خطبة حول قوله تعالى (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ)
أغسطس 10, 2019خطبة حول معنى قوله تعالى (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)
أغسطس 17, 2019الخطبة الأولى ( مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الترمذي بسن صحيح : (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ ». وفي رواية للإمام أحمد في مسنده : (عَنِ الأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « إِنَّ أَشْكَرَ النَّاسِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَشْكَرُهُمْ لِلنَّاسِ »
إخوة الإسلام
الشكر خلق لا ينبغي أن يفارق المسلم أبداً، لأن غيابه أو اختفاءه من شخص ،يجلب له غضب الله وسخط الناس، فالاعتراف بالجميل ،وتقديم الشكر لمن يستحق الشكر ،سلوك راقٍ ،ومهذب، وهو يؤكد سمو نفس من يلتزم به ، ويحرص عليه، أما إنكار الجميل ،وجحود المعروف ،فهو يعبر عن سوء خلق من يفعله. لذلك كان اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضيلة الشكر والاعتراف بالجميل، لأنه من الأخلاق الرفيعة ، التي ينبغي أن يتخلق بها كل مسلم، ويحرص عليها كل إنسان سوي ، مستقر النفس ، وفاء لحق الله عز وجل، واعترافاً بفضل أصحاب الفضل من الناس، والشكر : هو مجازاة أو مكافأة على المعروف، وثناء جميل على من يقدم الخير والإحسان، وكل هذا من شأنه أن يحسن من علاقات الناس ،ويضاعف من عمل الخير بينهم، فليس هناك أقل في الجزاء على المعروف ،من الاعتراف بالفضل لأهل الفضل، والثناء على محسن إلينا ،بشكره ،أو ذكر إحسانه، والشكر على ثلاثة أنواع أو درجات: شكر بالقلب وهو تصور النعمة، وشكر باللسان وهو الثناء على المنعم، وشكر بسائر الجوارح وهو مكافأته بقدر استحقاقه. وفي هذا الحديث الذي تصدرت به هذه الخطبة ، قال الإمام الخطابي في شرحه له: « مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ »، قال :هذا يُتأول على وجهين: أحدهما: أن من كان طبعه وعادته كفران نعمة الناس وترك الشكر لمعروفهم، كان من عادته ، كفران نعمة الله تعالى وترك الشكر له. والوجه الآخر: أن الله سبحانه لا يقبل شكرَ العبد على إحسانه إليه، إذا كان العبدُ لا يشكرُ إحسان الناس ويكفر معروفهم” ،وقال الإمام الخطابي أيضاً: “هذا الحديث فيه ذم لمن لم يشكر الناس على إحسانهم. وفيه أيضا الحث على شكر الناس على إحسانهم ،وشكر الناس على إحسانهم يكون بالثناء عليهم وبالكلمة الطيبة وبالدعاء لهم”. فشكرُ من أحسنَ إليك مبدأٌ إسلاميٌ أصيلٌ، وهو يعتبر من مكارم الأخلاق، وإن من أحسن الشكر أن تقول لمن أحسنَ إليك: ”جزاك الله خيراً “، وقد ورد في السنة النبوية أحاديثُ كثيرةٌ تدل على ذلك منها: عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « مَنْ أَتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُوهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ » رواه أحمد وصححه الألباني ،وفي سنن الترمذي بسند حسن : (عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ ». والشكرَ لمن أحسن إليك يشملُ المسلم وغير المسلم أيضاً ، فإذا صنع لك معروفاً، فاشكره بلفظٍ مناسبٍ لحاله كقولك شكراً، أو أشكرك، أو نحو ذلك. فقد قيل لسعيد بن جبير رحمه الله: المجوسي يوليني خيراً فأشكره، قال: نعم. وقال العلامة العثيمين عن شكر غير المسلمين: “إذا أحسن إليك أحدٌ من غير المسلمين، فكافئه، فإن هذا من خلق الإسلام، وربما يكون في ذلك تأليفٌ لقلبه فيحب المسلمين فيسلم”.
