خطبة عن (القرآن والإعجاز العلمي)
ديسمبر 29, 2018خطبة عن (الداء والدواء)
ديسمبر 29, 2018الخطبة الأولى ( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) الشورى (10)
إخوة الإسلام
موعدنا اليوم -إن شاء الله- مع هذه الآية الكريمة من كتاب الله ، نتدارس معانيها ، ونتفهم مراميها ، ونعمل بما جاء فيها ، وبداية تعالوا بنا نتعرف على أقوال علماء التأويل والتفسير فيما جاء فيها : فقد جاء في تفسير (ابن كثير) : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْء فَحُكْمه إِلَى اللَّه } : أي مهما اختلفتم فيه من الأمور، وهذا عام في جميع الأشياء { فَحُكْمه إِلَى اللَّه } :أي هو الحاكم فيه بكتابه ،وسنة نبيّه صلى اللّه عليه وسلم، وفي تفسير (الطبري) : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْء فَحُكْمه إِلَى اللَّه } : أي وَمَا اخْتَلَفْتُمْ أَيّهَا النَّاس فِيهِ مِنْ شَيْء فَتَنَازَعْتُمْ بَيْنكُمْ , فَحُكْمه إِلَى اللَّه. يَقُول : فَإِنَّ اللَّه هُوَ الَّذِي يَقْضِي بَيْنكُمْ وَيَفْصِل فِيهِ الْحُكْم ، فهو الحاكم فيه بكتابه ، وسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم – وفي تفسير (القرطبي) : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْء فَحُكْمه إِلَى اللَّه } حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين؛ أي :وما خالفكم فيه الكفار من أهل الكتاب والمشركين من أمر الدين، فقولوا لهم : حكمه إلى الله لا إليكم، وقد حكم أن الدين هو الإسلام لا غيره. وأمور الشرائع إنما تتلقى من بيان الله. أما (التفسير الميسر) : وما اختلفتم فيه- أيها الناس- من شيء من أمور دينكم، فالحكم فيه مردُّه إلى الله في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ذلكم الله ربي وربكم، عليه وحده توكلت في أموري، وإليه أرجع في جميع شؤوني.
أيها المسلمون
ومن خلال الأقوال والآراء المتعددة من علماء التأويل والتفسير ، يتبن لنا : أن ما حكم به الكتاب والسنة ،وشهدا له بالصحة ،فهو الحق ، وماذا بعد الحق إلا الضلال ، وقد قال الله تعالى في وصف نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى) النجم 3، 4، ورى الامام أحمد وغيره : ( عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِى قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ أَشْيَاءَ أَفَأَكْتُبُهَا قَالَ « نَعَمْ ». قُلْتُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا قَالَ « نَعَمْ فَإِنِّي لاَ أَقُولُ فِيهِمَا إِلاَّ حَقًّا » ، فبهذا فقد أرشدنا القرآن الكريم عند الاختلاف في أمور الدين بالرجوع إلى كتاب الله العظيم، وسنة نبيه الأمين ،فهما الميزان الواضح لمعرفة الحق من الباطل ، والصواب من الخطأ ، والسنة من البدعة ، وبهما يعرف الخير من الشر .
