خطبة عن (مع الزهد والزاهدين)
يناير 19, 2019خطبة عن قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)
يناير 19, 2019الخطبة الأولى ( يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ ،وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى البخاري في صحيحه : (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم –« يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ ،وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ ، وَيُلْقَى الشُّحُّ ،وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ » . قَالُوا وَمَا الْهَرْجُ قَالَ « الْقَتْلُ ، الْقَتْلُ »
إخوة الإسلام
موعدنا اليوم -إن شاء الله- مع هذا الحديث النبوي الشريف ، والذي يخبرنا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الأمور الغيبية ، والتي سوف تقع في الأزمنة المتأخرة من أمته ، وذلك ليحذروا الفتن ، ويتجنبوا الوقوع فيها ، ويتمسكوا بالدين ، ففي قوله صلى الله عليه وسلم : (يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ ) ، فمن علامات آخر الزمان ، أن يتقارب الزمان ، وقال العلماء في معنى (يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ ) : إما أن يكون المعنى : أن يتسارع الزمان بسبب الغفلة التي يغرق فيها الناس ، من جراء الانهماك في الشهوات والملذات ، والمتع ، وسهر الليالي في الملهيات ، فتمر السنة كأنها شهر ، والشهر كأنه أسبوع ، والاسبوع كأنه يوم ، واليوم كأنه ساعة ، وقال البعض : لعل قوله صلى الله عليه وسلم : (يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ ) : هذا كناية عن تقارب المكان ، وذلك بسبب وجود هذه المواصلات السريعة ، فالمكان الذي كان الناس يقطعونه في شهر ، أصبح في هذا الزمان يقطعونه في ساعة ، وهكذا .. وقال آخرون : معنى (يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ ) : أي استواء الليل والنهار ، وفي الصحيحين واللفظ لمسلم : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُسْلِمِ تَكْذِبُ وَأَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا »، ونقل ابن التين عن الداودي : أن المعنى : أن ساعات النهار تقصر قرب قيام الساعة ، ويقرب النهار من الليل ، وفي مسند أحمد (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ ،: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ وَيَكُونَ الشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ وَتَكُونَ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ وَيَكُونَ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ وَتَكُونَ السَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعْفَةِ الْخُوصَةُ » ، وقال النووي: قد يكون المراد بقصره عدم البركة فيه ،وأن اليوم مثلا يصير الانتفاع به بقدر الانتفاع بالساعة الواحدة ، فالبركة في الزمان وفي الرزق وفي النبت إنما تكون من طريق قوة الإيمان واتباع الأمر واجتناب النهي ، والشاهد على ذلك ، قوله تعالى :(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (96) الأعراف ، وقيل : (يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ ) ” أي : قصر الأعمار بالنسبة إلى كل طبقة ،فالطبقة الأخيرة أقصر أعمارا من الطبقة التي قبلها ، وقال الطحاوي : (يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ ) أي : تقارب أحوالهم في الشر ،والفساد والجهل ؛ ولعل ذلك بسبب ما وقع من ضعف الإيمان، لظهور الأمور المخالفة للشرع ، وقال البيضاوي : يحتمل أن يكون المراد (يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ ) أي تسارع الدول إلى الانقضاء والقرون إلى الانقراض فيتقارب زمانهم وتتدانى أيامهم ،
أيها المسلمون
ثم نأتي إلى قوله صلى الله عليه وسلم : (وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ ) ، والمقصود بنقص العمل ، هو العمل بدين الله وشرعه ، والانغماس في أعمال الدنيا وترك أعمال الآخرة ، وهذا هو الخسران المبين ، فقد قال الله تعالى : (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) (18): (21) الاسراء
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : (وَيُلْقَى الشُّحُّ ) ، فالشح : هو الإمساك ، والتقتير ، والبخل ، وعدم الانفاق ، والحرمان ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (وَيُلْقَى الشُّحُّ ) ،فالمراد : إلقاؤه في قلوب الناس على اختلاف أحوالهم ،حتى يبخل العالم بعلمه ،فيترك التعليم والفتوى ،ويبخل الصانع بصناعته ،حتى يترك تعليم غيره ،ويبخل الغني بماله ،حتى يهلك الفقير ،وليس المراد وجود أصل الشح لأنه لم يزل موجودا ،فالشح من طبائع النفوس، ولكن بالمجاهدة ،والاستعانة بالله ،يتخلص الإنسان من طبع الشح، فهو يؤدي إلى ارتكاب ما حرم الله من قطيعة الأرحام، وسفك الدماء، والشح أيضا يفضي إلى طلب الإنسان ما ليس له، ومنع ما يجب عليه من الحقوق، ومن المعلوم : أن الشح ممحق للمال ،مذهب لبركته ، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم : « مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ » فإن أهل المعرفة فهموا من هذا الحيث: أن المال الذي يخرج منه الحق الشرعي ،لا يلحقه آفة ولا عاهة ، بل يحصل له النماء ، ومن ثم سميت الزكاة بهذا ، لأن المال ينمو بها ، ويحصل فيه البركة .
