خطبة عن الرحمة (إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ)
مارس 28, 2020خطبة عن (الدعاء لرفع البلاء)
أبريل 1, 2020الخطبة الأولى ( مَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفُّهُ اللَّهُ. وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
في الصحيحين البخاري ومسلم : ( أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَلَمْ يَسْأَلْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلاَّ أَعْطَاهُ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُمْ حِينَ نَفِدَ كُلُّ شَيْءٍ أَنْفَقَ بِيَدَيْهِ : « مَا يَكُنْ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ لاَ أَدَّخِرْهُ عَنْكُمْ ، وَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفُّهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ ، وَلَنْ تُعْطَوْا عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ »
إخوة الإسلام
موعدنا اليوم إن شاء الله مع هذا الهدي والأدب النبوي ، والذي يرشدا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خصال الخير ، ومكارم الأخلاق ، فقد كان من خلق الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم – أنه لا يُسأل شيئاً يجده إلا أعطاه ، وما عُهد عنه أنه صلي الله عليه وسلم منع سائلاً، بل كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ويعيش في بيته عيش الفقراء، وربما ربط على بطنه الحجر من الجوع ، فهو صلى الله عليه وسلم أكرم الناس ، واشجع الناس ، وأجود في العطاء من الريح المرسلة. وفي هذا الحديث الذي بين أيدينا اليوم ، يقول الصحابي الجليل ( أبو سعيد ) : (أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَلَمْ يَسْأَلْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلاَّ أَعْطَاهُ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ) ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حب الناس للمال ، ورغبة النفوس في جمعه ، والتطلع إلى المزيد منه ، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهذب أخلاقهم ، ويرشدهم إلى ما ينفعهم ، ويخلقهم بأعظم الأخلاق ، وأفضل الشيم والشمائل : (فَقَالَ لَهُمْ حِينَ نَفِدَ كُلُّ شَيْءٍ أَنْفَقَ بِيَدَيْهِ ) : (مَا يَكُنْ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ لاَ أَدَّخِرْهُ عَنْكُمْ ) ، أي : لن أبقي شيئاً دونكم، لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يبقي لنفسه شيئا ، بل هو معطاء ، وعطاؤه ليس له حدود ، لأنه يعلم أن ما عند الله خير وأبقى، ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم ناصحا ، ومعلما ، ومؤدبا ، (وَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفُّهُ اللَّهُ ) ، وفي رواية ( وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ ) : قَالَ الْقُرْطُبِيّ : ” ( مَنْ يَسْتَعِفّ ) أَيْ يَمْتَنِع عَنْ السُّؤَال , ( يُعِفَّهُ اللَّه ) أَيْ إِنَّهُ يُجَازِيه عَلَى اِسْتِعْفَافه بِصِيَانَةِ وَجْهِهِ ، وَدَفْع فَاقَته ” . وَقَالَ اِبْن التِّين : ” مَعْنَى قَوْله ( يُعِفَّهُ اللَّه ) إِمَّا أَنْ يَرْزُقهُ مِنْ الْمَال مَا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ السُّؤَال , وَإِمَّا أَنْ يَرْزُقهُ الْقَنَاعَة ” الفتح” ، وقَالَ الطِّيبِيُّ : (مَنْ يَسْتَعِفّ) يَطْلُبِ الْعِفَّةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ( يُعِفَّهُ اللَّهُ) أَيْ يَجْعَلْهُ عَفِيفًا ، مِنَ الْإِعْفَافِ ، وَهُوَ إِعْطَاءُ الْعِفَّةِ ، وَهِيَ الْحِفْظُ عَنِ الْمَنَاهِي ،ويَعْنِي : مَنْ قَنِعَ بِأَدْنَى قُوتٍ ، وَتَرَكَ السُّؤَالَ : تَسْهُلُ عَلَيْهِ الْقَنَاعَةُ ، وَهِيَ كَنْزٌ لَا يَفْنَى ” ،وقال الشيخ ابن عثيمين : ” فمن يستعف عما حرم الله عليه من النساء : يعفه الله عز وجل ،فإذا استعف الإنسان عن هذا المحرم : أعفه الله- عز وجل- ، وحماه ، وحمي أهله أيضاً ” ،وعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى ، وَلْيَبْدَأْ أَحَدُكُمْ بِمَنْ يَعُولُ ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ ) فَقُلْتُ: وَمِنْكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ( وَمِنِّي ) قَالَ حَكِيمٌ : قُلْتُ: لَا تَكُونُ يَدِي تَحْتَ يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ أَبَدًا ” رواه أحمد ، وهكذا ، فمن يسلك سبيل العفة فإن الله يعفه ، إما بإعطائه ما يستغني به عن الغير ، وإما بإغناء قلبه ، بحيث لا يتطلع إلى أي شيء أكثر مما أعطي ،
