعدم اشتهار اسمه أو نسبه أو أفعاله، ورى مسلم في صحيحه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِىَّ الْغَنِىَّ الْخَفِيَّ ». والحق أن أهل الإيمان والتقوى لا يخفى عليهم حال هؤلاء، بل يعرفونهم وقد يطلبونهم كما كان يفعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما قال: (لو كان سالم مولى حذيفة حياً لوليته) ، وعمر كان خبيراً بالرجال ومع ذلك قال: (رحم الله أبا بكر كان أعلم مني بالرجال) ، والبعض كان يتركهم لما هم فيه من الرغبة في الاختفاء، والمقصود أن هذا الإخلاص لا يغيره ما يقوله الناس عنه، ولو كان مقصوده غير الله لسخط كما يسخط غيره،
أيها المسلمون
وفي الحديث من الفوائد: أن مقامات الآخرة والفضل الإلهي ليس بحسب مقامات الناس بينهم في المناصب والأموال، بل إن المترفين هم أكثر الناس صدوداً عن الذكر ،وأن الجهاد والبلاء لا يستقيم إلا لأهل الصبر والاحتساب ، وقد كشف الله المنافقين بالجهاد كما في سورة التوبة، تلك السورة التي سميت بالفاضحة لأنها فضحت المنافقين، وهذا يدل على قوة هذا الضابط في التفريق بين الصادق والمرائي، بين المؤمن والمنافق وفي صحيح مسلم : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ » ،وفي الحديث فائدة جليلة وهي أن العبادة ليست في أعمال النسك فقط كالصلاة والسجود والدعاء بل هي أشمل من ذلك وأعم، وهي تشمل كل طاعة يتقرب بها العبد إلى ربه ،بفعل ما أمر ، وترك ما نهى عنه وزجر . الدعاء