أيها المسلمون
ثم نأتي إلى قوله صلى الله عليه وسلم : (وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ » . قَالُوا وَمَا الْهَرْجُ قَالَ « الْقَتْلُ ، الْقَتْلُ » ، فقد بين صلى الله عليه وسلم أن المقصود بكثرة الهرج ، أي كثرة القتل ظلما وعدوانا ، فيكثر في هذا الزمان الظلم والبغي والاعتداء ، ورُوِي عن عبدالله بن قيس الأَشْعَرِي، أَنه قال لعبدالله بن مسعود: أَتعلم الأيامَ التي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها الهَرْج؟ قال: نعم، تكون بين يَدَيِ الساعة، يُرفَع العلم، ويَنزِل الجهل، ويكون الهَرْجُ. قال أبو موسى: الهَرْج بلسان الحبشة القتلُ.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ ،وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ العبادة في زمن الهَرْج لها أجر عظيم، وثواب جزيل من الله تعالى ؛ فيجب علينا أن نستبصر بكلامه صلى الله عليه وسلم ،ونستهدي بهَدْيه صلى الله عليه وسلم ، لنكونَ من الفائزين في الدنيا، والناجين الرابحين في الآخرة. وروى مسلمٌ عن (مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رَدَّهُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَىَّ ». وفي رواية أحمد : « الْعَمَلُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَىَّ »، وفي رواية : « الْعِبَادَةُ فِي الْفِتْنَةِ كَالْهِجْرَةِ إِلَىَّ ». قال الإمام النَّوَوِي في شرح مسلم: “قوله صلى الله عليه وسلم: «العبادة في الهَرْج كهجرة إليَّ». المراد بالهَرْج هنا: الفتنة، واختلاط أمور الناس. وسبب كثرة فضل العبادة فيه: أن الناس يَغْفُلون عنها ويَشْتَغلون عنها، ولا يتفرَّغ لها إلا أفراد”. وقال الطَّحَاوِي في (شرح مشكل الآثار): “فوجدنا الهَرْج إذا كان شُغل أهلِه في غيره، مما هو أَوْلى بهم من عبادة ربهم – عز وجل – ولزوم الأحوال المحمودة التي يجب عليهم لزومها، فكان مَن تشاغَل في العبادة في تلك الحال متشاغلاً بما أمر بالتشاغل به، تاركًا لما قد تشاغل به غيرُه من الهَرْج المذموم، الذي قد نُهِي عن الدخول فيه والكونِ من أهله، فكان بذلك مستحقًّا للثواب الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث” ، وقال ابن حَجَر في فتح الباري: “قال القرطبي: إن الفتن والمشقَّة البالغة، ستقع حتى يَخِفَّ أمر الدين، ويَقِلَّ الاعتناء بأمره، ولا يَبْقَى لأحد اعتناء إلا بأمر دنياه ومعاشِه نفسِه، وما يتعلق به؛ ومن ثَمَّ عَظُم قدرُ العبادة أيام الفتنة”. وفي كتاب تطريز رياض الصالحين: “قال القرطبي: المتمسك في ذلك الوقت، والمنقطع إليها، المنعزل عن الناس، أجرُه كأجر المهاجر إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأنه ناسبه من حيث إن المهاجر فرَّ بدينه ممن يصده عنه للاعتصام بالنبيِّ – صلى الله عليه وسلم – وكذا هذا المنقطع للعبادة فرَّ من الناس بدينه إلى الاعتصام بعبادة ربه، فهو في الحقيقة قد هاجر إلى ربه، وفرَّ من جميع خلقه”. وقال الحافظ ابن رجب: “وسبب ذلك: أن الناس في زمن الفتن يتَّبعون أهواءهم، ولا يرجعون إلى دين؛ فيكون حالهم شبيهًا بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم مَن يتمسَّك بدينِه ويعبد ربَّه، ويتَّبع مراضيه، ويجتنب مساخطه، كان بمنزلة مَن هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به، متبعًا لأوامره، مجتنبًا لنواهيه” وقال ابن العربي: وجْه تمثيله بالهجرة أن الزمن الأول كان الناس يفرِّون فيه من دارالكفر وأهله، إلى دار الإيمان وأهله، فإذا وقَعَت الفتن تعيَّن على المرء أن يفرَّ بدينِه من الفتنة إلى العبادة، ويَهْجُر أولئك القوم وتلك الحالة، وهو أحد أقسام الهجرة”
الدعاء