خطبة عن: المسيح عيسى بن مريم عبد الله ورسوله (مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ)
مارس 9, 2019خطبة عن حديث (أَنْتُمْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ إِلاَّ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأَسْوَدِ)
مارس 9, 2019الخطبة الأولى ( قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى مسلم في صحيحه ( عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : قُلْ لِي فِي الإِسْلاَمِ قَوْلاً لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ – وَفِى حَدِيثِ أَبِى أُسَامَةَ غَيْرَكَ – : قَالَ : « قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ » . وفي مسند أحمد : قَالَ : « قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ » .
إخوة الإسلام
موعدنا اليوم -إن شاء الله- مع هذا الحديث النبوي الشريف ، والذي جمع فأوعى ، فهذا الحديث هو أحد الأحاديث القلائل والتي عليها مدار الإسلام ، من حيث أنه شمل أمور الاعتقاد ،وأمور الظاهر والباطن ، وأعمال القلوب ،وأعمال الجوارح ، وشمل أيضا الحث على الثبات على هذه الطاعات ، ومعنى قول الصحابي : (يَا رَسُولَ اللَّهِ : قُلْ لِي فِي الإِسْلاَمِ قَوْلاً لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ) : أي : علمني قولاً جامعًا لمعاني الإسلام ، قولا واضحًا في نفسه ، بحيث لا يحتاج إلى تفسير غيرك ؛ وأعمل عليه وأتقي به فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله : « قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ ». أو « قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ » ، قال ابن رجب : والاستقامة : هي سلوكُ الصِّراط المستقيم ، وهو الدِّينُ القيِّم من غير تعريج عنه يَمنةً ولا يَسرةً ، ويشمل ذلك فعلَ الطَّاعات كلِّها ، الظاهرة والباطنة ، وتركَ المنهيات كُلِّها كذلك ، فصارت هذه الوصيةُ جامعةً لخصال الدِّين كُلِّها ، فالاستقامة لَفْظٌ جَامِعٌ لِجَمِيعِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ، فَإِنَّهُ لَوْ تَرَكَ أَمْرًا أَوْ فَعَلَ نَهْيًا فَقَدْ عَدَلَ عَنْ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمَةِ حَتَّى يَتُوبَ . فهذا من بدائع جوامع الكلم التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه جمع لهذا السائل في هاتين الكلمتين معاني الإسلام والإيمان كلها ؛ فإنه أمره أن يجدد إيمانه بلسانه متذكرًا بقلبه ، وأمره أن يستقيم على أعمال الطاعات والانتهاء عن جميع المخالفات ، فالاستقامة لا تتأتى مع شيء من الاعوجاج ، فإنها ضده ؛ وهذا مأخوذ من قول الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اِسْتَقَامُوا ) [ فصلت : 30 ، والأحقاف : 13 ] ، أي : آمنوا بالله وحده ، ثم استقاموا على ذلك ،وعلى الطاعة ،إلى أن توفاهم الله عليها ؛ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : استقاموا والله لله على طاعته ،ولم يروغوا روغان الثعالب ؛ ومعناه : اعتدلوا على أكثر طاعة لله اعتقادًا وقولاً وفعلاً ؛ وداموا على ذلك . وفي قوله تعالى: ( فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ) [ فصلت : 6 ] ، إشارةٌ إلى أنَّه لابُدَّ من تقصيرٍ في الاستقامة المأمور بها ، فيُجبَرُ ذلك بالاستغفار المقتضي للتَّوبة والرُّجوع إلى الاستقامة ، فهو كقول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لمعاذ : « اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا) رواه الترمذي ، قال ابن القيم : والمطلوب من العبد الاستقامة وهي السداد ، فإن لم يقدر عليها فالمقاربة ، فإن نزل عنها فالتفريط والإضاعة ؛ كما في صحيح مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ : ” قَارِبُوا وَسَدِّدُوا ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ ” قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْتَ ؟ قَالَ : ” وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ ” وفي رواية البخاري ( سَدِّدُوا وَقَارِبُوا ، وَاغْدُوا وَرُوحُوا ، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا » وفي سنن أبي داود يقول صلى الله عليه وسلم :« أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ لَنْ تُطِيقُوا أَوْ لَنْ تَفْعَلُوا كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ سَدِّدُوا وَأَبْشِرُوا ».