أيها المسلمون
وفي آيات أخرى من كتاب الله الكريم ،يبين الله تعالى لعباده المؤمنين ،كيف يتصرفون إذا حدث تنازع واختلاف – وهذا أمر وارد – فقال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} النساء: 59 ، فأمر الله المؤمنين في هذه الآية بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر، وهم العلماء والأمراء ، فإن حصل تنازع واختلاف في أي مسألة في الدين ،فليردوا حكمها إلى الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيستنبط من وفّقهم الله من أهل العلم حكمَ الله في المسألة المتنازع فيها ،كما قال الله سبحانه: {وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، ولم يقل الله تعالى (لعلموه كلهم)، بل :(لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) ، فبعض العلماء يعلمه ، وبعضهم لا يعلمه، ولأجل ذلك يحصل الخلاف في الفهم بين العلماء كثيراً، فقد قال الله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْـحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِـحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78 – 79]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: «فهذان نبيان كريمان حكما في حكومة واحدة فخص الله أحدهما بفهمها مع ثنائه على كل منهما بأنه آتاه الله حكماً وعلماً، فكذلك العلماء المجتهدون – رضي الله عنهم – للمصيب منهم أجران، وللآخر أجر، وكل منهم مطيع لله بحسب استطاعته، لا يكلفه الله ما عجز عن علمه» ، ومن المعلوم أن المسائل الاجتهادية هي التي ليس فيها نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع، أو فيها نصوص متعارضة في الظاهر، أو سنة مختلف في ثبوتها ، فيختلف أهل العلم في المسائل الاجتهادية لاختلاف أفهامهم، فمنهم من يصيب فله أجران، ومنهم من يخطئ فله أجر واحد، وخطؤه مغفور له؛ لأن إدراك الصواب في جميع المسائل الاجتهادية إما متعذر أو متعسر، وقد قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال الله تعالى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وفي الصحيحين : (عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ. وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ ». وهذا من رحمة الله وتيسيره لهذه الأمة، فقد قال سبحانه : {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: ٥]، وفي الدعاء العظيم الذي علمه الله عباده في آخر سورة البقرة ، قال الله تعالى : {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] قال الله: ( قَالَ قَدْ فَعَلْتُ ) كما في صحيح مسلم من حديث ابن عباس
أيها المسلمون
فإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز التشنيع على العالم إذا أخطأ في مسألة اجتهادية لم يوفّق للصواب في اجتهاده فيها، ولا يلزم من خطئه فيها أن يكون آثماً، بل له أجر على اجتهاده كما سبق بيانه، وكذلك لا يشنع على من أخذ بقوله من العامة، فإن الواجب عليهم سؤال أهل العلم كما قال الله تعالى : {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، فإن سألوا من يثقون بعلمه فقد قاموا بما أوجب الله عليهم، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، قال شيخ الإسلام: «الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل » .
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وقد قال غير واحد من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه، ولهذا قال العلماء: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه» ، وينبغي التنبيه إلى أن المسائل الاجتهادية هي التي يسوغ فيها الخلاف لاختلاف الأفهام، وأما المسائل الواضحة التي فيها نص أو إجماع فلا يجوز الاجتهاد فيها، والخلاف فيها شر لا يسوغ ولا يجوز. وبهذا يتبين أن من رجَّح قولاً من الأقوال في المسائل الاجتهادية، لا يجوز لأحد أن يطعن فيه، ولا أن يطعن فيمن أخذ بقوله من العامة، ولا يكرههم على قولهم، بل هذا من فعل أهل الغلو والبدعة الذين يفرِّقون الأمة فيوالون ويعادون على المسائل الاجتهادية، فيؤذون المؤمنين ويمتحنونهم ويقعون في أعراضهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً! ، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْـمُؤْمِنِينَ وَالْـمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58]، وروى أحمد في مسنده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمُ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ الْبَاغُونَ للْبُرَآءِ الْعَنَتَ » ، أي يطلبون العيوب القبيحة للأبرياء، ورى البزار في مسنده :(عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : ( … يَظْهَرُ قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ ، يَقُولُونَ : مَنْ أَقْرَأُ مِنَّا ؟ مَنْ أَفْقَهُ مِنَّا ؟ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : وَهَلْ فِي أُولَئِكَ مِنْ خَيْرٍ ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : أُولَئِكَ وَقُودُ النَّارِ أُولَئِكَ مِنْكُمْ ، مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ ) . وقال شيخ الإسلام – رحمه الله -: «ليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته ويوالي عليه ويعادي غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يفرِّقون به بين الأمة يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون» ، وقال شيخ الإسلام أيضاً: «قاعدة في صفات العبادات الظاهرة التي حصل فيها تنازع بين الأمة في الرواية والرأي، مثل: الأذان، والجهر بالبسملة، والقنوت في الفجر، والتسليم في الصلاة، ورفع الأيدي فيها، ووضع الأكف فوق الأكف، ونحو ذلك، فإن التنازع في هذه العبادات الظاهرة أوجب أنواعاً من الفساد الذي يكرهه الله ورسوله وعباده المؤمنون
الدعاء