خطبة عن (اتَّقُوا الشُّبُهَاتِ)
فبراير 22, 2024خطبة عن (استقبال شهر رمضان)
فبراير 25, 2024الخطبة الأولى ( يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِي قَالَ « أُمُّكَ »)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
في الصحيحين البخاري ومسلم: (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ «أُمُّكَ». قَالَ ثُمَّ مَنْ؟، قَالَ «أُمُّكَ» . قَالَ ثُمَّ مَنْ ؟، قَالَ «أُمُّكَ» . قَالَ ثُمَّ مَنْ؟، قَالَ «ثُمَّ أَبُوكَ»
إخوة الإسلام
موعدنا اليوم -إن شاء الله- مع هذا الهدي النبوي الشريف، والذي يرشدنا فيه صلى الله عليه وسلم إلى بر الوالدين ، والإحسان إليهما، وحسن رعايتهما وصحبتهما .فبر الوالدين فريضة لازمة، وواجب محتم، وعقوقهما حرام وذنب عظيم، وقد جعل الله تعالى برهما قرين توحيده وعبادته، وبيَّن ما يجب لهما وما لا يحل فعله معهما. وقد جاءت الوصية بالوالدين عموماً وبالأم خاصة في القرآن الكريم ، وذلك في قوله تعالى : {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (14) لقمان. وقوله تعالى : {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } (15) الأحقاف. فبين الله سبحانه تعالى في الآيتين أسباب وحيثيات التوصية لجانب الأم، فذكر القرآن الكريم متاعب الأم بالنسبة للولد من حيث قيامها بحمله مدة الحمل، وهي امرأة ضعيفة، تتعب من هذا الحمل الذي يستمر لشهور عديدة، ثم بعد تلك المعاناة من الحمل تضعه كُرهاً : أي بِكُرهٍ ومشقة، ثم بعد ذلك قامت بإرضاعه، وهذه الأمور قد حدثت في مرحلة لم يبلغ فيها الابن بعد مسألةَ الإدراك لما يحدث، فهي أمور غير منظورة للطفل، وبهذا لا يستطيع أن يدرك حجم المتاعب التي تتكبدها الأم في فترة الحمل والرضاعة، وما تبذله من جهد عظيم لرعايته في مرحلة طفولته المبكرة. فالأم هي مصدر الحنان والرعاية والعطاء بلا حدود، وهي المرشد إلى طريق الإيمان والهدوء النفسي، وهي المصدر الذي يحتوينا ليزرع فينا بذور الأمن والطمأنينة، وهي إشراقة النور في حياتنا، ونبع الحنان المتدفق، بل هي الحنان ذاته يتجسد في صورة إنسان ، أما فضل أبيه عليه فهو ظاهر له يعاينه ،فلذلك ذكره الله بفضل أمه عليه في الفترة التي لم يكن يعي فيها شيئاً. قال القرطبي: المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البر، وتقدم في ذلك على حق الأب عند المزاحمة؛ وقال عياض: وذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل في البر على الأب، وقيل: يكون برهما سواء، ونقله بعضهم عن مالك، ويؤيد القول بتقديم الأم ما أخرجه الحاكم وأبو داود (أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنِى هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي وَأَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنِّى فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي »..
أيها المسلمون
وبر الوالدين مقدم على الجهاد تطوعا، وعلى التطوع بالصلاة والصوم، لأنه واجب عيني، والتطوع بالجهاد أصله واجب كفائي. وبر الوالدين والاحسان إليهما يكون في حياتهما ، وبعد وفاتهما : ففي حياتهما يكون بالإحسان إليهما، والإنفاق عليهما إذا كانا محتاجين، والسمع والطاعة لهما في المعروف، وخفض الجناح لهما، وعدم رفع الصوت عليهما، والدفاع عنهما في كل شيء يضرهما إلى غير ذلك من وجوه الخير. وأما برهما بعد وفاتهما : فقد روى ابو داود وغيره : (عَنْ أَبِى أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ السَّاعِدِيِّ قَالَ بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِى سَلِمَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ بَقِىَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا قَالَ « نَعَمِ الصَّلاَةُ عَلَيْهِمَا وَالاِسْتِغْفَارُ لَهُمَا وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لاَ تُوصَلُ إِلاَّ بِهِمَا وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا ». فأوصاه الرسول صلى الله عليه وسلم بخمسة أشياء: الصلاة عليهما: الدعاء، ومن ذلك صلاة الجنازة فإنها دعاء، والصلاة عليهما: الترحم عليهما أحق الحق ومن أعظم البر في الحياة والموت. وهكذا الاستغفار لهما وسؤال الله أن يغفر لهما سيئاتهما، هذا أعظم برهما حيين وميتين. وإنفاذ عهدهما من بعدهما الوصية التي يوصيان بها، فالواجب على الولد ذكرًا كان أو أنثى إنفاذها إذا كانت موافقة للشرع المطهر. والخصلة الرابعة: إكرام صديقهما إذا كان لأبيك أو لأمك أصدقاء وأحباب وأقارب فتحسن إليهم، وتقدر لهم صحبة وصداقة والديك، ولا تنسَ ذلك بالكلام الطيب والإحسان إذا كانا في حاجة إلى الإحسان، وجميع أنواع الخير الذي تستطيعه، فهذا برهما بعد وفاتهما. والخصلة الخامسة: صلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وذلك بالإحسان إلى أعمامك وأقارب أبيك، وإلى أخوالك وخالاتك من أقارب أمك هذا من الإحسان بالوالدين، وبر الوالدين أن تحسن إلى أقارب والديك الأعمام والعمات وأولادهم، والأخوال والخالات وأولادهم، فالإحسان إليهم وصلتهم كل ذلك من صلة الأبوين ومن إكرام الوالدين ، وفي صحيح البخاري، عن ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا أَيَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ». قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِيَ الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا. والمِخراف اسم البستان، وسمي بذلك لأنه يُخرف ثمره، أي: يجنى. وفي صحيح البخاري كذلك عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا وَأُرَاهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ تَصَدَّقْ عَنْهَا».
