خطبة عن (تدبر القرآن) (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ
ديسمبر 15, 2018خطبة عن (الفُقَرَاء يَسْبِقُونَ الأَغْنِيَاءَ إِلَى الْجَنَّةِ)
ديسمبر 15, 2018الخطبة الأولى ( وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (42) البقرة
إخوة الاسلام
موعدنا اليوم -إن شاء الله- مع هذه الآية من كتاب الله الكريم ، نتدارسها ، ونتدبرها ، ونتفهم معانيها ، ونسبح في بحار مراميها ، ونرتشف من رحيقها المختوم .وبداية ، تعالوا بنا نتعرف على أقوال العلماء والمفسرين حول ما جاء في معنى هذه الآية : فقوله تعالى : ﴿ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 42]، قالوا عن الحق: هو الأمر الثابت ، الذي لا يقبل التغيير، وهو ما تعترف به سائر النفوس، بقطع النظر عن شهواتها. وأما الباطل: فهو ضد الحق، وهو الأمر الزائل الضائع؛ وعن ابن عباس : ﴿ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ﴾، قال: لا تخلِطوا الصدق بالكذب، وعن مجاهد: ﴿ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ﴾: اليهودية والنصرانية بالإسلام، فتأويل الآية : ولا تخلطوا على الناس أيها الأحبار من أهل الكتاب في أمر محمد – صلى الله عليه وسلم – وما جاء به من عند ربه، وتزعموا أنه مبعوث إلى بعض أجناس الأمم دون بعض، فتنافقوا في أمرِه، وقد علمتم أنه مبعوث إلى جميعكم، وجميع الأمم غيركم، فتخلطوا بذلك الصدق بالكذب ، أما الزمخشري فيقول: “المعنى: ولا تجعَلُوا الحق ملتبسًا مشتبهًا بباطلكم الذي تكتبونه”، “والمعنى: لا تخلِطُوا الحق المنزَّل عليكم بالباطل الذي تخترعونه وتكتمونه حتى لا يميز بينهما”. أما الرازي فقال: “ولا تلبسوا الحق بسبب الشبهات التي تُورِدُونها على السامعين.
وعلى ضوء ما تقدَّم يكون معنى الآية: لا تخلطوا الحق بالباطل، فلا يتمايزا في أعين الناس، ولا تمزجوا الإسلام بالكفر فيشتبهَا عليهم، فلا يدري الناس الفرقَ بين الإسلام وما عداه، سواء وافقه أو خالفه أو ناقضه، وهو ما ينتج عنه اندثارُ حقائق الإسلام، وذَهاب تمايزه عن غيره في الفكر والمنهج والتشريع، وكيف لا تغيب حقائق الإسلام بعد هذا الكمِّ الهائل من الفتاوى التي تُبِيح التشريعات الوضعية والأنظمة الرأسمالية في الحكم؛ كالجمهورية والديمقراطية ، وفي الاقتصاد؛ كشركات المساهمة، والبورصة، والربا، والتأمين، وفي الثقافة؛ كعلومِ السياسة والقانون والنفس والاجتماع والتربية. إنه وإن كان الخطاب موجَّهًا لأهل الكتاب، إلا أن النهي عن إلباس الحق بالباطل وكتمان الحق، الوارد في الآية الكريمة – يشمل المسلمين؛ لأن الآية عامة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وإذا كان علماء التفسير قد فسَّروا الآية بأنها نهيٌ لأهل الكتاب؛ لقيامهم – في عصر التنزيل – بخلط اليهودية والنصرانية بالإسلام، فقد وُجِد في هذا العصر مَن حمل فِرْيَة أهل الكتاب من المسلمين أنفسهم، بل ومن بعضِ مفكِّريهم ودعاتهم، فرأينا منهم مَن يحمل دعوة “أبناء إبراهيم”، وينادي بـ “حوار الأديان”، ويزعم أن أتباع هذه الأديان السماوية هم جميعًا مؤمنون – لا في وجهة نظره الشخصية، بل في نظر الإسلام – وأن عقائدهم متشابهة، وأصولهم الدينية واحدة، وشرائعهم متماثلة، وبذلك ألبَسوا على الناس دينَهم، حين خلطوا الإسلام بما سبقه من أديان سماوية محرَّفة. وزاد الأمر فداحةً حين ظهر دعاة وعلماء ألبسوا الاشتراكية والديمقراطية والحريات الغربية ثوبَ الإسلام، وخلطوا بين هذه المبادئ والنُّظم الوضعية وما نادى به الإسلام من شورى وعدالة في توزيع الثروة وتحرُّرٍ من