أيها المسلمون
ثم يقول صلى الله عليه وسلم : (وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ) : قَالَ الْقُرْطُبِيّ : ” ( وَمَنْ يَتَصَبَّرْ ) أَيْ: يُعَالِج نَفْسه عَلَى تَرْك السُّؤَال وَيَصْبِر إِلَى أَنْ يَحْصُل لَهُ الرِّزْق ( يُصَبِّرهُ اللَّه ) أَيْ :فَإِنَّهُ يُقَوِّيه وَيُمَكِّنهُ مِنْ نَفْسه ، حَتَّى تَنْقَاد لَهُ ، وَيُذْعِن لِتَحَمُّلِ الشِّدَّة , فَعِنْد ذَلِكَ يَكُون اللَّه مَعَهُ فَيُظْفِرهُ بِمَطْلُوبِهِ ” .الفتح” ،وقَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ رحمه الله : ” لَمَّا كَانَ التَّعَفُّفُ يَقْتَضِي سَتْرَ الْحَالِ عَنِ الْخَلْقِ وَإِظْهَارِ الْغِنَى عَنْهُمْ فَيَكُونُ صَاحِبُهُ مُعَامِلًا لِلَّهِ فِي الْبَاطِنِ فَيَقَعُ لَهُ الرِّبْحُ عَلَى قَدْرِ الصِّدْقِ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا جُعِلَ الصَّبْرُ خَيْرَ الْعَطَاءِ لِأَنَّهُ حَبْسُ النَّفْسِ عَنْ فِعْلِ مَا تُحِبُّهُ وَإِلْزَامُهَا بِفِعْلِ مَا تَكْرَهُ فِي الْعَاجِلِ مِمَّا لَوْ فَعَلَهُ أَوْ تَرَكَهُ لَتَأَذَّى بِهِ فِي الْآجِلِ “. الفتح” ،ومعنى يتصبر، أي: هو في البداية يتكلف الصبر، فهو ليس من طبيعته ، ولكنه يحبس نفسه ويجاهدها ليعلمها الصبر ، حتى يصبح الصبر خلقا له وسجية ، فالناس يتفاوتون تفاوتاً كبيراً في درجات الصبر ، وهذا تعليم من النبي -صلى الله عليه وسلم- للناس ، عن كيفية التخلق بالأخلاق الفاضلة، حتى تصير سجية، فكيف يتعلم الصبر من كان صبره قليلا ؟ ، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول له : (مَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ) ، فمن يتصبر مثلا على المصائب ، يصبره الله ، ومن يتشكى يحرم الصبر ، ولهذا قال العلماء : لا يجوز للإنسان أن يذكر مصائبه عند الناس شكاية ، لأنك إذا شكوت الله إلى المخلوق ، شكوت الرحيم إلى من لا يرحم ، وإذا شكوت إلى ابن آدم ،إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم ، أما الإخبار بالشيء ، لا على سبيل التشكي ، فإن ذلك لا يضر ، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال لعائشة : ( بل أنا ورأساه ) وأخبر أن رأسه يوجعه ، ولا حرج في هذا ، وقال إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم ، ففرق بين شخص يخبر عما فيه من المرض مثلا ً، أو الفقر أو غيره ، تشكياً ، أو إخباراً ، فالأول : مذموم والثاني: لا بأس به ، ومن المعلوم أن البكاء ودمع العين لا ينافي الصبر ، بل البكاء إذا كان رحمة فهو مستحب لأنه هدي النبي – صلى الله عليه وسلم ،ويدل على ذلك : ما جاء في الصحيحين 🙁 عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رضى الله عنه – قَالَ دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – عَلَى أَبِى سَيْفٍ الْقَيْنِ – وَكَانَ ظِئْرًا لإِبْرَاهِيمَ – عَلَيْهِ السَّلاَمُ – فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – تَذْرِفَانِ . فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ – رضى الله عنه – وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ « يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ » . ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ – صلى الله عليه وسلم – « إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يَرْضَى رَبُّنَا ، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ » ،وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : ” لكن البكاء على الميت على وجه الرحمة مستحب ، وذلك لا ينافي الرضا ” ، وأما إذا صاحب البكاء تسخط ،وتبرَّم من القضاء ،أو نوح ،وصياح ،أو خمش للوجوه ، ونحو ذلك من الأفعال ،أو الأقوال المحرمة ،فهذا بكاء ممنوع محرم ،يأثم عليه صاحبه .
