خطبة عن قوله تعالى (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا)
مارس 2, 2019خطبة عن (شهر رجب والأشهر الحرم)
مارس 3, 2019الخطبة الأولى ( ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِىَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى مسلم في صحيحه : ( عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ :« ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِىَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً ».
إخوة الإسلام
موعدنا اليوم -إن شاء الله- مع هذا الهدي النبوي الكريم ، وما يتضمنه من الدعوة إلى تحقيق الإيمان الكامل ، ليذوق ثمرته ، متمثلة في الشعور بحلاة الإيمان وطعمه . فحلاوة الإيمان حقيقة معنوية ، يجعلها الله في قلوب الصالحين من عباده. قال الإمام النووي في شرحه لمسلم: قال العلماء: معنى حلاوة الإيمان : استلذاذه الطاعات، وتحمله المشاق ،في رضى الله ورسوله، وإيثار ذلك على عرض الدنيا. فللإيمان لذة تُذاق بالقلب ،كما تُذاق لذة الطعام باللسان، فهي سعادة القلب، وراحة النفس، وسعة البال، وانشراح الصدر . وكلّما كان القلب صحيحاً معافى من الأمراض، والأهواء، والمعاصي ،تذوّق تلك اللذة، فإذا تذوقها آثرها على متاع الدنيا، وهانت عليه مصاعبها، وأصبح تعب الجسد في طاعة الله راحةً للروح، قال ابن القيم واصفاً حلاوة الإيمان: (في القلب شعثٌ لا يلمه إلّا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يُزيلها إلّا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يزيله إلّا السرور بمعرفته ،وصدق معاملته، وفيه قلق لا يُسكنه إلّا الاجتماع عليه ،والفرار إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلّا الرضى بأمره، ونهيه، وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه)، فلذة الإيمان في القلب تشبه الحلاوة الحسية ،بل ربما يغلب عليها ،حتى يدفع بها أشدّ المرارات، وهذا ممّا يعلم به من شرح الله صدره للإسلام .
وهذا الحديث الذي صدرت به هذه الخطبة ، قد تضمن الدعوة والترغيب في الرضى بربوبيته سبحانه، وألوهيته، والرضى برسوله والانقياد له، والرضى بدينه والتسليم له، ومن اجتمعت له هذه الأربعة: فهو الصدِّيق حقا، وعندها يتذوق طعم الإيمان وحلاوته والرضا بالله تعالى ربا ومعبودا ، وبالإسلام دينا ومنهجا ، وبنبي الله محمد نبيا ورسولا ، هذه الأمور :هي سهلة بدعوى اللسان، ولكنها من أصعب الأمور عند الحقيقة والامتحان، ولا سيّما إذا جاء ما يخالف هوى النفس، فهنا يتبين للإنسان : أنه يقول باللسان ، ما تخالفه الأفعال فالرضا بألوهيته : يتضمن الرضا بمحبته وحده، وخوفه، ورجائه، والإنابة إليه، والتبتل إليه ، وذلك يتضمن عبادته والإخلاص له. والرضى بربوبيته : يتضمن الرضى بتدبيره لعبده، ويتضمن إفراده بالتوكل عليه، والاستعانة به، والثقة فيه، والاعتماد عليه، وأن يكون راضيا بكل ما يقدره عليه . وكثيرٌ من الناس يرضى بالله ربّاً ولا يبغي ربَاً سواه، ولكنه لا يرضى به وحده وليّاً وناصراً، بل يوالي من دونه أولياء، ظنّاً منه أنهم يُقرِّبونه إلى الله، وأنَّ موالاتهم كموالاة خواص الملك، وهذا هو عين الشرك، بل التوحيد: أن لا يتخذ من دونه أولياء ،وآيات القرآن كثيرا ما وصفت المشركين بأنهم اتخذوا من دونه أولياء. وكثيرٌ من الناس يبتغي غيره حَكماً يتحاكم إليه، ويُخاصم إليه، ويَرضى بحُكمه. وهذه المقامات الثلاث هي أركان التوحيد: أن لا يتخذ سواه رباً، ولا إلهاً، ولا غيره حكماً. وأما الرضى بنبيه صلى الله عليه وسلم رسولا : فيتضمن كمال الانقياد له، والتسليم المطلق إليه؛ بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقَّى الهُدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره ألبتة؛ فإن عجز عن ذلك كان تحكيمه غيره من باب غذاء المضطر ، وأما الرضى بدينه : فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهى : رضي كل الرضى، ولم يبق في قلبه حرج من حكمه، وسلم له تسليما، ولو كان مخالفاً لمراد نفسه، أو هواها،
أيها المسلمون