العبودية، كما نادوا بالمفاهيم القومية والنفعية؛ بدعوى أن العربية لغةُ القرآن، وبحجَّة أن الشرع راعى مصالح العباد، وتلقَّفوا كل ما راج من بضاعةِ الغرب الكاسدة، يسوِّقونها في بلاد المسلمين بدعوى أنها ﴿ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا ﴾؛ لإزالة الوحشة منها في نفوس المسلمين، ونقَّبوا في تاريخ الأقدمين عن أَثارةٍ من علم؛ لإثبات وشيجةِ نسبٍ أو صلة رحم تربط بين الإسلام والحضارة الغربية. هذا هو معنى خلط الإسلام بغيره، كما ورد في القرآن الكريم، وكما هو مشاهَد في واقع المسلمين،
أما أثر ذلك على إدراك الفكر والتشريع الإسلامي، فهو فيما يتعلَّق بالشخصية الإسلامية أدَّى إلى اهتمام العاملين في مجال الدعوة الإسلامية – من مصلحين ودعاة، وجمعيات وجماعات – بإصلاح الأخلاق والعبادات لدى الفرد، دون ملاحظة أهمية تغيير طريقة التفكير لدى الفرد وعلاقاته المجتمعية. لقد بنى رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – الشخصيةَ الإسلامية في الصحابة الكرام – رضوان الله عليهم – على العقيدة الإسلامية، لا بوصفها إيمانًا روحيًّا فحسب، بل بوصفها قاعدةً فكرية يجب جعلها أساسًا للتفكير في كل شأنٍ من شؤون الحياة، ومقياسًا لكل فكرة، ومرجعًا للسلوك وسائر التصرفات، بمعنى أن تُتَّخذ عقيدة “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، وما جاءت به من أفكار وأحكام في القرآن والسنة مقياسًا لجميع الأفكار، فلا يعتنقُ الفرد فكرةً أو يقبل نظرية إلا بإخضاعِها لمقياس العقيدة الإسلامية، فينظر إن كانت نصوصُ الإسلام تقرها أم لا، فلا يحمل فكرًا يناقض عقيدته، مثل الديمقراطية أو المصلحية النفعية، وأن تُتَّخذ العقيدة كذلك بما جاءت به من أحكام الحلال والحرام مقياسًا لجميع التصرفات والعلاقات، فلا يُقدِم على فعل، أو يقيم علاقة تجارية أو اجتماعية أو تحالفات سياسية، إلا بعد معرفة حكم الشرع فيه، كما قال – عليه السلام-: ((لا يؤمن أحدُكم حتى يكون هواه تبعًا لِما جئت بِهِ))؛ (رواه الطبراني).
وأما فيما يتعلَّق بالمجتمع الإسلامي، فقد أدى خلط الإسلام بالفكر الغربي في مختلف شؤون الحياة، إلى طمس الصورة الحقيقية للإسلام – بوصفه نظامًا كاملاً، ومبدأً شاملاً للحياة – كما أدَّى إلى تشويه كيفية تجسُّده في عَلاقات المجتمع، بوصفه متفرِّدًا في تسيير فكر الناس ومشاعرهم، والمصدر الوحيد للنظام الذي يرعى شؤونهم، فصار المسلمون ودعاتهم يتصوَّرون المجتمعَ الإسلامي قائمًا على انتشارِ المساجد وكثرة المحجَّبات والمؤلَّفات، واستمرار الأحوال الشخصية (أي: ما يتعلق بالزواج والطلاق والنسب والوراثة وما شابهها) وَفْق أحكام الشريعة، مع بقاء سائر العَلاقات في الاقتصاد والسياسة والتشريع والتعليم والثقافة والإعلام والسياسة الخارجية، على غير أساس الإسلام، ويتحكَّم فيها الفكرُ الغربي الرأسمالي الذي يقوم على فصل الدين عن الحياة؛ أي: فصل الإسلام عن حياة المسلمين العامة، وحصره في المجال الروحي الأخلاقي، والتعبُّدي الفردي؛ ولذلك فمن الطبيعي مع هذا البناء الروحي والأخلاقي المجرد، الفاقد للعقلية الإسلامية المشبعة بفكر الإسلام وثقافته وتشريعاته، أن نرى مفكرين ومثقفين مثلاً يطالبون بتطبيق الدستور الوضعي، أو يَدْعُون للالتزام بالقانون الدولي، مع أنها دساتير وقوانين كفر، لا يجوز بنص القرآن أخذُها أو تطبيقها أو الاحتكام إليها، فكيف يتأتى لمن أصبح جزءًا من المشكلة التي تعاني منها الأمة أن يتمكَّن من إنهاضها بالإسلام كاملاً، عقيدة وشريعة، وتخليصها من آثار الاستعمار الثقافي والسياسي والاقتصادي؟!