والاستقامة تكون في النيات والأقوال والأعمال: فمن زعم أنه استقام على شرع الله تعالى، وظاهره يخالف ذلك، وتراه ربما يشير إلى صدره ويقول: (الاستقامة ها هنا) – فزعمُه باطل ، ودعواه كاذبة؛ فاستقامة القلب تنقاد إليها الجوارح، فمن استقام ظاهره ،ولم يستقِمْ قلبه، فاستقامته مخرومة، فليست هي الاستقامة التي يريدها الله تعالى؛ فمن عمر قلبه بفتن الشهوات وساء عملُه، حمل قلبًا مسودًّا، أو قلبًا قليل التعلق بربه، ومهابته وخشيته وإجلاله وتعظيمه ، فأنَّى لقلبه استقامة؟ فالاستقامة تكون بالقلب واللسان والجوارح. يقول ابن القيم – رحمه الله -: “والاستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال، والأحوال والنيات؛ فالاستقامة فيها وقوعها لله وبالله، وعلى أمر الله، قال بعضهم: كن صاحب الاستقامة، لا طالب الكرامة؛ فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطالبك بالاستقامة؛ فالاستقامة للحال بمنزلة الروح من البدن، فكما أن البدن إذا خلا عن الروح فهو ميت، فكذلك إذا خلا عن الاستقامة فهو فاسد
أيها المسلمون
إن من غايات المسلم وأهدافه، أن تتضح له معالم الطريق إلى ربّه ، فلذلك تراه يبتهل إلى الله في صلاته كل يوم وليلة أن يهديه الصراط المستقيم ، كي يتخذه منهاجا يسير عليه ، وطريقا يسلكه إلى ربه ، حتى يظفر بالسعادة في الدنيا والآخرة . وفي قوله صلى الله عليه وسلم : « قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ ». يضع الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلم منهجا متكاملا للمؤمنين ، وتتضح معالم هذا المنهج ببيان قاعدته التي يرتكز عليها ، وهي الإيمان بالله : (قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ) ، فهذا هو العنصر الذي يغير من سلوك الشخص وأهدافه وتطلعاته ، وبه يحيا القلب ويولد ولادة جديدة تهيئه لتقبل أحكام الله وتشريعاته ، ويقذف الله في روحه من أنوار هدايته ، فيعيش آمنا مطمئنا ، ناعما بالراحة والسعادة ، قال الله تعالى مبينا حال المؤمن :{ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ( الأنعام : 122 ) ، فبعد أن كان خاوي الروح ، ميّت القلب ، دنيوي النظرة ، إذا بالنور الإيماني يملأ جنبات روحه ، فيشرق منها القلب ، وتسمو بها الروح ، ويعرف بها المرء حقيقة الإيمان ومذاقه. فإذا ذاق الإنسان حلاوة الإيمان ، وتمكنت جذوره في قلبه ، استطاع أن يثبت على الحق ، ويواصل المسير ، حتى يلقى ربّه وهو راض عنه ، ثم إن ذلك الإيمان يثمر له العمل الصالح ، فلا إيمان بلا عمل ، كما أنه لا ثمرة بلا شجر ، ولهذا جاء في رواية عند الامام أحمد : « قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ » فرتّب الاستقامة على الإيمان ، فالاستقامة ثمرة ضرورية للإيمان الصادق ،
وبالاستقامة يحافظ العبد على الفطرة التي فطره الله عليها ، فلا يحجب نورها بالمعاصي والشهوات ، مستمسكا بحبل الله ، كما قال ابن رجب رحمه الله : ” والاستقامة في سلوك الصراط المستقيم ، وهو الدين القويم من غير تعويج عنه يمنة ولا يسرة ، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها : الظاهرة والباطنة ، وترك المنهيات كلها ” ، وهو بذلك يشير إلى قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ( الروم : 30 ).
أيها المسلمون
وللاستقامة ثمار عديدة لا تنقطع ، فهي باب من أبواب الخير ، وبركتها لا تقتصر على صاحبها فحسب ، بل تشمل كل من حوله ، ويفهم هذا من قوله تعالى : {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} ( الجن : 16 ) ،وتستمر عناية الله بعباده المستقيمين على طاعته حتى ينتهي بهم مطاف الحياة ، وهم ثابتون على كلمة التوحيد ، لتكون آخر ما يودعون بها الدنيا ، كما قال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) } ( فصلت : 30-32 ) .
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومن ثمرات الاستقامة : الطمأنينة والسكينة: حيث قال تعالى: ﴿ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾ [فصلت: 30]؛ أي: لا تخافوا مما تُقدِمون عليه من أمور الآخرة، ولا تحزنوا على ما فاتكم من أمور الدنيا، وقال عطاء – رحمه الله -: “لا تخافوا ردَّ ثوابكم؛ فإنه مقبول، ولا تحزنوا على ذنوبكم؛ فإني أغفرها لكم”؛ ومن ثمرات الاستقامة : الانشراح في الصدر والحياة الطيبة: قال الله تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]، ومَن جاء بالاستقامة فقد عمل أحسن العمل؛ فاستحقَّ الحياة الطيبة الهنية ، واعلم أخي ، أننا إذا أردنا أن نحقق الاستقامة في البدن فلا بد من استقامة القلب أولا ، لأن القلب هو ملك الأعضاء ، فمتى استقام القلب على معاني الخوف من الله ، ومحبته وتعظيمه ، استقامت الجوارح على طاعة الله ، ثم يليه في الأهمية : استقامة اللسان ، لأنه الناطق بما في القلب والمعبّر عنه ،
أيها المسلمون
ومن الفوائد والعبر والدروس التي يمكن أن نستخلصها من هذا الحديث: أولا : أن الحديث دليلٌ على حرص الصحابة رضوان الله عليهم على العلم، وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن أهم الأعمال وأحكَمها، وعلى تعلم الدين. ثانيا : الحديث من جوامع الكلم التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم؛ ففي هذين الأمرين جمع النبي صلى الله عليه وسلم الدِّين كله؛ ثالثا : في الحديث دليل على أن جماع الخير في الاستقامة بعد الإيمان، ولأن شأنها عظيم أرشد النبي صلى الله عليه وسلم لها حينما سأله عن شيء جامع، رابعا : يظهر من الحديث الخوف والحذر الشديد من (الانتكاس) فانظر لقول الصحابي للنبي صلى الله عليه وسلم في أول الحديث قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك , خامسا : الثبات على الاستقامة يعني بإذن الله خاتمة حسنة . سادسا : في الاستقامة ، محبة الله ، ومحبة الناس ، والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.
الدعاء