يقول ابن تيمية رحمه الله : ” فإن المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله ما يمنعه من عبوديته لغيره، إذ ليس في القلب السليم أحلى ولا أطيب ولا ألذ ولا أسر ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله ومحبته له وإخلاص الدين له، وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله فيصير القلب منيباً إلى الله خائفاً منه راغباً راهباً ” فنعمة حلاوة الإيمان ولذة الطاعة والإحسان , نعمة لا يدركها ولا يعرف قيمتها إلا من ذاقها وأحس بها وعاش معها , ولذة لا يستشعر أثرها إلا من تذوق طعمها وأنس بوجودها .وحلاوة الإيمان تسري سريان الماء في العود، وتجري جريان الدماء في العروق , فيأنس بها القلب وتطمئن بها النفس , فلا يحس معها المرء بأرق ولا قلق ولا ضيق, قال الله تعالى :” فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (125) :(127) الأنعام . ولذلك ، فحينما جاء خباب بن الأرت رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو ظلم قريش للمستضعفين من المسلمين , قال له في إيمان الواثق بربه الذي ذاق حلاوة الإيمان به والثقة بما عنده من عزة ونصر : « قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ » رواه البخار. وهذا بلال بن رباح رضي الله عنه ،يطبق حلاوة الإيمان تطبيقاً عملياً ،حينما كان يعذ ب من قبل قريش ،بعد إعلان كلمة التوحيد ، وكان يعذ ب في رمضاء مكة ، فسئل كيف صبرت يا بلال؟ ، قال: مزجت حلاوة الإيمان ،بمرارة العذاب ،فطغت حلاوة الإيمان على مرارة العذاب ، فصبرت ، وقَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ لاِبْنِهِ يَا بُنَىَّ إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ اكْتُبْ قَالَ رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ قَالَ اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ يَا بُنَىَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّى ). رواه أبو داود
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِىَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وحلاوة الإيمان لا يحسها ولا يعايشها أي أحد , كما أنها لا تباع ولا تستجدى , يقول أحدهم من شدة سروره بتلك النعمة : لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه – يعني من النعيم – لجالدونا عليه بالسيوف. وقال بعض العارفين: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها. قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبَّة الله تعالى ومعرفته وذكره . وكان شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. وقال أيضاً : ليس للقلوب سرور ولا لذَّة تامة إلا في محبة الله والتقرُّب إليه بما يحبه، ولا يمكن محبَّة إلا بالإعراض عن كلِّ محبوبٍ سواه . فالإيمان بالله تعالى له حلاوةٌ لا يتذوق طعمها إلا المؤمنون الصادقون الذين يتصفون بصفات تؤهلهم لذلك، وليس كل من ادعى الإيمان يجد هذه الحلاوة. وهذه اللذة وتلك الحلاوة تتفاوت من شخص إلى شخص حسب قوة الإيمان وضعفه، وتحصل هذه اللذة بحصول أسبابها، وتزول بزوال أسبابها، ويجدر بالمسلم أن يسعى جاهدًا إلى تحصيلها لينعم بالحياة السعيدة
أيها المسلمون
جاء في الصحيحين : (عَنْ أَنَسٍ – رضى الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ : « ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ ، وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ » فمن أراد أن يتذوق طعم الإيمان ، وحلاوة الإيمان ، فليحافظ على الفرائض ،ثم يكثر من النوافل والطاعات، فقد روى البخاري قوله في الحديث القدسي : (وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِى بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ ) ، فإذا اتصف العبد بهذه الصفات، وتقرب إلى الله تعالى بالطاعات ،فلا شك أنه سيجد حلاوة الإيمان، كما أخبر الصادق المصدوق عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام ومن المعلوم أن لذة الإيمان ،لا تشبه لذة الحرام، لأن لذة الإيمان لذة قلبية روحية، أما لذة الحرام فهي لذة شهوانية جسدية، ويعقبها من الآلام والحسرات أضعاف ما نال صاحبها من المتعة، ولله در من قال:
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء من مغبتها لا خير في لذة من بعدها نار
الدعاء