أيها المسلمون
هكذا يظهر لنا جليا أنّ من أعظمِ الفِتن التي تُعاني منها جملةٌ مِنَ المجتمعاتِ المسلِمة في عَصرِنا الحَاضِر هِي فتنة غِيابِ الحقّ ولَبسه بالباطل وفقدان هيمَنَة المرجعيّة الصّريحة الصَّحيحة في إبداءِ الحقّ ونُصرَتِه أمامَ الباطلِ وإظهارِه على الوجهِ الذي أنزلَه الله على رسولِه دونَ فُتونٍ أو تردُّدٍ من إملاقٍ أو خَشية إملاقٍ أو تأويلاتٍ غلَبت عليهَا شُبهاتٌ طاغِيَة أو شَهَواتٌ دَاعَّة، مما يجعَلُها سببًا رئِيسًا في تعرُّضِ صُورةِ الإسلاَمِ وجَوهَرهِ في المجتَمَعاتِ لخطَرَين داهمين: أحدهما: خطَر إفسادٍ لِلإسلامِ، يُشوِّش قِيَمه ومَفاهيمَه الثَّابتةَ بإدخال الزَّيفِ علَى الصَّحيح والغَريب الدخيل على المكِين الأصيل، حتى يُغلَبَ الناس على أمرِهم في هذَا الفهمِ المقلوبِ، ويبقَى الأمَل في نفوسِهم قائمًا في أَن تجيءَ فرصَةٌ سانحة تردّ الحقَّ إلى نصابه، وهُم في أثناءِ ذلك التَّرقُّب يكونون قد أُشرِبوا في قلوبهم الاعتقادَ الفاسدَ بأنّ ما يَفعَلونه من هذا البُعدِ والقصورِ في التديُّن والخَلط بين الزَّينِ والشَّين هو الإسلامُ بعَينِه، فإذا ما قامَت صَيحَاتٌ تصحِيحيّة تدعوهم إلى الرجوعِ إلى المنهج الحقّ والتمسُّك بالشِّرعة الخالدة كما أنزلها الله جلّ وعلا أنكَروا عليهم ما يدعون إليه، واتَّهَموا الناصِحِين بالرَّجعية والجمودِ والعَضِّ على ظاهِرِ النّصوص دون روحِها وأَغوارِها، كَذا يزعُمُ دعاةُ التلبيس والتَّدلِيس، ولسانُ حالهم عند نُصحِ النَّاصحين ينطق بقول الله جلّ وعلا: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ ) [البقرة: 11، 12]. ويؤكِّد كلامَنا هذا مَقولةُ ابنِ مَسعود رضي الله عنه التي يقول فيها: (كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَبِسَتْكُمْ فِتْنَةٌ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَيَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ ، إِذَا تُرِكَ مِنْهَا شَيْءٌ قِيلَ تُرِكَتِ السُّنَّةُ؟ قَالُوا : وَمَتَى ذَاكَ؟ قَالَ : إِذَا ذَهَبَتْ عُلَمَاؤُكُمْ وَكَثُرَتْ جُهَلاَؤُكُمْ ، وَكَثُرَتْ قُرَّاؤُكُمْ وَقَلَّتْ فُقَهَاؤُكُمْ ، وَكَثُرَتْ أُمَرَاؤُكُمْ وَقَلَّتْ أُمَنَاؤُكُمْ ، وَالْتُمِسَتِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ وَتُفُقِّهَ لِغَيْرِ الدِّينِ. ) سنن الدارمي ،وأمّا الخطر الثاني : فهو أنَّ هذا التَّلبيسَ والتضليلَ ينتهي بالمسلمين إلى الفُرقةِ التي يَصعُب معها الاجتماع؛ إذ كلُّ طائفةٍ سَتزعم أنَّ لها منهجَها الخاصَّ بها، فتتنوَّع الانتماءات إلى الإسلام في صُورٍ يُغايِر بعضُها بعضًا كالخطوطِ الممتدّة المتوازيةِ التي يستحيل معها الالتِقاءُ، حتى إنَّنا لنَرى بسَبَبِ مثلِ ذلك إسلامًا شماليًّا وإسلامًا جنوبيًّا وإسلامًا شرقيًّا وآخر غربيًّا، وإنما الإسلام شِرعةٌ واحدةٌ وصِبغَة ما بعدَها صِبغة، ولكنّه التضليل والتلبيس الذي يفعَل بالمجتمعاتِ ما لا تَفعَلُه الجيوشُ العاتِيَة. فالمجتمعَ المسلِمَ التَّقيّ النَّقِيّ هو ذلكم المجتمَع الذِي تسود فيه أَجواءُ النّقاء في المنهَج والوُضوح في الهَدَف وسلامة السّريرة في الحكمِ والفتوَى والتربِيَة والتعليم والأحوال الشخصِيَّة والمعاملات والشُّموليّة في الالتزامِ بالإسلامِ على مَنأى وتخوُّفٍ مِن تهميش أيٍّ من جوانِبِه التي شَرعَها الله أو الزَّجِّ بها في رُكامِ الفوضَى والمساوَمَة والتَّندِيد.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