أيها المسلمون
وللصبر أنواع : قال ابن القيم- رحمه الله – : ” الصبر باعتبار متعلقه ثلاثة أقسام : صبر الأوامر والطاعات التي يؤديها ، وصبر عن المناهي والمخالفات حتى لا يقع فيها، وصبر على الأقدار والأقضية حتى لا يسخطها “، وللتخلق بخلق الصبر أهمية كبيرة ، وفيه فوائد عظيمة : قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : ” قد ذكر الله الصبر في كتابه في أكثر من تسعين موضعاً، وقرنه بالصلاة في قوله : {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } ( البقرة45 )، وجعل الإمامة في الدين موروثة عن الصبر واليقين بقوله : {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } ( السجدة : 24 ) ، فإن الدين كله علم بالحق وعمل، والعمل به لابد فيه من الصبر، بل وطلب علمه يحتاج إلى صبر”
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( مَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفُّهُ اللَّهُ. وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ولعظم أمر الصبر ، فقد جعل الله تعالى فيه ثمرات وفضائل كثيرة ، ومنها : أولا : أن الله تعالى جعل الإمامة في الدين منوطة بالصبر واليقين . ثانيا : أن الله أخبر أن الخير بالصبر مؤكداً ذلك باليمين ،قال تعالى :{ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } (النحل : 126 ) ، ومن أعظم الخير فيه أن أجره لا يقدر و لا يحدد فقال سبحانه : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ } ( الزمر :10 ) ، ثالثا : من ثمرات الصبر أن الله تعالى أخبر أنه يحب الصابرين .قال تعالى : { وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } (آل عمران : 146 ) ، رابعا : وأخبر أنه معهم ، فبالصبر ينال العبد معية الله تعالى، قال تعالى : { َاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } (الأنفال : 46 ) ، خامسا : علق الله تعالى الفلاح بالصبر والتقوى ،فقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (آل عمران :200) ، سادسا : أن الفوز بالجنة والنجاة من النار إنما تنال بالصبر، فقال تعالى : {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ } (المؤمنون :111) ، سابعا : أن الصبر من أعالي الأمور وأعظمها ، فقال تعالى : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } (آل عمران :186) ، ثامنا : أن النصر قرين الصبر ومعه
أيها المسلمون
وأما النصيحة التالية في هذا الحديث ، فهي في قوله صلى الله عليه وسلم : (وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ ) : أي: من يستغن بما عند الله ،عما في أيدي الناس؛ يغنه الله عز وجل، والغني غني القلب ، فمن أغناه الله عن الناس، جعل قلبه عامرا بالرضا ، عزيز النفس ، بعيداً عن السؤال ، وأما من يسأل الناس ويحتاج لما عندهم ؛ فإنه سيبقي قلبه فقيراً – والعياذ بالله- ولا يستغني. قَالَ الْقُرْطُبِيّ : ” ( وَمَنْ يَسْتَغْنِ ) أَيْ بِاَللَّهِ عَمَّنْ سِوَاهُ , وَقَوْله ( يُغْنِهِ ) أَيْ فَإِنَّهُ يُعْطِيه مَا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ السُّؤَال ، وَيَخْلُق فِي قَلْبه الْغِنَى ؛ فَإِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْس ” الفتح” ، وقال القاري في “المرقاة”: ” ( وَمَنْ يَسْتَغْنِ ) أَيْ يُظْهِرْ الْغِنَى بِالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ أَمْوَالِ النَّاسِ ، وَالتَّعَفُّفِ عَنِ السُّؤَالِ ، حَتَّى يَحْسَبَهُ الْجَاهِلُ غَنِيًّا مِنَ التَّعَفُّفِ( يُغْنِهِ اللَّهُ ) أَيْ يَجْعَلْهُ غَنِيًّا ، أَيْ بِالْقَلْبِ ” ، فمن استغنى عن غيره أغناه الله ، فهذا الخلق ينبغي للإنسان أن يحافظ عليه ، بأن يستغني عن كل الناس ، وقد بايع الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على أن لا يسألوا الناس شيئاً ، فكان الرجل يسقط منه سوطه من على بعيره فينزل ويأخذه ، ولا يقول يا فلان ناولني السوط ، لأن السؤال مذلة ، فإذا استغنيت بما أعطاك الله عن غيره فإن الله يغنك ،
أيها المسلمون
ثم نأتي إلى قوله صلى الله عليه وسلم : (وَلَنْ تُعْطَوْا عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ ) :أي: ما من الله على أحد بعطاء من رزق، أو غيره؛ خيراً واوسع من الصبر؛ لأن الإنسان إذا كان صبوراً تحمل على كل شيء، فإن أصابته الضراء صبر، وإن أعرض له الشيطان بفعل المحرم صبر، وإن خذله الشيطان عن ما أمر الله صبر. فإذا كان الإنسان قد من الله عليه بالصبر؛ فهذا خير ما يعطاه الإنسان ، وأوسع ما يعطاه، ولذلك تجد الإنسان الصبور لو أوذي من قبل الناس، أو سمع منهم ما يكره، أو حصل منهم اعتداء عليه، تجده هادي البال ، لا يتصلب ، ولا يغضب، لأنه صابر على ما ابتلاه الله به؛ فلذلك تجد قلبه دائماً مطمئناً ، ونفسه مستريحة. قال القاري :” وَذَلِكَ لِأَنَّ مَقَامَ الصَّبْرِ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ ؛ لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِمَكَارِمِ الصِّفَاتِ وَالْحَالَاتِ ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ أَوْسَعَ : أَنَّهُ تَتَّسِعُ بِهِ الْمَعَارِفُ ، وَالْمَشَاهِدُ ، وَالْأَعْمَالُ ، وَالْمَقَاصِدُ ” “مرقاة المفاتيح” ، وقال ابن بطال :” أرفع الصابرين منزلة عند الله من صبر عن محارم الله ، وصبر على العمل بطاعة الله ، ومن فعل ذلك فهو من خالص عباد الله وصفوته ،
الدعاء