أيها المسلمون
ومن نماذج بر الوالدين ما نقل لنا عن السلف الصالح وأحوالهم مع الوالدين : فهذا ابن مسعود رضي الله عنه طلبت أمه أن يسقيها ماء في بعض الليالي، فجاءها بالماء فوجدها قد ذهب بها النوم، فثبت عند رأسها حتى أصبح. ، وفي الآداب الشرعية، قال محمد بن المنكدر رحمه الله: “بتُّ أَغْمِزُ رجلي أمِّي وبات عمي يصلي فما سرني أن ليلته بليلته”. وحيوة بن شريح رحمه الله -وهو أحد أئمة المسلمين وفقهائهم- كان يجلس في حلقته ويأتيه الطلاب من كلّ مكان ليسمعوا عنه، فتقول له أمه وهو بين طلابه: قم يا حيوة أعلف الدجاج، فيقوم ويترك التعليم. وقال ابن عوف: دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه، فقال: ما شأن محمد؟! أيشتكي شيئًا؟! قالوا: لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه. وهذا أبو الحسن علي بن الحسين زين العابدين رضي الله عنهم كان من سادات التابعين، وكان كثير البر بأمه حتى قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة، فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها. وقال محمد بن سيرين: بلغت النخلة على عهد عثمان رضي الله عنه ألف درهم، فعمد أسامة بن زيد رضي الله عنهما إلى نخلة فاشتراها، فنقرها وأخرج جُمَّارها، فأطعمها أمَّه، فقالوا له: ما يحملك على هذا وأنت ترى النخلةَ قد بلغت ألف درهم؟! قال: إن أمي سألتني، ولا تسألني شيئًا أقدر عليه إلا أعطيتها. وعبد الله بن عون نادته أمه فعلا صوته صوتها، فأعتق رقبتين. وكان طلق بن حبيب لا يمشي فوق ظهر بيت وأمّه تحته إجلالاً لها وتوقيرًا. وبكى إياس بن معاوية حين ماتت أمّه بكاء شديدًا، فقيل له في ذلك فقال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فأغلق أحدهما، وحُقّ لعين بُكاها.
أيها المسلمون
وهذا البر مهما بلغ فلا يكافئ فضل الآباء على الأبناء، ففي الأدب المفرد للبخاري، شهد ابن عمر رضي الله عنهما رجلا يمانيا يطوف بالبيت وقد حمل أمه وراء ظهره وهو يقول: إني لها بعيرها المُذلَّل إن أُذعرت ركابها لم أُذعر ثم قال: يا ابن عمر أتراني جزيتها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة. والزَّفْرة: المرة من الزفير، وهو تردد النفس حتى تختلف الأضلاع، وهذا يعرض للمرأة عند الوضع ، وفي صحيح مسلم : ( عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « لاَ يَجْزِى وَلَدٌ وَالِدًا إِلاَّ أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ ».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِي قَالَ « أُمُّكَ »)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وإذا كان الاسلام قد رغب أتباعه وحثهم على بر الوالدين والاحسان إليهما ، فقد حذرهم أشد التحذير من عقوقهما ، والاساءة إليهما ، فعقوق الوالدين من كبائر الذنوب ، ومن المحرمات العظيمة، فالواجب الحذر منه، ففي الصحيحين : (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَقَوْلُ الزُّورِ » . أَوْ قَالَ « وَشَهَادَةُ الزُّورِ » ، كما ورد عن النّبي – صلّى الله عليه وسلّم – أحاديث تدلّ علة تعجيل عقوبة من كان عاقّاً لوالديه في الدّنيا، وذلك كما في الحديث الذي رواه البخاري في الأدب وصحّحه الألباني : (عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كل ذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا البغي وعقوق الوالدين أو قطيعة الرحم يعجل لصاحبها في الدنيا قبل الموت) ، وفي سنن أبي داود مرفوعاً: (مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِثْلُ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ)، ومن المعلوم أن من مظاهر عقوق الوالدين : أن يقوم الإنسان بإبكاء والديه، أو أن يدخل الحزن إلى قلبيهما بالقول أو الفعل، أو أن يتسبّب في ذلك. أن يقوم بنهرهما، أو أن يزجرهما، أو أن يرفع صوته عليهما، أو أن يغلظ القول عليهما، قال سبحانه وتعالى: (وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) الإسراء،23 . وأن يتأفّف أو يضجر من أوامرهما، وهذا من أمر الله عزّ وجلّ لنا، وعدم قول أفٍّ لهما أبداً، قال سبحانه وتعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) الإسراء،23 . وأن يعبس في وجهيهما، أو أن يقطب جبينه أمامهما، أو ينظر إليهما بنظرات حنق، أو أن يزدريهما ويحتقرهما. وأن يقوم بذمّهما أمام النّاس، ويذكر عيوبهما، ويقدح فيهما، أو أن يلقي باللوم عليهما في أمور حياته المختلفة. وأن يقوم بشتمهما ولعنهما، سواءً أكان ذلك بشكل مباشر أم من خلال التّسبب بذلك. وأن يثقل عليهما بالطلبات المختلفة، ولا يراعي وضعهما وحالتهما الماديّة، وما يمكن لهما أن يقدّماه له، وما لا يقدران عليه. وأن يتخلى عنهما حال كبرهما وعجزهما عن أداء أمور الحياة الأساسيّة. وأن يتبرّأ منهما، ويخجل من ذكرهما أمام النّاس
الدعاء