فمن أعظم الفتن التي يفتن الشيطان بها العباد، فتنة التزيين ولبس الحق بالباطل وإتباع الهوى في ذلك، والكارثة أنهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً. وإن صور لبس الحق بالباطل كثيرة، ولها أشكال مختلفة، فمن تلك الصور: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله خوف الابتلاء وتعريض النفس للفتن ، فهناك من يترك الأمر والنهي عجزاً وكسلاً وجبناً وخوراً، لكن لا يريد أن يعترف بهذه الصفات الذميمة، فبدلاً من الاعتراف بها والسعي للتخلص منها فإنه يحاول جاهداً في تغطية ضعفه هذا بمبررات شرعية، منها: الخوف من الفتن واعتزال كل ما يعرض النفس للابتلاء والفتنة والهلكة ودرء المفاسد، معتمداً على قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح! والضوابط الشرعية في ذلك، فمقصودنا هو كشف اللبس والتدليس والمغالطة على النفس وعلى الناس في أن النكول عن الأمر والنهي قد تم من منطلق شرعي وضوابط شرعية، والأمر في حقيقته ليس كذلك، وإنما هو الخوف والجبن وإيثار السلامة وعدم تحمل أي أذى أو مكروه في سبيل الله -عز وجل-؛ ومن صور لبس الحق بالباطل: المداهنة وضعف الولاء والبراء بحجة المداراة والتسامح ومصلحة الأمة: فإن الخلط بين المداراة والمداهنة، والتميع في الولاء والبراء بحجة التسامح، كل ذلك ينتج عنه آثار خطيرة على الدين وأهله، وذلك بما يفرزه هذا الخلط واللبس من المغالطة والتضليل على الأمة في أن ما يقع من الملبسين من مداهنة وموالاة لأعداء هذا الدين إنما هو مداراة. “قال ابن بطال: المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة، وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط؛ لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق: أن المداهنة : من الدهان، وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة : هي الرفق بالجاهل في التعليم وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه، حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، لاسيما إذا احتيج إلى تألفه، ونحو ذلك”
ومن صور لبس الحق بالباطل : الاحتجاج بيسر الشريعة وضغط الواقع، فإن القول بيسر الشريعة وسماحتها حق لا شك فيه، ولكن الاحتجاج بهذا التيسير للتفلت من أحكام الشريعة والتحايل عليها، واتباع الهوى في الأخذ بالرخص والشذوذات الفقهية، كل هذا باطل وتلبيس وتضليل، يتبنى ذلك أهل الأهواء الذين يتبعون الشهوات، يريدون بذلك تحلل المجتمع المسلم من أحكام الشريعة باسم التيسير وترك التشديد، وصدق الله إذ يقول : {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا} النساء (27). ومن صور لبس الحق بالباطل: التلبيس على الناس برفع لافتات إسلامية تخفي وراءها الكيد للدين وأهله: وهذه من أخطر ما يهدد الأمة في عقيدتها وأخلاقها أن تعيش في جو من اللبس والتضليل والخداع، فلا ترى الحق بصورته المضيئة ولا الباطل بصورته القاتمة المظلمة، بل قد يصل بها المكر والخداع إلى أن ترى الحق باطلاً والباطل حقاً، ويلتبس سبيل المجرمين بسبيل المؤمنين، ومن أعظم الالتباس بين السبيلين أن يقوم المجرمون من أعداء المسلمين سواء من الكفار الصرحاء أو المنافقين الدخلاء برفع لافتات، ظاهرها الإسلام ومحبة الدين والدعوة إليه، وباطنها الكيد والمكر والخداع، ويحصل من جراء ذلك: أن يُخدع كثير من المسلمين بهذه اللافتات فينشغلون بها، ويثنون على أهـلها بدلاً من فضحها وكشف عوارها وتعرية باطلها، وعن خطورة التباس سبيل المجرمين بسبيل المؤمنين، ولقد خاف النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته من الأئمة المضلين الذين يلبسون على الناس دينهم بأهوائهم وضلالاتهم، ففي سنن الترمذي بسند حسن صحيح : (عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِى الأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ ». قَالَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ يَخْذُلُهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ ».
الدعاء