أيها المسلمون
فينبغي للمؤمن أن يشكر من أحسن إليه ، فيشكر الله تعالى على ما أنعم وأحسن إليه ،قال الله تعالي: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (14) لقمان ،وشكر الله تعالى يكون بطرق ووسائل وأحوال متعددة ، ومنها : أولا : بذكر النعم التي أنعم الله بها علينا، ومنها: نعمة الحياة، ونعمة الصحة، ونعمة القدرة على العمل والإنتاج، ونعمة السمع والبصر، ونعمة العلم، ونعمة حب الناس، ونعمة التعايش مع الآخر، ونعمة الأمن ،.. فنعم الله لا تعد ولا تحصى ، ومنها ما نعلم ومنها ما لا نعلم.. قال الله تعالى :(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (18) النحل وقال الله تعالى : {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل 53] ، وفي صحيح مسلم : (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا ». كما علمنا صلى الله عليه وسلم أن نسجد لله سجدة شكر إذا ما حدث لنا شيء يسر، أو إذا عافانا سبحانه وتعالى من البلاء، قال عمر بن عبدالعزيز عن الشكر: «تذكروا النعم فإن ذكرها شكر». ثانيا : وشكر الله يكون بالعمل بواسطة: القلب، واللسان، والجوارح: فشكر القلب : قصد الإنسان الخير في كل عمل يقوم به، وأن يضمر الخير للخلق كافة. وشكر اللسان جعل اللسان رطباً بالحمد والثناء وذكر النعم. وشكر الجوارح – كاليد والرِّجل والعين واللسان..- استخدامها فيما يجلب رضاء الله ومحبته: { وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة 9] ، فشكر الله إنما يتحقق بالعمل لا بمجرد القول، فنعمة المال تقتضي الجود به في مواطن الجود والإحسان، ونعمة الصحة تقتضي بذل الطاقة والقوة فيما ينفع الناس، ونعمة الحياة كذلك، ونعمة العلم كذلك، ومن تقاعس عن شكر النعمة أو عصى الله بها ،فهو متعرض لأن يجرده الله منهما، { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} إبراهيم 7
أيها المسلمون
فالله عز وجل نهي الناس عن أن يكفروا نعمة ويستروها ويكذبوا بها، ومن كُفر النعمة أن تجحد فضل أصحاب الفضل عليك؛ فكيف يكون شكر الناس؟ أولاُ: شكر الناس يعني: التحدث بحسنات الناس مهما كانت ،ودفن أخطاء الناس ما دامت لا تنزل الضرر بالآخر، وهذا من معاني قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين :( وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » ،ثانياً: شكر الناس يكون بالدعاء لهم ، ففي مسند البزار : (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ : (جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ) . وشكر الناس يزيد في قوة الترابط بينهم، وفي معرفة إمكانيات بعضهم، فينتشر بينهم الاحترام والتقدير والأمن والاستقرار. وشكر الناس دلالة على خلو القلب من أمراض الحسد والرياء والتنافس الفاسد تماما وشكر الناس حق من حقوقهم عليك. وشكر الناس ينزلهم منازلهم ويجعل الود والحب والتقدير شعارا للتعايش السليم مع الجميع، ونحن أحوج ما نكون لهذه الأمور إذ الشيطان أنفه طويل هنا.
أيها المسلمون
وأولى الناس بالشكر : هما الوالدان ، فالمسلم مطالب شرعاً بعد شكر الله عز وجل على نعمه الكثيرة والوفيرة بشكر الوالدين، حيث قرن الله عز وجل في القرآن الكريم الشكر له بالشكر للوالدين ،قال الله تعالي: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (14) لقمان ، فالمسلم يقدم شكره لوالديه بطاعتهما، وبرهما، والإحسان إليهما، والحرص على مرضاتهما ، وعدم إغضابهما. فأبسط صور شكر الوالدين هو البر بهما والإحسان إليهما ورد الجميل إليهما بكلمات رقيقة، ورعاية دائمة، وعطف وحنان ورحمة، وأبشع ما نراه في سلوك الأبناء هو الجحود ونكران الجميل، فيكون التمرد على آبائهم، فالعقوق منتهى الخسة والنذالة، والإنسان الخسيس نادراً ما يعترف بجميل أحد، ونادراً ما يوجه الشكر لأصحاب الفضل عليه، بل هو لا يشكر خالقه، فما بالنا بالمخلوقين؟! فعلى كل ابن عاق لوالديه أن يسارع بتوبة صادقة، فباب التوبة مفتوح لكل الأبناء، فالخالق رحيم بكل من يراجع نفسه ،ويتوب توبة نصوحاً، فيتوب الله عليه، ويرفع عنه عقابه، ويعفيه من العذاب الأليم الذي قدره الخالق بعدله لكل ابن يعوق والديه.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
والشكر ثمار كثيرة، فمن يقوم بواجب الحمد والشكر لله ، وللناس ، يضمن المزيد من النعم في الدنيا، والمكافآت الإلهية في الآخرة، فضلاً عن أنه يأمن عذاب الله وعقابه، قال الله تعالى : (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) (147) النساء ،وقال الله تعالى : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (7) إبراهيم ،فالمسلم الحق هو الشاكر لربه طوال الوقت، في صلاته يشكر، وعند تناول طعامه يشكر، وفي السراء والضراء ليس أمامه إلّا الرضا بما قدره الله ، والشكر على النعم ،والصبر على البلاء والمحن.
أيها المسلمون
فلا يليق بالمسلم الذي تخلق بأخلاق الإسلام أن يكون جاحداً لنعم الله الكثيرة والوفيرة عليه، أو منكراً لفضل الوالدين اللذين جعلهما الله سبباً في وجوده، أو لفضل أصحاب الفضل من الناس ، ولهذا فقد ربط رسول الله صلى الله عليه وسلم بين شكر الناس ،وشكر الله ،من خلال قوله الشريف: « مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ »،فهذا يؤكد أن قيمة الشكر لها منزلة كبيرة وأهمية بالغة لدرجة أنها إذا لم تتحقق في علاقات الناس بعضهم مع بعض فإنها بالتالي لا تتحقق في علاقة الإنسان بالله، فالشكر الذي هو مقياس الأدب والأخلاق والاحترام بين الناس، ويقبل كل إنسان على تقديم المعروف والإحسان إلى الآخرين من دون أن ينتظر منهم شكراً أو اعترافاً بالجميل. وهو فضيلة تجلب لصاحبها كثيراً من المنافع ومزيداً من التقدير والاحترام، وهي لا تكلفه شيئاً سوى كلمة طيبة، لكن لها أثرها العميق في النفوس. فما أحوجنا إلى أن نتخلق بهذا الخلق العظيم فنشكر الله على أنعمه كما نشكر الوالدين على ما قدما لنا من عطاء لا ينضب أبدا ، ثم نقدم الشكر والعرفان لكل من أحسن إلينا، أو قدم لنا معروفاً، فالاعتراف بالجميل واجب إسلامي.
الدعاء